2021/01/25 | 0 | 1911
ليلٌ.. يملأ رئة الأبد ! قراءة في ديوان (هكذا أنا) لـ عبدالمجيد التركي، و(العلاج بالكتابة) لـ منال العويبيل
سيريالية العالم:
1- أفق الحلم.
كلّ شيءٍ يتحرك في هذه الليلة
كميّتٍ يريد إقناعكَ بأنّه يتنفس..
أنصتُ للجدرانِ وهي تحاول فضَّ نزاعٍ
بين أحجارها العتيقة..
وأرى الزّجاج يتلوَّن بعد أن تعب من الشّفافيّة
التي يسمعها في خطابات السّاسة..
يرعشني الخوفُ
فأغطّي وجهي كي لا أرى الجنيّة الشّمطاءَ
التي تأخذ الأطفال الذين لا يستمعون لكلام أمّهاتهم،
وأنسى أنني في السّادسة والثلاثين!!
يقول شهاب الدين السهروردي الشهيد في كتابه “حكمة الإشراق في مطلع قسم التصور والتصديق”، (هو أن الشيء الغائب عنك إذا أدركته، فإنما إدراكه – على ما يليق بهذا الموضع – هو بحصول مثال حقيقته فيك، فإن الشيء الغائب ذاته إذا علمته، إن لم يحصل منه أثر فيك فاستوى حالتا ما قبل العلم وما بعده، وإن حصل منه أثر فيك فلم يطابق بما علمته كما هو، فلا بد من المطابقة من جهة ما علمت، فالأثر الذي فيك مثاله، والمعنى الصالح في نفسه لمطابقة الكثيرين اصطلحنا عليه بالمعنى العام، واللفظ الدال عليه هو اللفظ العام، كلفظ الإنسان ومعناه، والمفهوم من اللفظ إذا لم يتصور فيه الشركة لنفسه أصلاً هو المعنى الشاخص، واللفظ الدال عليه باعتباره يسمى اللفظ الشاخص، كاسم زيد ومعناه، وكل معنى يشمله غيره فهو بالنسبة إليه سميناه المعنى المنحط).
يتداعى الهرمان، السياسي والاقتصادي.. فتتدافع التفاصيل اليوميّة نحو الانهيار، تماماً كأحجار الدومينو، يتبع بعضها بعضاً..
وسطَ تضخّم الأنا السّياسية. وسيادة النموذج البطريَركيّ قابضاً على زمام السّلطة، دون ترك أدنى مُتنفّس للمرء للاحتفاء بألمه.. وفعالياته، ذات الشمعدانات النّازفة في طوايا الظلمات.. تموت الدّواخل.
إنّ الفرق الوحيد بين ضربات الشمس ذات الدّوار المتأجّج في رأس رياضيٍّ يُعد جسده لدورة ألعابٍ أولمبيّة، وعسكريٍّ مقاتلٍ على شرف الملوك.. هو ذاك الذي نسمّيه حريّةً. إذ يمكن للخبير في مثل هذا الشّأن تأكيد مقدار القسوة الواضحة على نمط الاستعدادات التي يخضع لها الرّياضيون المقبلون على دورة الألمبياد.. بيد أنّ ما يُترجم صرخات المدرّبين في الخارج لدغدغات داخليّة يستشعرها المتدربون ليس سوى المنظار النّفسي الذي يخوضون فيه يومهم الصّعب.. والذي يكون في هذه الحال، مساراً ضروريّاً نحو ذهب المراكز الأولى..
يرى إخوان الصّفا العالمَ إنساناً كبيراً، على غرار العالم الصّغير.. أي الإنسان الفرد. وبذلك يمكن فهم الخارج كلّه انعكاساً لما يجول في دواخل البشر.. والنّاس على دينِ ملوكهم. فإن وجدتَ الملك يعطي اهتمامه البالغ للمطابخ، فستجد الشّعب يتهافت عليها، والحال نفسه يمكن جرّه عليهم إن كان الملك مصاباً بوعكة الأنا.
لا يخفى على المتتبع لمراحل نمو الدّول والمجتمعات، ضرورة مرورها على المراحل الثلاثة المعروفة.. والتّي يمرّ بها الإنسان نفسه.
النهوض، الذروة، فالانهيار.
تحدث الانهيارات كما يرى أفلاطون في طغيان الحاكم، وبلوغ الدولة طورها الأوليجاركيّ حيث تكمن قوتها في قطب واحد يساوي بين عامة الناس والفيروسات في فعل المكافحة.. وهنا تُظهر الانهيارات النّفسية وجهها القبيح جاثمة على صدور الناس انتظاراً لشرارة الجنون الأولى وقيام الثّورات. ولعلّ أشدّ ظهورات الانهيار حدّة هو فقدان الشّعور بالمعنى.. والأشدّ منه، فقدان الشعور بالقيمة الشّخصية.
إذ ذاك يتزاحم الناس على أساليب رتق هذا الثقب الآخذ بالاتّساع في منتصف النفس. فنجد هذا التدافع على التقاط مقاطع الفيديو بشعورٍ مدفوعة إلى عَقبِ الرأس بطنٍّ من المثبّتات مع الحرص على تصنّع عدم الانتباه للكاميرا، وتشتّت البعض بين أدوارٍ شتّى، فتارةً رياضيٌّ فذّ، وتارةً حكيمٌ مشّائي، وتارة شاعرٌ وأخرى شيف مطبخ شعبيّ.. متناسيًا الآخرين الذين يقومون بالمثل.. ولا أحد يملك وقتًا للالتفات لبايو الآخر.
هم يقومون بكل ذلك، لغير غايته..
يبتاعون الكتب، لا لقراءتها، بل لنقل صورها على المواقع، ويقرؤونها، لا لتغذية ذواتهم، بل ليظهروا ثقافتهم وسط الناس، ويكتبون، لا لأنّهم كتّاب، بل للبحث عن مُصفّقين، ويجلسون في المقاهي، لا ليشربوا الاسبرسو، بل ليمارسوا الجنس!
يبحثون هناك في الخارج.. لاهثين، لأنّ الدواخل ماتت، وما عاد ثمّة كنز في المغارة، وما عاد ثمة علي بابا ولا أربعون حرامي..
على الرغم من انجذابهم التام خارجاً، ورغم تعدد وسائل التّواصل الاجتماعيّة الافتراضيّة وغيرها، إلا أن انقطاع الجسور النّفسية بات واضحًا لدرجة بات يتفهّم فيها المرء سبب عدم ردّ التحية التي يرسلها لغيره على الشاشات الخاصة، فعدم الرّد بات يرفع من قيمة صاحبه، كما بات التسابق على مقام الضربة الأولى في قطع علاقة عاطفيّة ما، غاية انطلاق العلاقة !
استهلاكيون في كلّ شيء.. مُستهلِكون.. ومستهلَكون.
يتداعى الإنسان، يتهاوى العالم.. ويفقد كلّ شيء قيمته الحقيقية..
يرى مارتن هيدجر ذلك كلّه ممثلاً أطوار النّفس البشريّة الوجوديّة.. فهذه مرحلة تمثّل الخسران، حيث يستشعر صاحبها الموت رغم مشيه في الشوارع المتخمة بالناس والسيارات.. وسُحب الدّيزل.
بحثاً عن أصالته. يلجأ الانسان إلى حياته الداخلية، بحثاً عن حيثيات يتقصّى فيها بذوره الأولى.. ليشعر بأنه هو.. كما يسمّي عبد المجيد التّركي ديوانه (هكذا أنا)، تماماً كمن يصفع نفسه بكل ما أوتي من قوة، ليتأكد بأنه ليس شكًّا ديكارتيًا يسبق ظهور الكوجيتو. وإذ ذاك يلجأ إلى الخبايا، بحثاً عن طفولته.. وهي ليست طفولةً عمريةً بقدر ما هي فطريّة. يجد فيها أرضه الأولى، حيث امّحاء الحدّ الفاصل بين سماء الحلم وأرض الواقع.
يقول عبدالمجيد التّركي:
أريد أن أعود كما كنت،
قروياً يحتفل بانتهائه من “ربع يس”
ونصف عصا المدرّس الكفيف..
يسمع صوت العلكة
ويعرف هوية الأسنان التي تمضغها.
كأولئك الذين كانوا ينقشون رؤاهم على جنبات الكهوف بالصّخور الحادّة، وانعكاس اللهب المتأجّج للدّفء. يخاطبون الأرواح، يستهدون بالرّيح، ويقرأون كلام الرّمال.
هنا تحديداً، في قلب نقطة الظّلام الأعتم الأحلك.. يظهر نجم السّيريالية، وتنقدح لغتها القصوى..
أدرك فريدريك نيتشه ذلك قبل قرنٍ ونصف، في ظروف سياسيّة واجتماعيّة تتشابه والظروف الرّاهنة، لذا استنبط كلّ فلسفته من روح الموسيقى، تحديداً التراجيديّة منها. وأعاد تأسيس الفلسفة على أساساتها اللغويّة الأولى، التي كانت على عهد هيراقليطس صاحب الشّذرات، وبارمنيدس صاحب خالدته في الطّبيعة.. بعيداً عن جمود اللغة الأكاديميّة، والنفَس المادّي الذي أطبق على الروح الجرمانيّة آنذاك بشكلٍ خاص، والأوروبيّة الغربيّة بشكل عام. لا أشراً ولا بطِراً، ولكن لحاجة ملحّة للغة عليا ذات هامشٍ تأويليٍ شاسع، يمكن من خلاله التعبير عن الدواخل البشريّة وانعكاساتها الخارجيّة على أرض الواقع وكافة ارتباطاتهما وتشعّباتهما المتفرّعة المعقّدة..
إنّ لجوء الإنسان إلى الرّمز لا يعدّ ابتكاراً، بقدر ما فيه من طبيعة، فالطّبيعة رمزيّة بكل ما فيها قائمة على الإشارات، فظهور السّحب السوداء يعني اقتراب هطول المطر، كما أن لفظ (تفّاحة) يعني تلك الفاكهة التي تؤكل. تلك هي الرّمزية الأولى، والسّيريالية مسلك منها يعطي صاحبها ما يكفي من خضرة الضوء لصنع منطقه الإبداعي الخاص، يربط خلاله بين أشياء الواقع.. بأدوات الحُلُم.. ويضفي عليها صبغة انطباعاته النّفسية.
الحُلم، السّماء اللّيلية الأكثر حفاوة بين بقيّة طبقات النفس.. وهنا محاولة بسيطة لتقصّي ظهورات الحلم عند عبدالمجيد التّركي..
يقول في الصفحة 158:
انسحب السّكر من القنينة وتنازل عن كلّ خصائصه،
نغطّيه بمنديلٍ كي ينسى هزيمته أمام عسلِ أصابعك
ثم نغمسه في الماء ليذوبَ
قبل أن تراوده كوابيس قصب السُّكَّر..
وفي صفحة 159:
لا أستطيع النّوم..
زوربا يرقص بداخل رأسي
وأنا ما زلت في أحد شوارع كندا
أتأملُ النادلَ
وهو يقوم بتكسير الصحون
كبديلٍ للإيقاع..
وهنا صورةٌ ليليّةٌ للحلم عند منال العويبيل:
أخرج لأنجو بالنّهار،
فيجرّني آخره إلى أسئلة العائلة..
لكني أمشي إلى الليل..
إلى فناء المنزل بالتحديد، كالساحة المحيطة بالحرم،
رغم شح الحمام، وتسابيح الجدة الغائبة
أمشي إليه كوجهةٍ لا يحمل طيّها غرفةً أو صحبةً أو نادلاً لطيفاً،
لكنها تنثُّ الريحان بصوت ذات الجدة فتخشع السَّموم.
وتقول:
يبدأ الليل حين يصير الصمتُ كسوف الوقت،
حيث اللام الشمسية للنهار مكتوفة الضوء،
وممتدة كرغوة حلاقة على ساق المدينة لأجل زبونٍ تنتظره على السرير.
واحدٌ من غفيرٍ لا يقيمون الصلاة لحزن فتياتٍ
أُصبن بالشياخ بدءاً بالقلب.
ولكن.. لماذا اللّيل؟!
2- اللغة الليليّة.
يوزّع فريدريك نيتشه في كتابه مولد التراجيديا أدوار العالم إلى قسمين، فالأول أبولونيّ (نسبة لأبولو، إله الشمس الاغريقي)، والثاني ديونيسي (نسبة لديونيسيوس، إله الفوضى).
تظهر تجلّياتهما (بحسب نيتشه) في الأشياء، فهناك النّظام، والقانون اللذان يتبعان نموذج أبولو الشمسي، في حين يأتي النقيض الفوضوي ذو الميول التدميرية الظلمانية ديونيسيّاً. وإذا ما قمنا بجرّ هذين الطّورين إلى إطار اللغة الإبداعيّة، على غرار نيتشه مع الموسيقى، يمكن الخروج إذ ذاك بإمكانيّة تصنيفات إضافيّة إلى أدوات التصنيف الإبداعية المعروفة. إذ يتبّن أن ثمّة لغتين ينزح إليهما الكاتب بحسب ميوله الفكريّ، وتقلبات النفس..
وأبرز ما يمكن تقصّيه من النظامين هو تجلّي الحالتين وفقاً لنظام الصّوت، الصورة.. والمفردات المستخدمة. وبذلك يمكن تسمية القصيدة الأبولونيّة نصاً نهاريّاً، على أن تكون الديونيسيّة ليليّةً..
يتميّز النصّ النهاري بالتالي:
1- يتبع نظاما صوتيّاً، عروضياً معروفاً أو إيقاعيّاً مبتكراً.
2- تتمحور الفكرة العامة فيه حول الإيجابية، ورؤية الخضرة في القلب القاحل، وحثّ الناس على الحياة، وتقديم الوعظ والنّصح، والمفاخرة والاعتزاز والتمجيد، وما إلى ذلك من كافّة الصّور الموجّهة.
3- يتضمّن في معظمه مجموعة مفردات إيجابيّة تفيد الغرض العام من القصيدة.
في حين يتميّز النصّ الليلي بالعكس:
1- يرفض النّظام الصّوتي ويعتمد الفوضى بحرّيةٍ تامة.
2- تتحور الفكرة العامة فيه حول العدميّة، والانكسار، والألم، واللاجدوى، وعدم انتظار المردود.. والاستسلام التام. كحالة للتّطهر من النوبات النفسيّة القاسية المتأتيّة من الواقع الخارجيّ المرّ.
3- يتضمّن في معظمه مجموعة مفردات سلبيّة.
إذا نظرنا إلى الفنّ باعتباره مطهراً، فيمكن اعتبار النصّ الليلي نصاً مَطهريّاً، يسكب فيه الإنسان كل سوداويّته، يطّلع عليها الآخرون، فتلامس أوجاعهم.. فيتطهّرون منها، تماماً كما أسمت منال العويبيل ديوانها (العلاج بالكتابة.. الحياة باعتبارها مصحّاً جماعيّاً).
في حين يمكن اعتبار النصّ النهاريّ نصاً ما بعد مَطهريّ، إذ يأتي بعد الاستكانة وإعادة النفس إلى أصالتها في مراحل الوجود الهيدجريّة. بعدما اجتازت بوّابة الخسران، ونصوصها الليلية.
كما لا يمكن إنكار النسبة والتناسب في هذه القاعدة، فقد يأتي النصّ مختلطاً، نهاريّ الصوت (تابعاً لنظام صوتيّ)، ليليَّ الصورة والمفردات. والعكس صحيح كذلك.. بيد أن للصورة رتبةً أعلى من الصوت في عالم الكتابة الإبداعيّة. فبذلك يكون النصّ ذو النّظام الصوتي النهاريّ والصورة والمفردات الليليّة، ليليّاً بنسبةٍ تُقارب 70%.. على اعتبار كل معيار من المعايير الثلاثة ممثّلاً الثلث من النسبة العامّة.
يقول عبدالمجيد التّركي:
يخطر في بالي مسدّسٌ محشوٌّ بالنذالة،
يتهيّأ ليبوح بسرِّه لشخص لا يعرفه..
يخطر في بالي صديقٌ أحاول التعرف على وجهه المتعدد..
ورقة نقدية عاجزة عن فعل شيء..
سلّة مهملات مليئة بالأشياء الثمينة..
صفحة صديق فيسبوكي شبيهة بمكبِّ نفايات..
يخطر في بالي غربة اللوحة
وغرابة اللون،
وحلمٌ قديمٌ يتكرر في لوحات سلفادور دالي.
يخطر في بالي عربة إسعاف بكماء،
وغربان تحدّق في المرايا
تبحث عن نقطة بيضاء في سيرتها الليلية..
تبلغ نسبة معايير النصّ الليليّ في هذا المقطع 100%.
فعبدالمجيد يرفض النُظم جمعاء. صوتيّة كانت أو سياسيّةً، إذ يُصرّح في مقطعٍ آخر:
بداخل رأسي رجلٌ يحدّث نفسه بالفرنسية، بصوتٍ أجشّ..
أهزّ رأسي متظاهراً بالفهم..
كم أكره كلمة “أجشّ” هذه..
بنفس مقدار كرهي لكلمة “القهقرى” و”قشيب”،
و”نيّف”، و”لا مندوحة”..
“لا مندوحة” هذه تذكرني بالغثيان،
أمسح فمي بمنديل كما لو أنني بصقت بيني وبين نفسي..
فابن صنعاء يسمع رجلاً بداخل رأسه يتحدّث الفرنسيّة بصوت أجشّ، يستخدم “أجشّ” ويعلن عصيانه عليها، وعلى بقيّة المفردات النّظاميّة المنتمية إلى أبولونيّات اللغة القديمة. مؤكّداً على ولائه المطلق للنصّ اللّيلي..
وبعمليّة تقصّ دقيقة لمفردات نصّه نتبيّن مقدار انتماء لغته إلى النّظام اللّيلي بالحصر التالي:
(مسدّس محشوّ بالنذالة موجّه على شخص لا يعرفه، صديق بوجه متعدّد، ورقة نقدية بلا قيمة، أشياء ثمينة في سلّة مهملات، صفحة شبيهة بمكبّ نفايات، غربة، غرابة، عربة إسعاف بكماء، غربان، البحث عن النقطة البيضاء في سيرة مظلمة).
مجموعة مفردات شكّلت كافّة سطور الفقرة، مما يجعل نسبة انتماء مفردات النصّ للصّنف اللّيلي تتجاوز نسبة 99.9%. إضافة إلى الفكرة المطروحة في النّص والدالّة على تتالي الانكسارات وخيبات الظّن.
كما تقول منال العويبيل:
في البثّ التجريبي للفرح لا توجد وعودٌ بالدوام،
والنجاة ليست هاجس الجسر عن نفسه حين يقف عليه الوحيدون بنيّة القفز..
فالمارّون فوقه..
كالماضين إلى أسفله
كلهم عابرون.
وتقول:
أنظر إليكِ كلّ ليلةٍ في المرآة،
لعينيك المستنسختين في عيني،
لتكوين وجهك في عظام حنكي،
طولنا المتقارب،
وسلسلتنا الوراثيّة في الشّيب المبكر والوعكات..
إلى أن ألمح أثركِ في ندبة روحي
فأرسم على المرآة ذات الشجّ في القلب.
وتقول:
يتمسّك الوحيدون حديثاً بأغنيات الفقد
كما لو كانت قصتهم الأصيلة،
بينما يمضي الشاعر والملحن والمغني والموزع الموسيقي والمنتج وجمهور إطلاق الألبوم إلى كوبليه آخر من الحياة
في حين يسمعها الوحيد والوحيدة فرادى على ضفتين من المدينة،
بخيار الإعادة الآلية
للأغنية والفقد.
وهي نصوص لا تعتمد نظاماً صوتياً، كما تدور كافّة أفكارها حول الفقد، وبتعديد مفرداتها يمكننا حصر ما فيها من ليليّة:
(فبثّ تجريبيّ للفرح، لا توجد وعود بالدوام، الواقفون فوقه بنيّة القفز، العابرون، الشيب المبكر، الوعكات، ندبة الروح، شجّ في القلب، الوحيدون، الفقد) كلّها مفردات ليليّة، مما يجعل النصوص ليليّةً بنسبة 99.9%.
كان الشّعر، ولا يزال قائماً على البكاء.. والأطلال..
يشترك الشّعر وفعل التّسمية بفعاليّة وجوديّة واحدة، تقوم على استحضار البعيد ببُعده. فالأشياء غائبة ما لم تُستدعى بالتّسمية، والتّسمية بوّابة قناة واصلة بين الغائب وحضوره، وكذلك هو الشّعر.
يجيء اللّيل بغياب الشّمس وإشاحة وجه الكرة الأرضيّة بأحدِ نصفَيه عنها، تظلم السماء، وتحتجب الأشياء بانعدام الرؤية، ثم تطلع.. فتستيقظ الكائنات.
وفي الأزمنة الغابرة كانت شعوب الرافدين تحتفل بغياب الملك، يومٌ أطلق عليه المسلمون في ما بعد (عيد الحمقى)، إذ يغيب الملك يوما، ويغيب النظام، فيمارس الناس فوضاهم الموعودة، لحين عودة الملك في اليوم التالي بالنظام..
تحكي الأسطورة عن إنانا، ربّة الجمال والخصوبة التي حُبست في العالم الآخر واشتُرطَ عليها اختيار بديل لها من الأرضيين ليحل محلها في مملكة الموت، فيما لو أرادت العودة إلى الحياة، وقد اختارت دموزي، أو تمّوز..
يتقاسم كلٌّ من تموز وإنانا (عشتار) السنة إقامةً في العالم السّفلي. لكلٍّ منهما ستّة أشهر خاصة، فإنانا التي تمثّل الخصوبة تعود إلى الحياة، فتبدأ فصول العام الشتويّة، إذ يتفتّح رحم الأرض، ويغرس المزارعون بذورهم فيها، ويفيض دجلة والفرات.. وحين تنتهي دورة البذر، يعود تموز من العالم السّفلي وتحلّ عشتار محلّه، وتبدأ بذلك الفصول الصيفية من السّنة، فصول الحصاد..
الصيفيّ يبدأ بغياب الشتوي، والعكس صحيح.. وبهذه الثنويّة بين الغياب والحضور استنبط القدماء فهمهم للحياة، ونسجوا رؤاهم في رمزيات لغويّة عليا.. تُعرف اليوم بالأسطورة..
كما الحصاد المتأتي بعد التخصيب، تدور رحى الحياة اللغوية، إذ تكفي إطلالة بسيطة على أمهات الأدب العالمي لرصد حضور الفكرة هذه في عقليات البشر منذ فجر التّاريخ.. فجلجاميش الذي قصد أقاصي الأرض بحثاً عن إجابة تكفي لتجاوز الموت، وحاسب كريم الدّين في ألف ليلة وليلة الذي جاب الأرض بحثاً عن حبه للنبي محمد، والسندباد.. كنماذج أدبيّة من جهة. والجذبة الخاطفة في حلقات الذّكر تليها المكاشفة الصّوفية، وتأرجح النّفس في المراحل الوجوديّة الثلاثة عند هيدجر الألمانيّ من جهة أخرى كنماذج فكريّة دينيّة وفلسفيّة، تشكّل الرّحلة بين الغياب كضرورة لحضور شمس تجربة لغويّة جديدة عمودها الفقري، وهو الإطار الجامع لكل الكيانات الثقافية للبشر باختلاف أحقابهم وبيئاتهم، فنجدها عند البرّيين في حساب فصول الزراعة، وعند البحريين في حساب موسم الغوص والإبحار، كما نجدها عند أهل القفار، وعلى ذلك شواهد كثيرة من عادات العرب الأوائل في رحلة الشتاء والصيف..
يقول المسلِّمون بغيبة الإمام الثاني عشر، المهدي.. مؤمنين بظهوره في الدورة الزمانية الأخيرة لإحقاق الحقّ في الأرض بعد ظُلم طويل. والحقّ، أنّ مهدويّة الإمامة هذه تتمظهر في تجليات الطبيعة كلّها، تماماً كما تتجلّى في اللغة.. في تأرجح الشّعر بين اللغتين الليليّة والنّهارية..
على ذلك يمكن فهم طبيعة النّسيج المكوّن للّغة الليلية، فهو دائر بقطبه ورحاه حول مفاهيم الغربة والاغتراب والبحث عن النقطة البيضاء في الفلك المظلم، كما يوفّر مخزونا صورياً لا يستهان به للتطهّر من المشهد الخارجي البائس، ذلك الذي يتشقلب فيه الناس في فضاء اللامعنى، مقابل استئثار جهة واحدةٌ فقط بالمعنى كلّه.. جهة تطلق على نفسها اسم الحكومة العالمية، وتحت شعار العولمة تقرر لنا ما سنرتديه، وما نأكله ونشربه، والمجال الذي نعمل فيه، كما تحدد لنا ساعات الفراغ وأساليب ممارسة الجنس.. بصريّاً!
يقول جورج تراكل في أحد مقاطعه:
وجهٌ بَهمٌ
مأخوذ بالشفق، أمام الشفق المقدّس يقف ذاهلاً..
ويقول:
طاغٍ في الحجرِ هو المُضمَرْ.
يُعلّق هيدجر في شرحه للمقطعين:
“فالوجه البهم” حين يقف ذاهلاً إنّما يؤخذ بما يراه. و”يرى” تعني: الدخول في المُضمَر.
الحجر هو كثافة الألم. والصخرة تستجمع لبّها الحجري، الدَعَة التي بها يمنح الألم سكينةَ الجوهري. ويصمت الألم بإزاء الشّفق، ويستعيد الوجه البهم رقّتَه. ذلك أنّ الرّقة، حرفياً، هي ما يجمع إليه بحنان. إذن البهم (الإنسان) لم يصل بعد إلى حالة ثابتة. حالة إنسان الذهن والعقل. وهو، حسب نيتشه، لم يصبح بعد (في وضع الثابت). وقد يكون كلّ الجهد الذي بذلته الميتافيزيقا الغربية لأن تنقله إلى مثل هذه الحالة قد ذهب عبثاً. فالحيوان (الوجه البهم..) الموقوف في وجوده الخاص (كما هو) هو إنسان الآن. وقصيدة تراكل تشير إلى هذا الإنسان الذي يصل إلى ذاته عبر مثول شفق الليل الذي ينظر إليه ويمسّه بنور المقدَّس.
يقول عبدالمجيد التّركي:
ها هو طيفك يجلس أمامي، واضعاً يده على جبهته،
كأنه يقرأ أواخر سورة الحشر!!
أشعر بيأس غيمةٍ لم تعد قادرةً على إنجاب قطرة ماء..
بغربة طيرٍ
أضاع خريطته فوجد نفسه تائهاً في مدن الزجاج..
وتقول منال العويبيل:
في كلّ خريف
ينادي نحيب الشجرة الطيور المهاجرة
لأن لا أحد يخبرها أن الخضرة نائمة فيها
لا أجنحتهم.
….
جديد الموقع
- 2024-05-04 افراح الدويل و الغزال في احلى مساء بالاحساء
- 2024-05-04 عميدة اسرة العليو بالاحساء في ذمة الله تعالى
- 2024-05-04 فريق طبي في مدينة الإمامين الكاظمين (عليهما السلام) الطبية يجري عملية تثبيت وتعديل الفقرات القطنية لمريض بعمر (56) عام
- 2024-05-03 مستشفى اليرموك التعليمي يجري عملية قسطارية طارئة لمريض يعاني من احتشاء العضلة القلبية
- 2024-05-03 مستشفى الأمام علي (عليه السلام) العام في بغداد يجري عملية تداخل قسطاري طارئ لمريض يبلغ من العمر 48 عام
- 2024-05-03 "بيئة الأحساء تنفذ يوم بيئي مع جماهير نادي الفتح الرياضي"
- 2024-05-03 النجف رصاصة طائشة تصيب زائر أثناء تأدية صلاة المغرب في الصحن الحيدري
- 2024-05-03 بعد عقم دام 7 سنوات أسرة ترزق بتوأم في مستشفى كمال السامرائي
- 2024-05-03 طوارئ مستشفى الحلة التعليمي في بابل تنقذ حياة طفل تعرض إلى صعقة كهربائية
- 2024-05-03 مستشفى بعقوبة التعليمي في ديالى ينجح بإجراء عملية تطويل عظم الساق لمريض يعاني من قصر الطرف السفلي