2024/05/30 | 0 | 1108
البحث الدائم عن خبرة الحواس.
اليمامة
لا بد من المدينة كي تزهر الذاكرة , الشرط الإبداعي الأقوى حين تنهض الذاكرة بوصفها انثيلات وصور , لا يشدها سوى الرغبة بالأحاسيس التي افتقدناها منذ براءة الطفولة . وكأن الشدّ هو امتياز المبدع , يغذي بصيرته كلما ارتخت عضلات الذاكرة, وغامت الصور في متاهة من النسيان بأثر من الحياة اليومية الاستهلاكية. لا بد من المدينة كي تختبر الحواس.
الفضاء الذي تختبر فيه لا ينقاد إليك بسهولة.سوف تظل تجرب طرقا عديدة,ربما تسعفك ذكريات منفلتة من الطفولة, وربما لا تجد طريقك أيضا.
البحث الدائم عن الأبواب السرية المفضية إلى خبرة الحواس , هو بحث في العمق عن المدينة.
لكن بأي معنى يكون البحث؟!
لم أدرك يوما ما معنى الحس التراجيدي الذي يسيطر على الشعور لحظة الكتابة الإبداعية إلا حينما وعيت الحقيقة التالية: المدينة التي ترتبط بجسدك , هي غيرها المدينة التي ترتبط بروحك ومشاعرك , وكلما حاولت وصل الواحدة بالأخرى, اصطدمت بصخرة هذا الحس المرعب.
هنا تنهض الكتابة بوصفها استثمارا وتوظيفا لإفرازات تلك المحاولة. ولكن هل ثمة فصل بين الاثنين؟ لا ليس ذلك تماما.بل الفصل الذي نعنيه يأتي من كوننا منساقين بالضرورة إلى تصورات خلقناها في أذهاننا عن أماكن , ربما لم تتجاوز المخيلة.أو ربما تكون ذكرى لمدينة عابرة في الحياة أثرت دون أن نشعر بها , وتركت جرحا غائرا في الروح , لا نكتشفه إلا لا حقا مع عالم الكتابة.وهذا الاكتشاف كلما استحوذ على تفكيرنا تكون ملامح المدينة التي نرغب بها قد اكتملت , وظهرت تفاصيلها على سطح الكتابة دون أن نشعر بذلك.من هنا تتشكل خيوط الحس التراجيدي بين ما تعيشه جسديا في مدينة أنت لا تنتمي لها روحيا , وبين العكس.
ليس بالضرورة المدينة تعني للمبدع هذا الفضاء الواسع فقط. لكنه يعني مجرد بيت أو ذكرى صديق , أو امرأة عابرة في مكان عابر.
إن هذه المصادفات الصغيرة في الحياة هي محفزات للحواس وللمخيلة , وهي تكبر معك , وتضرب بقوة للخروج كلما اقترب عالمك الإبداعي منها.
والغريب أن المبدعين تكاد تجاربهم تتساوى بهذا الخصوص, وشعورهم بهذه المصادفات التي تعزز موقع المكان في مخيلتهم هو شعور متساوق.
لذلك عندما تتأمل خريطة المبدعين العظماء تكتشف على سبيل المثال الموقع المهم للبيت في آدابهم : بيت دوستويفسكي في سانت بطرسبورغ, وأثره العميق على مجمل رواياته.بيت الشاعر لوركا , بيت توماس مان في فيلدافينغ، بيت فرناندو بيسوا في لشبونة، وبيت لورنس داريل في الإسكندرية، وبيت كافافيس في الإسكندرية.
ولا ننسى فضاء المقاهي في روايات نجيب محفوظ.إذن نحن مشدودون لتلك العوالم , خصوصا ما يتصل منها بالطفولة , هي الأوقع والأكثر أثرا في حياتنا كمبدعين. قد نكتشف عوالم ومدن متعددة في حياتنا كأفراد , وقد تتراكم في ذاكرتنا العديد من الصور التي تنطبع عن هذه المدينة أو تلك . لكنها بالكاد تنبعث مرة أخرى في عالم الكتابة.
وما لا يمكن تفسيره في ظني هو أن تتحكم فيك لحظة واحدة تأتيك من عالم الطفولة , وتسد عليك منافذ الحواس جميعها , بحيث لا ترى سواها , وتكون قريبة من يدك وذهنك لحظة الكتابة.هذا هو السر في ارتباط كل منا بمدينته الخاصة. وما نسميه بمدينتنا الخاصة ليست سوى سلطة اللحظة التي تتحكم في ذواتنا لحظة الكتابة لكننا في نفس الوقت , إذا كنا واعين بأثر الكتابة على أجسادنا وشعورنا وأفكارنا , فسوف نقف مثل صد أمام هذه السلطة كي نبرر هذه السلطة بشكل عقلاني أو جمالي .
جديد الموقع
- 2024-12-22 احنا جيرانه (ص) أهداها الله كفوفه (1)
- 2024-12-22 يا يوم لغتي .. أينك أم أيني عنك
- 2024-12-22 ألم الرفض الاجتماعي
- 2024-12-22 نمط حياتك قد ينعكس على صفحة دماغك ويؤدي إلى شيخوخته أبكر مما تظن
- 2024-12-22 الكتاب السادس عشر لـ عدنان أحمد الحاجي (تطور اللغة واضطراباتها وعسر القراءة عند الأطفال)
- 2024-12-22 تأثيرات لغوية للقراءة الرقمية
- 2024-12-22 الزهراء (ع) .. المجاهدة الشهيدة
- 2024-12-22 نحو كتب في الشوارع
- 2024-12-22 بين فيزيائية الكتب وكيميائية الكلمات
- 2024-12-22 من أجل القراء المترددين