2024/05/09 | 0 | 1146
ناصر الجاسم.. في مجموعته القصصية «العبور».. القاص المسكون بهاجس من ذاكرته الشعبية.
اليمامة
في عالم متحول بشكل دراماتيكي نحو الفضاء الحداثي بمظهريه - المادي والفكري - تصبح الرواية أو القصة
ضرورة ثقافية؛ باعتبار أن ما قد مضى من ثقافة ومورث اجتماعي قد ارتحلا إلى التاريخ، كمواد تراثية توجب أرشفتها وحفظها. وحقيقة تلك الثقافة ودورها يكمن في أن «البشر يواجهون الحياة بما لديهم من موروثات ثقافية، وبهذه الموروثات ومعها يغيرون حياتهم ويتغيرون». والسرد في بعده التوصيفي؛ وطبيعته في الكشف عن التفاصيل، والتفاتته إلى ما يعتلج في الصدور من مشاعر وأحاسيس، يصبح مؤهلاً لإعادة تصوير الحياة السالفة بأسلوب يفوق أي جهد تدويني مباشر، أو بحث أنثروبولوجي. فهو يذهب بشكل تفضيلي إلى الإنسان، ويكشف عن عواطفه وهواجسه عند تفاعله مع قضايا الحياة ومشاكل الوجود. ومن خلال المخزون الثقافي للقاص، وشهادته على زمن ماضٍ كان هو جزء منه، يستطيع الإبحار عبر ذلك الموروث، مستعرضاً حكاياته المثيرة ونمط العيش وأسلوب الحياة المغاير والمختلف عن الزمن الحالي.
وفي هذا السياق الثقافي، ومن خلال الممارسة الأدبية، نجد أن القاص ناصر الجاسم قد استشعر مبكراً خطر تلاشي تلك الذاكرة الشعبية التي عصفت بها متغيرات شملت البنى الفكرية والاقتصادية والثقافية، ودفعت بالفرد المعاصر إلى أن يتشارك الأسلوب الحياتي الحديث مع العالم، وخارج نطاق مدى قريته أو مدينته. وهي تغييرات طالت كل مناحي حياته، وكانت من القوة بحيث أدت إلى تغيير جذري في نواح عدة، هددت وجوده وإبدال هويته.
لهذا كان ناصر الجاسم، وما زال، وفي أغلب مواضيعه السردية التي احتوتها تسع مجموعات قصصية، وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاماً، يسعى جهده للحفاظ على تلك الذاكرة الثقافية الشعبية، بما احتوته من قيم ومعتقدات؛ وبإعادة تصويره للحياة السابقة ونقل هيئتها للأجيال القادمة، بأسلوب سردي آسر، يكتسيه الحنين.
ومن موقع مولده وبيئته في الأحساء، حظي القاص الجاسم بميزة فريدة لتنوع مواضيعه السردية؛ وذلك بحكم أن مدينته “العيون”، تقع في الطرف الشمالي من الواحة. تجاورها الجبال بكهوفها الأسطورية من ناحية الغرب، والصحراء الممتدة اتجاه البحر من الشرق. وفي جنوبها تمتد غابات النخيل. ففي هذه البقعة من الجغرافيا، وعى الطفل ناصر ذاته مبكراً. ترصد للحكاية وفتح منظور روحه على أشكال الحياة التي كانت بسيطة. أفزعته التبدلات السريعة في الأنماط والسلوك والثقافة بمجملها. تشبث بباقي عبقها، وما قبض عليه كان جديراً بالبوح.
قارب العادي والبسيط في حياة الأفراد المهمشين، وجذبه الجانب “الميثي” أو الأسطوري، وأيضاً الغريب من الممارسات والمعتقدات. حضرت الحياة الريفية بجانب البدوية في حكاياته، وأيضاً ابن المدينة في بداية اتصاله الحضاري وعمله في شركات النفط.
ففي مجموعته القصصية “العبور” على سبيل المثال، نجد هذا التنوع بوضوح، وبتفعيل القراءة فيها، نكتشف أن هذه البيئات الثلاث قد اندمجت، ثم تبرعمت فيما بعد إلى ثلاث “ثيمات”: المرأة، والتبغ، والخوارق العجائبية.
عن المرأة، يمكنك أن تكتشف الثبات في رؤية السارد عنها بالرغم من تعدد شخصيات ومواضيع الحكايات. فسارد حكاياته يقول في إحدى القصص: «الرجال يا سيدي متى بدأوا التعلق بالأنثى وأظهروا لها ذلك أوشكوا على السقوط في بئر الشعر فيجب عليهم عندئذ أن يطفحوا شعراً حتى يرتقوا من قاع البئر ويستطيعوا تقبيل أنثاهم بقصيدة غزل قافيتها ذل في الشطر الأول وهوان في الشطر الثاني».
وعن “السجائر” تجد أنه يرمز بها ويوظفها لتعبر عن القلق وآلية للتنفيس عنه: «التدخين والنظر إلى رماد السجائر ولفظ الألم وتنفس الوهم من عادات الطموحين». وفي معنى آخر، يجعل من تلاشي الحياة في حالة تماثل مع السيجارة عند اشتعالها ثم انطفاء شعلتها. بل يعلو من شأن السيجارة مقارنة بحياة الإنسان، وهو لون من نسيج العدمية والتشاؤم: «سجائر منكسة وأخرى ممددة.. رؤوسها سوداء ميتة.. ماتت بطريقة عصيبة.. ارتعش فيها الإصبع الضاغط على مؤخرتها.. قاومت الموت طويلاً كما هي نفسه الآن.. كانت تفر برأسها الأحمر المبعثر عن الموت لتنتقم لنفسها إلا أنه ظل يلاحقها بعيونه وإصبعه ليتأكد من موتها.. قال لنفسه: السجائر تموت في مقابر أنيقة مصنوعة من زجاج، وتدفن مع زميلاتها وإن ساء حظها في الموت ماتت تحت وطأة قدم في شارع قذر أو غرقاً في مستنقع مكشوف.. أما البشر فيموتون في أوضاع مخجلة وبشعة وعادية ويدفنون فرادى وإن كان حظهم جيداً في الموت ماتوا صائمين أو نائمين أو مجاهدين..».
وأحياناً يوغل في السوريالية فيتخذ من السجائر استعاراته وكناياته عن الرغبة في الأنثى: «سارا.. أيتها الباطل العذب والعار الجميل.. لفي التبغ بجلدي الذي خرجت منه ودخنيه.. أعلم أنك لا تدخنين كغانية في مقهى ليلي ولكني هذه المرة أنا الذي أقدم لك...».
أما “العجائبيات”، فيتخذ عند مواضيعها السارد؛ صفة “الشامان” أو الساحر: «أيها العراف البليد.. خذ قطعة من ملابسها بها شيء من عرقها واكشف لي بسؤال قرينها عن مكانها البعيد، لقد جئتك مقهوراً من قراءة الشعر ووجدتك مغرماً بقراءة الطلاسم والتعاويذ.. فأي قدر ساخر قادني إليك.. لا تحفل بشتائمي إنها شيء قليل.. ابدأ عملك باسم الشيطان الرجيم..».
فهذه الثيمات الثلاث، مترابطة دوماً في أغلب قصص المجموعة، وأوضحها هما التبغ والعجائبية؛ وذلك عندما يخبرنا ميشال بيران في كتابه “الشامانية فلسفة حياة” عن “تعميدة” سحرية، لشامان من “ياغوا”، ورد فيها: «وأخيراً ستعرف التبغ، إنه طريق الأرواح وغذاء العقول، على التبغ أن يدخل جسدك. وعليك أن تجعل منه حليفك وهو سيقودك حيث تريد ويجعلك ترى..». ناصر الجاسم أرانا من خلال قصص مجموعاته أشكال الحياة “القديمة” التي لم يختبرها جيلنا المعاصر، وأعاد تصويرها بحذق ومهارة.
جديد الموقع
- 2024-11-18 مؤشرات حيوية على شيخوخة الدماغ: دراسة وصل متوسط مدتها إلى 20 عامًا
- 2024-11-18 نادي الخزامى المعرفي بالجشه يقيم قانون الجذب في التربيه
- 2024-11-17 أنا وأنتِ والنظرة الأخيرة
- 2024-11-17 تحت عنوان (تزهو الفيصلية بفتياتها) نسائي بر الفيصلية ينظم حفلا ترفيهيا للمتفوقات
- 2024-11-17 التأثير القوي لحليب الأم في صحة الرضيع
- 2024-11-16 أنت مثلي مقصر معهم؟
- 2024-11-15 كثير من الأطفال الرضع يتعرضون لاحتمال الاختناق والوفاة بسبب نوم أمهاتهم أثناء الإرضاع
- 2024-11-15 أمي لآخر عمري
- 2024-11-15 الصورة الإيقاعية في ديوان «مشاؤون بأنفاس الغزلان»
- 2024-11-15 عقد قران الشاب / عبدالله بن علي بن يوسف البطيان تهانينا