2019/12/24 | 0 | 5906
حسن الخلق ـ 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾. [طه: 25 – 28].
عن الإمام علي (ع) أنه قال : «إن الله عز وجل جعل محاسن الأخلاق وصلة بينه وبين عباده، فحسبُ أحدكم أن يتمسك بخلق متصل بالله تعالى». [نزهة الناظر، الحلواني: 52.].
لا زال الكلام حول هذا الحديث المبارك الوارد، وبلغ بنا المقام في الأسبوع الماضي إلى دور الأخلاق في حياة الإنسان وتطرقنا إلى الشعور بالسعادة ومحبة الناس والسعة في الرزق والرفعة في الدرجة في الآخرة.
وفي هذا الجمعة نتحدث عن دور الأخلاق على الصعيد الاجتماعي، فمما لا شك فيه أن هذه الحياة مرت فيها مجتمعات وأمم سابقة، منها ما بقي ومنها ما اندثر، ولكن التاريخ ثبّت لنا الأسباب التي جعلت بعض الأمم تنتهي وتزول وتضمحل وتندثر، وكذلك الأسباب التي جعلت بعض الأمم تبقى وتستمر ولا زالت. وهذه الأسباب بمجملها تعود للتمسك بالقيم، فبعض المجتمعات بطرت وانحرفت عن القيم الإنسانية فزالت، وهناك بالمقابل أمم فعلت العكس فبقيت. قال الشاعر:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
والقرآن الكريم ذكر بعض الشواهد، كما في قوم لوط، الذين نزلت بهم العقوبة من السماء لأنهم انحرفوا عن القيم والأخلاق الإنسانية.
عن الإمام علي (ع) : «واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المَثُلات، بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم». [نهج البلاغة: 296. صبحي الصالح. ].
فسوء الفعل والخلق إذا وقع في الأمم وانتشر، لن يمر بسلام، فقد يتبعه القحط أو الزلازل أو الأمراض أو أنواع العقاب الشامل الظاهر. فلتحذر الأمم تلك العواقب. نعم، لا تزول هذه الأمة بالكامل ببركة رسول الله (ص) وأهل بيته (ع) ولكن العقاب لا يؤمن بأي شكل من الأشكال.
فنحن بحاجة للأخلاق في كل مجال وعلى كل صعيد، والإنسان بحاجة للخلق مع ربه وأهله وأسرته ومحيطه الاجتماعي، فهي مرتبطة به وجزء من كيانه في جميع المجالات.
ففي الزواج أول ما يلحظ في الزوج أو الزوجة هو الجانب الأخلاقي، قال رسول الله : «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه». [عوالي اللألئ، ابن أبي جمهور الأحسائي3: 340.]. فالدين وحده إذا كان متكاملاً فهو يمثل الأخلاق، ولا دين بلا خلق، ولكن الحديث ناظر للأخلاق بشكل خاص، فعطفَ الخاص على العام، ولكن الملازمة بين الدين والخلق لا تخفى.
ولعل الحديث ناظر لمسألة مهمة أخرى، وهي أن الدين يكون لدى البعض عبارة عن عبادات وطقوس ظاهرية، ولكنه على مستوى الخلق ضعيف، بل لا خلق له. وهذا النمط من الناس موجود بيننا ومعروف. ولذلك يركز النبي (ص) على موضوع الخلق بشكل واضح لخصوصيته وأهميته، لا أن الدين شيء والخلق شيء آخر.
وكذلك في العلاقات التجارية، لا بد من وجود عامل الأخلاق. فقد ورد في الحديث الشريف: «كل ذي صناعة مضطر إلى ثلاث خصال يجتلب بها المكسب، وهو أن يكون حاذقاً بعمله، مؤدياً للأمانة فيه، مستميلاً لمن استعمله». [تحف العقول، الحراني: 322.]. وهذا ما نلاحظه في واقعنا المعاش، فالتاجر صاحب الخلق الرفيع يجذب الزبائن إليه، بخلاف من لا خلق عنده من هذا النوع.
أما في الطريق والسوق فهنالك ضوابط للخلق الرفيع أيضاً، ومنها كيفية المشي، وكيفية النظر، قال تعالى : ﴿وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً﴾. [الفرقان: 63.]. وقال: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾. [لقمان: 19.].
وهنا يرد سؤال مهم بخصوص إمكانية تغيير الأخلاق نحو الأحسن، فقد يسأل بعض الناس: هل أستطيع أن أغير من أخلاقي نحو الأحسن؟
ولكن السؤال قبل هذا: هل أن الإنسان وجد منذ وجد وهو سيّئ الخلق؟ الجواب: أن الإنسان يولد على الفطرة، وهي قاعدة متسالم عليها، والفطرة هي عبادة الله تعالى بكل ما تجرّه من خلق حسن، إلا أن أبويه يهودانه أو ينصرانه. فالعادات السيئة تُكتسب إما من البيت والأسرة، أو من البيئة بشكل عام، فيكون سيّئ الخلق.
فمن سلك سلوكاً غير مقبول فهذا السلوك اكتسابي، وبإمكانه أن يغيّره فيعود لفطرته. ولذلك أرسل الله الرسل والأنبياء وأنزل الكتب السماوية، وهذا لوحده دليل على أن الإنسان يستطيع أن يخرج من دائرة الانحطاط إلى دائرة الرفعة والسمو. فالأنبياء والرسل جاؤوا لإنقاذ هذه الأمم، وجعلها تسير وفق ما تفرضه الفطرة الإنسانية عليها، وأن تعيدها لما هي عليه من فطرة، فتعيش الفضيلة ومكارم الأخلاق. وقد رحم الله تعالى هذه الأمة بأن جعل فيها بعد النبي محمد (ص) اثني عشر إماماً من آل محمد (ع) لمواصلة مسيرة الرسالة زمناً طويلاً.
فالإنسان إذن يستطيع أن يغير سلوكه وخلقه، ولكن بشرط توفر العزيمة والإرادة لكي يصل الإنسان إلى الدرجات العليا في الأخلاق.
عن رسول الله (ص) : «إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلّم». [مجمع الزوائد، الهيثمي1: 128.]. وفي الحديث أيضاً: «تَخَلَّقُوا بأخلاق الله». [بحار الأنوار، المجلسي58: 129.]. وهي الأخلاق التي أدب بها الله نبيه (ص) الذي يقول: «أدبني ربي فأحسن تأديبي». [شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي11: 233.]. وهل هنالك من هو أفضل من رسول الله (ص) في الأخلاق والقيم الحسنة؟ قال تعالى : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ﴾. [القلم: 4.]. وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثيراً﴾. [الأحزاب: 21.].
ومن الطبيعي أن من أراد أن يتخلق بأخلاق الله، فلا بد أن يتمسك بسيرة وأخلاق رسول الله (ص) الذي نعيش ذكراه. فهو صنيعة الباري جل وعلا، ومن تخلق بأخلاق رسول الله (ص) فقد تخلق بأخلاق الله تعالى.
والأمر الثاني هو العمل بالقرآن الكريم، فمن أراد أن يرتقي في درجات الكمال الأخلاقي فلا بد أن ينطلق من هذا المنطلق، وهو تلك التعاليم الإلهية الأخلاقية القرآنية.
أما الأمر الثالث فهو الاقتداء بأهل البيت (ع) وهو فرع الاقتداء بالنبي (ص) لأنهم نور واحد، وهم النموذج الأكمل في هذه الحياة الدنيا.
فهذه السبل الثلاثة مع الإرادة والعزيمة تخلق المعجزة في التغيير الجذري، ليرتقي الإنسان إلى ما يريده.
عن الإمام علي بن أبي طالب (ع) قال : «قد ركزت فيكم راية الإيمان، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام، وألبستكم العافية من عدلي، وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي، وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي». [نهج البلاغة: 120].
فقد تجسدت الأخلاق في أمير المؤمنين (ع) ولهذا استطاع أن يفعل ما لم يستطع غيره أن يفعله، إلا رسول الله (ص). فالكثير ممن كان يحيط برسول الله (ص) لم يكن يعي ما يقول رسول الله (ص) ولكنه تأثر بأخلاقه، وكذلك من كان بالقرب من علي (ع). وقد تقدم في خطبة سابقة الإشارة إلى أن هنالك الكثير ممن دخل الإسلام وتمسك به كان سبب دخوله أخلاق رسول الله (ص).
فمن الوقائع التي ينقلها الأئمة (ع) عن رسول الله (ص) ما ذكره الإمام الباقر (ع) قال : «دخل يهودي على رسول الله (ص) وعائشة عنده، فقال : السّام عليكم. [والسام: الموت]. فقال رسول الله (ص): عليكم. ثم دخل آخر فقال مثل ذلك، فردّ عليه كما رد على صاحبه. ثم دخل آخر فقال مثل ذلك فرد رسول الله (ص) كما رد على صاحبيه. فغضبت عائشة فقالت : عليكم السّام والغضب واللعنة يا معشر اليهود، يا إخوة القردة والخنازير. فقال لها رسول الله (ص) : يا عائشة، إن الفحش لو كان ممثَّلاً لكان مثالَ سَوْءٍ. إنَّ الرفق لم يوضع على شيء قطّ إلا زانه، ولم يُرفع عنه قط إلا شانه. قالت : يا رسول الله، أما سمعت إلى قولهم : السَّامُ عليكم؟ فقال: بلى، أما سمعت ما رددتُ عليهم؟ قلت : عليكم، فإذا سلم عليكم مسلمٌ فقولوا سلام عليكم، وإذا سلم عليكم كافر فقولوا عليك». [الكافي، الكليني2: 648.].
ومما يروى عن أمير المؤمنين (ع) ما رواه عبد الله بن شريك قال : خرج حُجر بن عدي، وعَمرو بن الحمق، يُظهران البراءة واللعن من أهل الشام، فأرسل إليهما علي : «أن كُفّا عما يبلغني عنكما»، فأتياه فقالا : يا أمير المؤمنين ألسنا محقين؟ قال : «بلى» قالا: أَ وَليسوا مبطلين؟ قال: «بلى»، قالا: فلم منعتنا من شتمهم؟
قال : «كرهت لكم أن تكونوا لعّانين شتامين، تشتمون وتتبرؤون ولكن لو وصفتم مساوي أعمالهم فقلتم : من سيرتهم كذا وكذا، ومن عملهم كذا وكذا، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، ولو قلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يَعرف الحقَّ منهم من جهله، ويرعوى عن الغي والعدوان من لهج به، كان هذا أحب إلي وخيراً لكم» فقالا: يا أمير المؤمنين، نقبل عظتك ونتأدب بأدبك...». [وقعة صفين، نصر بن مزاحم المنقري: 103.].
هذه نبذة عن أخلاق النبي (ص) وأمير المؤمنين (ع)، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
جديد الموقع
- 2024-11-23 جمعية الكشافة تُشارك في الاحتفاء باليوم العالمي للجودة
- 2024-11-23 العرابي يتوّج في الاحساء بطلاً للجولة الثالثة والأخيرة لمنافسات بطولة السعودية تويوتا الدرفت 2024
- 2024-11-23 الفتح يتصدر ترتيب الأندية في الدوري المشترك للبلياردو
- 2024-11-23 ذاكرة القلم
- 2024-11-23 الأدلجة السلوكية
- 2024-11-23 في يومين : الأدباء الشباب في ضيافة ابن المقرب
- 2024-11-23 أفراح الملفي و الفليو تهانينا
- 2024-11-22 عادات قرائية مفيدة
- 2024-11-22 مع أن الأديان تتحدث عن قيمة التواضع الفكري، لكن قد يصعب على رجال الدين بشكل خاص تطبيق ما يدعون إليه الناس
- 2024-11-22 يرجع الفضل في استمرارك في تذكر كيف تركب دراجتك الهوائية إلى منطقة المخيخ في دماغك.