2018/04/08 | 0 | 2071
فَاطِمَةُ (ع) بَيْنَ التَّارِيخِ وَالمُتَخَيِّلُ
تمهيد
في كتابه المُعنون بـ(جدل التاريخ والمتخيل: سيرة فاطمة)؛ حاول الباحث بسام الجمل[1]دراسة كيفية تحول سيرة فاطمة الزهراء (ع) من الواقع التاريخي إلى المتخيل الإسلامي، والحق أن هذا النوع من الدراسات النقدية الحديثة في غاية الأهمية، نظراً لكوننا في مسيس الحاجة لإخضاع جميع شخصياتنا الدينية المركزية –وليس فاطمة (ع) فحسب- لدراسات من هذا القبيل، وذلك لكي نستطيع أن نميز بين ما له أصل تاريخي، وبين ما هو متخيل خارج عن الأُطر التاريخية.
ورغم أهمية ما قد تُسهم به هذه الدراسات من كشفٍ عن بعض الحقائق المغيبة أو غير الملتفت إليها، إلا أنها تبقى عرضة للوقوع في العثرات والزلل، كما حصل بالضبط مع هذه الدراسة، حيث وقع فيها الباحث في العديد من الأخطاء والتجاوزات التي لا يُستهان بها، لأن الهدف منها -كما هو واضح من عنوانها- هو إثبات تحول سيرة فاطمة (ع) من التاريخ إلى المتخيل، غير أن الباحث لم يحالفه التوفيق في بحثه التاريخي عن سيرتها (ع)، مع كون هذا هو البحث التأسيسي لدراسته، والذي على أساسه سوف يبني مجموعة من النتائج التي يُراد لها أن تثبت أو تؤكد تحول هذه السيرة من الواقع التاريخي إلى المتخيل الذي تمثله المسلمون فيما بعد[2].
ولذلك؛ فإنني في هذا المقال سأسلط الضوء على بعض نواحي الضعف والقصور في هذه الدراسة، كما سوف أحاول تطبيق الآليات نفسها التي اعتمد عليها الباحث في التعامل مع الأخبار الخاصة بسيرة فاطمة (ع) في مناقشته ونقده، وذلك من خلال اختبارها والتأكد من فعاليتها، حيث سيتضح لنا بذلك عدم صوابية الركون إليها، لأنها كما أوصلت الباحث لنتائج محددة لرسم صورة نمطية معينة عن سيرة فاطمة (ع) في التاريخ، يمكن لها كذلك أن توصل غيره لنتائج أخرى مخالفة لها، وترسم صورة مقابلة لتلك السيرة التي رسمها.
1) بين ضبابية المنهج وغياب الآليات
إن من يطلع على هذه الدراسة سيتجلى له وبكل وضوح أن الباحث لم يُمهد قبل البدء في فصولها ببعض الأبحاث التمهيدية المهمة[3]، وإنما دخل في الأبحاث الأساسية مباشرة دون أن يُؤسس لآليات ومعايير صارمة تخرجه من المآزق التي تورط فيها؛ نتيجة وقوعه في شراك الإشكاليات التالية:
الأول: إشكالية الفرز والفصل بين التاريخي والمتخيل: وأعني بهذه الإشكالية عدم تمكن الباحث من رسم حدود فاصلة يستطيع من خلالها تمييز وفصل الأخبار المنتمية للبحث التاريخي في سيرة فاطمة (ع) عن غيرها من الأخبار المنتمية لبحث المتخيل الإسلامي، فمن يطلع على هذه الدراسة سيجد الباحث يقوم بفرز هذه الأخبار بين ما هو تاريخي وما هو متخيل دون أن يعتمد في ذلك على أسس ومعايير واضحة ومحكمة.
الثاني: إشكالية اختيار الأخبار الخاصة بسيرة فاطمة (ع): وأعني بها عدم اعتماد الباحث أيضاً على أسس وآليات محددة ومحكمة يقوم على أساسها باختيار بعض الأخبار المنتمية للبحث التاريخي (التأسيسي) لسيرة فاطمة (ع) دون غيرها من الأخبار المخالفة لها والمنتمية للبحث نفسه، وإن حاول الباحث أن يضع بعض المعايير لذلك، إلا أن من يُدقق في الأمر لن يجد أي أساس علمي يمكن الاطمئنان له؛ لتفسير اعتماده على بعض الأخبار بصفتها حدثت بالفعل في الواقع التاريخي، وتجاهله لأخبار أخرى مخالفة لها منتمية للبحث نفسه.
الثالث: إشكالية ترجيح الاحتمالات التفسيرية: وأعني بها كيفية ترجيح بعض الاحتمالات لتفسير بعض الأحداث والوقائع التاريخية المرتبطة بسيرة فاطمة (ع) على غيرها من الاحتمالات التفسيرية الأخرى، فمن يطلع على هذه الدراسة سيجد الباحث يتعسف كثيراً في تفسير بعض الوقائع والأحداث من خلال ترجيحه لأحد التفسيرات المحتملة على غيرها بلا أي مُرجح علمي أو مبرر منطقي مقبول.
وكل هذه الإشكاليات العويصة التي وقع فيها الباحث تعود –باعتقادي- لعدم تأسيسه لآليات وضوابط صارمة قبل البدء في الخوض في أي بحث مرتبط بفصول الدراسة، بحيث تكون هذه الآليات والضوابط من جهة بمثابة مدخلية ينطلق منها في أبحاث دراسته، وتكون من جهة أخرى مرجعية علمية ومنطقية يُرجع إليها عند القيام بفصل البحث التاريخي عن بحث المتخيل، وعند اختيار الأخبار التاريخية الخاصة بسرة فاطمة (ع)، وكذلك عند ترجيح بعض تفسيراتها المحتملة.
2) محاولات الباحث للخروج من الإشكاليات
من الغريب حقاً أن يقع الباحث في الإشكالات التي أشرنا إليها آنفاً رغم التفاته لهذا الأمر، واعترافه في مقدمة دراسته بوجود تداخل بين الخطابين: التاريخي والمتخيل، مما جعل عملية فصلهما وتمييزهما عن بعضهما البعض مسألة صعبة، بل اعتبر هذه المسألة من أهم الصعوبات التي واجهته في دراسته، حيث يقول: "التعالق والتداخل بين خطابين اساسيين في مدونة البحث هما: خطاب التاريخ، وخطاب المتخيل، حتى إنه يصعب، أحياناً تخليص هذا من ذاك، وتعسر إقامة حدود فاصلة بينهما"[4].
ففي هذا النص نجد الباحث يعترف بصعوبة التمييز والفصل بين خطاب التاريخ وخطاب المتخيل، وهذا ما جعله يطرح على نفسه سؤالاً في غاية الأهمية، وهو السؤال التالي:
"كيف تتسنى لي دراسة فاطمة في المتخيل الإسلامي، والحال أن التداخل بين ذينك الخطابين لا يمكن إنكاره أو غض الطرف عنه؟ "[5].
والحق أن هذا السؤال مهم وأساسي، ولذا كان من المتوقع بالباحث أن يُجيب عليه بمحاولة التأسيس لآليات وضوابط محددة تمكنه من الخروج من هذه الإشكالية، أعني التمييز والفصل بين ما هو تاريخي وما هو متخيل، ولكن شيئاً من هذا لم يحصل، لأنه أكتفى فقط بالإجابة عن هذا السؤال بالجواب التالي:
"والحق أن وعيي بهذه الصعوبة المعرفية (يقصد فصل التاريخي عن المتخيل) حملني على مواجهتها بضرورة مقاربة موضوع فاطمة مقاربة تاريخية موظفة في اتجاه فهم مختلف تمثلات الدارسين لشخصية فاطمة في المتخيل الإسلامي؛ إذ الحقيقة، عند الفحص، حقيقتان: حقيقة تاريخية مدارها على الأقوال والأفعال المنسوبة إلى فاطمة، وحقيقة متخيلة تعكس ضمير الجماعات الإسلامية، وتعبر عن "لا وعيها الجمعي"[6].
والمُلاحظ في هذا الجواب أنه مجرد إعادة صياغة لما جاء في السؤال على هيئة جواب لا أكثر، لأن كل ما قام به الباحث هو تفسير الماء بعد الجهد بالماء كما يُقال في المثل المشهور، فالسؤال كان حول كيفية دراسة سيرة فاطمة (ع) في المتخيل الإسلامي في ظل التداخل بين الخطابين التاريخي والمتخيل، وأتى بهذا الجواب الذي يُعلن فيه أن هذه الإشكالية حملته على مواجهتها بضرورة مقاربة سيرة فاطمة (ع) مقاربة تاريخية من خلال فهم ما أسماه بـ"مختلف تمثلات الدارسين لشخصيتها في المتخيل الإسلامي"، وبعدها أكد مرة أخرى على ما جاء في السؤال من جود خطابين: تاريخي ومتخيل.
3) محاولات لاعتماد بعض الآليات والأسس
رغم أن الباحث لم يُؤسس في مقدمة دراسته لأية آليات وضوابط صارمة يجعلها مدخلاً له قبل البدء في الدراسة كما هي العادة في الأبحاث العلمية الأكاديمية، إلا أننا وجدنا مبثوثاً في بعض أجزاء الدراسة ما يمكن اعتباره ملامح لأسس وآليات قد اعتمدها في بحثه التاريخي، وهي ما ذكره في الموردين التاليين:
§ المورد الأول: في الفصل الأول المُعنون بـ( فاطمة في التاريخ)، حيث أنه بعد أن أنهى البحث في العنوان الأول: (فاطمة في رعاية الرسول) ذكر بأنه وعلى الرغم من أن المعطيات التاريخية عن حياتها مضطربة ومتناقضة ومحدودة إلا أنه تمكن من إعادة بناء حياة فاطمة (ع) "بما ينسجم مع سنن الاجتماع الإنساني من ناحية، وبما يتفق مع القيم الاجتماعية السائدة في الوسط القبلي في شبه الجزيرة العربية، في بدايات القرن السابع للميلاد من ناحية أخرى"[7].
المورد الثاني: أيضاً في الفصل الأول، وذلك بعد الانتهاء من العنوان الثاني: (فاطمة بعد وفاة الرسول)، حيث قال حول طريقة اختياره وترجيحه للأخبار الواردة عنها بقوله: "... لم نتعامل مع الأخبار في هذا الباب، إلا ما كان ممكن الحصول من منظور تاريخي بشكل يجعله منسجماً مع سنن الاجتماع الإنساني بصفة عامة؛ بل إن عدداً من هذه الأخبار رجحنا إمكان تحققها في الواقع التاريخي، نظراً إلى انعدام الوثائق المادية الجديرة بثقة المؤرخ"[8].
وعليه؛ يمكن أن نقول بأن الآليات والمعايير التي على أساسها قام الباحث بفرز الأخبار بين ما هو تاريخي وما هو متخيل، وما اعتمده أيضاً في اختيار بعض الأخبار التاريخية، وكذلك ما اعتمده في ترجيح بعض الاحتمالات لتفسيرها هي ما يلي:
أولاً: ما ينسجم مع سنن الاجتماع الإنساني.
ثانياً: ما يتفق مع القيم الاجتماعية السائدة في الوسط القبلي في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع للميلاد.
والسؤال هنا: ما هو مراد الباحث من (سنن الاجتماع الإنساني)؟![9]
إذا كان الباحث لم يُؤسس لبيان هذه الأمور المنهجية –أعني المعايير والضوابط- ويُوليها الاهتمام الكافي قبل البدء في أبحاث دراسته، فمن الطبيعي أن يكون لم يتحدث عن المراد بـ(سنن الاجتماع الإنساني) ويبين مفهومه منه بدقة، ولكن كما وجدنا حديثه عن الآليات والضوابط مبثوثاً في طيات دراسته، وجدنا أيضاً ما يمكن أن نستفيد منه في هذا الأمر، وذلك في الفصل الأول- المحور الثاني المُعنون بـ(الانتقال من التاريخ إلى المتخيل)، إذ بين ضمن النقطة الأولى في هذا المحور تحت عنوان (مبررات الانتقال) قائلاً: "أن ترجمة فاطمة، في المصادر السنية، إلى حدود منتصف القرن الثالث للهجرة (مع ابن سعد)، هي أقرب ما تكون إلى التاريخ؛ فكل الأحداث المتعلقة بهذه الشخصية ممكنة الحصول من منظور تاريخي، وليس فيها ما يخرج عن سنن التاريخ، وقوانينه المعروفة (ولادة، زواج، معاملة الزوج لها، المرض، الوفاة)"[10].
ويردف قائلاً: "ولكن يبدو أنه من نحو منتصف القرن الرابع للهجرة (مع الطبراني)، بدأت تتسلل إلى هذه الترجمة معطيات ومواد عنها لا يمكن قبولها، إلا من وجهة نظر إيمانية لا علاقة لها بالتاريخ، من قبيل الكلام على مناقب فاطمة يوم القيامة، وتزويجها بأمر من السماء، ومرورها بين الرجال في اليوم الآخر"[11].
ومن هذا النص نفهم أنه يقصد بسنن الاجتماع التاريخي ما يمكن الحصول عليه من منظور تاريخي مألوف ومتعارف عليه دون غيرها من الأمور التي تتحدث عن بعض الأمور الخارقة للعادة، والتي يتم سردها لإثبات ارتباطها بالسماء، كأدوارها قبل الوجود أو بعض الأحدث العجيبة المتعلقة بحياتها أو ما يُروى عن أدوارها في النشأة الآخرة في يوم القيامة[12].
4) سنن الاجتماع التاريخي والخروج من الإشكالية
رغم كل ما عرفناه من كون الباحث يدعي بأنه قد اعتمد في التعامل مع الأخبار التاريخية الخاصة بسيرة فاطمة (ع) على ما أسماه بـ(سنن الاجتماع التاريخي) و(القيم الاجتماعية السائدة في الوسط القبلي في شبه الجزيرة العربية آنذاك)، إلا أن هذا الأمر لا يحل الإشكاليات التي أشرنا إليها سابقاً، وذلك لأمرين أساسيين:
الأول: إن اختيار وترجيح ما ينسجم مع هذين المعيارين في سيرة فاطمة (ع) قد ينفع فيما لو لم تُوجد أخبار واحتمالات أخرى لم يتم اختيارها من قبل الباحث رغم انسجامها معهما، أما لو وجدت أخبار أخرى مخالفة ومتعارضة للأخبار المختارة –كما هو حاصل فعلاً في الأخبار المتعلقة بسيرة فاطمة (ع)- فهنا يبقى السؤال المطروح نفسه: على أي أساس سيتم اختيار وترجيح بعض الأخبار والاحتمالات الخاصة بسيرة فاطمة (ع)، والإعراض عن غيرها رغم أن كلاً من: الأخبار المختارة والأخبار المعرض عنها هما مما ينسجم مع هذين المعياريين؟!
الثاني: لا يمكن القول بأن جميع الشخصيات يصح التعامل معها وفقاً لهذين المعيارين، وبالخصوص الأنبياء (ع) ومن يقترب من دائرتهم، فهل يصح القول بأن النبي (ص) وابنته فاطمة (ع) هما ممن يتفقون في تعاملاتهما في أمورهما الحياتية -كالعادات الخاصة بأمور الزواج وإدارة شؤون الحياة- مع القيم الاجتماعية السائدة في الوسط القبلي آنذاك؟ أعتقد أن هذا الأمر مجانب للصواب، وبالخصوص بالنسبة للرسول (ص)، فمما لا شك فيه أن دعوته اشتملت على ما لا ينسجم مع الكثير من القيم الاجتماعية الموجودة في عصره، وإذا كان كذلك؛ فكيف يريد الباحث أن يحكم هذه الأعراف القبلية ويجعلها هي المُرجح التي على أساسه سيعتمد بعض الأخبار وتفسيراتها؟!
لذلك لا أتردد في القول بأن الآليات التي اعتمد عليها الباحث في بحثه التاريخي كـ (سنن الاجتماع التاريخي) و(القيم الاجتماعية السائدة في الوسط القبلي آنذاك) لا يمكن التعويل عليها كثيراً على أقل التقادير، لأنه يصعب ضبطها ضبطاً علمياً دقيقاً، وهذا ما سيتضح جلياً للقارئ من خلال نقد بعض النماذج التي جاءت في دراسته فيما سيأتي.
5) نماذج تطبيقية تثبت هشاشة الآليات المطروحة
سوف نستعرض بعض النماذج التي أوردها الباحث في البحث التاريخي من كتابه ونناقشها، بناءً على المعيارين الذي يدعي اعتماده عليهما، وذلك في الآتي:
النموذج الأول: تأخر سن زواج فاطمة الزهراء (ع):
أشار الباحث إلى مسألة تأخر سن زواج السيدة فاطمة (ع)، حيث أنها تزوجت في سن يتراوح بين خمسة عشرة سنة وإحدى وعشرين سنة كما يقول، ولم يكتفِ بذلك فحسب، بل ذكر أن هذه السن "متقدمة جداً بالنسبة إلى سن الزواج المألوفة في الجزيرة العربية، إبان القرن السابع للميلاد"[13]، وبعد ذلك تحدث قائلاً: "والحق أننا لا نعثر على أسباب صريحة تفسر عزوف شباب أهل مكة خاصة عن التقدم لخطبة ابنة الرسول، وإن حاولت بعض الروايات أن ترجع ذلك إلى موقف اتخذه الرسول في هذا الموضوع"[14]. وأما في الهامش، فيقول: "ربما لم تكن فاطمة على حظ كافٍ من الجمال، الذي يطلبه شباب قريش من الفتاة بمقاييس الجمال المرغوب فيها في ذلك الوقت"[15].
المناقشة
بين الباحث في هذا النص أن زواج فاطمة الزهراء (ع) جاء متأخراً جداً، لأنه يتراوح بين سن الخامسة عشر والحادية والعشرون، معتمداً في وصوله لهذه النتيجة -أعني تأخر زواجها- على معيار (القيم الاجتماعية المألوفة في الجزيرة العربية في القرن السابع للميلاد)، ولذا نحن نتفهم ذلك، بل ونجد المبرر لهذا التقييم بناءً على هذا المعيار، غير أننا لا نجد مبرراً لإحالته سبب تأخر زواجها لـما أسماه بـ"عزوف شباب أهل مكة خاصة" عن خطبتها، لأنه لم يُبين لنا كيف رجح هذا الأمر بحسب (سنن الاجتماع التاريخي) أو (الأعراف القبلية السائدة آنذاك)، لأنه بحسب هذين الأمرين هناك عدة احتمالات أخرى غير ما ذكره، فلماذا رجح هذا الاحتمال على غيره؟! فلماذا لم يُرجح مثلاً بأن ذلك راجع لعدم رغبة الرسول (ص) بتزويجها ممن تقدموا لخطبتها كما تنقل بعض الروايات التاريخية[16] أو أن تكون هي من كانت ترفض الزواج ممن تقدم لها؟! أو لأي سبب آخر غير ذلك، إذ من الغريب جداً أن يُرجح كون تأخر سن زواجها راجع لما أسماه بـ"عزوف شباب أهل مكة خاصة" عن خطبتها دون أن يذكر مبرراته لهذا الترجيح.
§ لو قُلنا بأن ما ذكره الباحث صحيح فيما يخص مسألة العزوف، فهذا لا يُبرر تفسيره لهذه المسألة بكونها ربما تكون راجعة لمسألة الجمال، إذ من الطبيعي أن يعزف شباب أهل مكة عن طلب الزواج منها، لأن المسلمون كانوا محاصرين في مكة آنذاك، وهي ابنة قائدهم والمتسبب في حصارهم، علماً بأنه حتى لو لم يكونوا محاصرين، وتم التقدم لخطبتها من قبل بعضهم، فمن الطبيعي أن يرفض الرسول (ص) ذلك، نظراً لعدم صحة زواجها من أناس غير مسلمين، خصوصاً بعد ظهور الرسالة الإسلامية.
وعليه؛ فسواءً قلنا بأن العزوف كان من قبلهم أو من قبل الرسول (ص) أو من قبلها هي، فهذا أمر طبيعي ومحتمل بغض النظر عن مسألة حظها من الجمال التي احتملها الباحث في قوله: "ربما لم تكن فاطمة على حظ كافٍ من الجمال، الذي يطلبه شباب قريش من الفتاة بمقاييس الجمال المرغوب فيها في ذلك الوقت"، لأنه إذا كان ما ذكرناه محتملاً، فكيف رجح الباحث أن ذلك راجع للعزوف عنها، واحتمل بأن ذلك يعود أيضاً لمسألة حظها من الجمال، ولم يعتمد غيره من الاحتمالات المطروحة.
§ تجاهل الباحث بأن فاطمة (ع) عندما كانت في مكة هي ابنة صاحب الرسالة الجديدة التي آمن بها العديد من الشبان، وكان لهؤلاء الشرف لطلب التقرب من الرسول (ص) بخطبتها هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان هؤلاء مُحاصرون من المجتمع الذي كانوا يعيشون به، بحيث كانوا لا يستطيعون الزواج من غير المسلمات اللاتي كن يمثلن الأقلية آنذاك، إضافة لقلة إمكاناتهم المادية من ناحية ثالثة، فكل هذه الأمور تجعل من الطبيعي أن يرغب في الزواج منها هؤلاء الشبان الجدد في ذلك المجتمع الصغير المحاصر، (أعني المسلمين) بغض النظر عن مسألة الجمال من عدمه، فلماذا تجاهل الباحث كل هذه الأمور ولم يأخذها بعين الاعتبار مع كونها تنسجم مع المعيارين الذين اعتمدهما؟!
قد يقول قائل: بأن الباحث ربما يقصد العزوف عن طلب الزواج منها من قبل شبان قريش عندما كان الرسول (ص) في المدينة وليس في مكة، ولكن هذا لا يحل الإشكالية، لأنها في المدينة كانت ابنة القائد الأول فيها من الناحيتين الدينية والسياسية، لذا سيكون تخصيص شباب قريش بالذكر لا مبرر له، وذلك لوجود شباب الأنصار أيضاً، ومن الطبيعي –إن لم نقل من الأقرب- وفقاً لسنن الاجتماع التاريخي أن يرغب في الزواج منها كبار رجالات المجتمع آنذاك، فضلاً عن غيرهم حتى لو كانت كما احتمل الباحث – ليست على حظ كافٍ من الجمال المرغوب فيه-، وذلك إما رغبة في التقرب من الرسول (ص) من ناحية دينية أو لأجل مصلحة دنيوية ما.
وعليه يبقى السؤال: ما الذي جعل الباحث يُرجح ما ذهب إليه في مسألة تأخر زواجها على الاحتمالات الأخرى التي ذكرناها، رغم أن ما ذكرناه ينسجم أيضاً مع سنن الاجتماع التاريخي والعادات القبلية السائدة آنذاك؟!
ثانياً: التشكيك برضاها بالزواج من الإمام علي (ع)
يؤكد الباحث على أن الإمام علي (ع) تقدم لخطبة السيد فاطمة (ع)، وهو في سن الحادية والعشرون، ولكنه حاول التشكيك في قبولها بالزواج منه، حيث قال: "والحق أننا لا نعلم موقف فاطمة الصريح من هذا الطلب، سوى أنها التزمت الصمت. وقد أول سكوتها في اتجاه الدلالة على رضاها بهذه الزيجة، بل قد استخلصت منه إحدى قواعد النكاح في الإسلام... ولكن لم لا يكون سكوت فاطمة تعبير غير مباشر عن رفضها الزواج من علي ابن عم النبي؟"[17].
ويحاول بعدها أن يدعم كلامه عن الرفض بقوله: "لا سيما أن نساء قريش قد بسطن ألسنتهن في تزويج فاطمة علياً، حتى إن فاطمة نفسها نقلت إلى أبيها الحدث الآتي: "مررتُ على ملأ من نساء قريش، وهن مخضبات، فلما نظرن إلي وقعوا في وفي ابن عمي (...)، وقلن: كان قد عز على محمد أن يزوج ابنته من رجل فقير قريش، وأقلهم مالاً..."[18].
المناقشة
نجد في هذا النص تشكيك الباحث في قبول فاطمة (ع) من الزواج بالإمام علي (ع)، ولكنه في بحثه المتعلق بالمتخيل يثبت ذلك، ويتعامل معه كحقيقة تاريخية ثابتة، حيث يقول تحت عنوان (الزواج بقرار إلهي): "وجلي أن هذا القرار الإلهي وضع حداً لما يمكن أن يترتب على موقف فاطمة الرافض للزواج من علي، من استتباعات ونتائج، على نحو ما هو مذكور في سيرتها التاريخية"[19]، مع أنه كعادته لم يورد ما يُرجح ذلك، علماً أنه يمكننا القول إن قبول فاطمة (ع) بالإمام علي (ع) زوجاً لها أمراً راجحاً بحسب معيار (سنن الاجتماع التاريخي) و(الأعراف القبلية السائدة في القرن السابع للميلاد)، وذلك للآتي:
تأخر زواجها لأي سبب كان؛ فكيف لو كان السبب هو العزوف عنها كما ذكر الباحث.
المواصفات المتوفرة في الإمام علي (ع) من ناحية صغر العمر، والصحة الجيدة، والقرب النسبي والنفسي من الرسول (ص) ورضاه عنه، بل ورغبة الرسول (ص) في تزويجه، بالإضافة إلى مكانته الاجتماعية المتميزة في ذلك المجتمع الناشئ، حيث برز نجمه بعد معركة بدر بسبب بطولاته ومساهمته الفاعلة في حسم المعركة لصالح المسلمين.
أما الرواية التي ذكرها الباحث للتشكيك في رضاها عن هذا الزواج، فهي بعيدة جداً، للآتي:
أنها خصصت الأمر "بنساء قريش" والموضوع كان في المدينة ويوجد هناك نساء الأنصار أيضاً.
أن تعيير الإمام علي (ع) بالفقر من قبل "نساء قريش" كما جاء في الرواية مستبعد جداً في تلك الفترة، لأنه من الطبيعي أن يكون شأن الإمام علي (ع) في المدينة آنذاك كسائر شباب أهل مكة "المهاجرون" الذين هاجروا إلى المدينة وتركوا كل ما يملكون في مكة، فشأنه سيكون كشأن بقية الشبان فيما يتعلق بالجانب المالي، غير أنه يمتلك ميزة عليهم في ذلك المجتمع الناشئ –ليس على شبان مكة فحسب، بل على المسلمين بأجمعهم- وهو دوره وبطولاته التي سطرها في معركة بدر.
وعليه؛ يعود السؤال مجدداً: على أي أساس رجح الباحث عدم قبولها بالزواج منه على ما ذكرناه بالاعتماد على المعيارين الذين اعتمدهما للاختيار والترجيح؟!
ثالثاً: توتر حياتها الزوجية مع الإمام علي (ع)
تحدث الباحث عن معانات فاطمة في حياتها الزوجية مع الإمام علي (ع) قائلاً: "ويبدو أن إنجاب الأبناء لم يحقق لفاطمة الاستقرار الأسري، والتوازن النفسي المطلوبين، نظراً إلى ما كانت تلقاه من صعوبة في العيش، ومن قسوة الحياة عليها؛ إذ كانت تلقى، في حياتها اليومية، ألواناً من الضنك والتعب...."[20].
ويضيف الباحث بأن هذه الحياة الصعبة القاسية التي كانت تعيشها قد ساهمت في توتر حياتها الزوجية، حيث يقول: "ومن المرجح تاريخياً أن ما كانت تعانيه فاطمة من مشقة كبيرة في حياتها اليومية من أعباء، وخصاصة، وجوع، مثل سبباً من أسباب ما عرفته حياتها الزوجية من توتر مستمر. وتشير بعض الروايات إلى أن علياً كان يعاملها بشدة وقسوة. وربما انقطعت بينهما لغة الحوار والتواصل، في أكثر من مناسبة، وما يمكن أن يترتب على ذلك من ردود أفعال تهدد أسس الحياة الزوجية"[21].
ويردف كلامه هذا برواية يجعلها كشاهد على كلامه وهي الرواية التالية: "عن المنهال بن عمرو أنه كان بين علي بن أبي طالب وبين فاطمة كلام، وأنه هجرها، فخرج من بيتها، فأتى المسجد، فنام في التراب"؛ ولذلك تعددت محاولات تدخل الرسول لإصلاح ذات البين بينهما، وتمت المصالحة بينهما بطريقة طقوسية يشف عنها الخبر الآتي: "ألقي له (الرسول) مثال، فاضطجع عليه، فجاءت فاطمة، فاضطجعت من جانب، وجاء علي، فاضطجع من جانب. فأخذ رسول الله بيد علي فوضعها على سرته، وأخذ بيده فاطمة فوضعها على سرته، ولم يزل حتى أصلح بينهما..."[22].
المناقشة
لا شك أن صعوبة العيش وقسوة الحياة قد تؤثر سلباً على حياة البعض، ولكن هذا لا ينفي أن هناك من لا تؤثر فيهم هذه الأمور، بل أحياناً يقع العكس، وهو أن من يمتلك وسائل الراحة والترفيه، ومع ذلك لا يحظى بالاستقرار الأسري والتوازن النفسي، علماً بأن الباحث اعتبر ذلك –صعوبة العيش وقسوة الحياة- قد أثرا على حياة فاطمة (ع) بشكل سلبي، وكأنه أمر مسلم به دون أن يأتي بالشواهد الدالة عليه ويناقش ما يخالفها.
رجح الباحث كون الظروف الصعبة التي عاشتها فاطمة (ع) مع الإمام علي (ع) قد ساهمت في توتر مستمر في حياتهما الزوجية بحسب تعبيره -لاحظوا هنا مفردة مستمر- كما ذكر بأن الإمام علي (ع) كان يعاملها بشدة وقسوة كما تشير بعض الروايات دون أن يحيل إلى أي رواية أو مصدر يدل على ذلك، علماً بأنه حتى لو أحال لمصدر واستشهد ببعض الأخبار التي تؤكد ما ذكره، فإن هناك أخباراً أخرى تبين خلاف هذه النظرة التي رسمها للعلاقة الزوجية بينهما، إذ أن هناك بعض الروايات التي يمكن الاستفادة منها لإثبات عمق العلاقة الزوجية بينهما كالرواية التي تحكي عن قول الإمام علي (ع) عن علاقته الزوجية بفاطمة (ع) ما يلي: "فوالله ما أغضبتها، ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله عزوجل، ولا أغضبتني، ولا عصت لي أمراً، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والاحزان"[23].
فهذه الرواية مثلاً ترسم لنا صورة مخالفة لما صوره الباحث، حيث نجد فيها ما يشير إلى جود الانسجام الكامل بما يحقق الاستقرار الأسري والتوازن النفسي بين الإمام علي (ع) وفاطمة (ع)، علماً بأن هذه الرواية موجودة في بحار الأنوار للمجلسي، وهو المصدر الذي أكثر الباحث من الإحالة إليه في دراسته.
والسؤال المعتاد والمتجدد هو: على أي أساس رجح الباحث الرؤية التي ذكرها على غيرها رغم وجود روايات أخرى تخالفها ولا تتعارض مع سنن الاجتماع التاريخي؟!
- أما الرواية التي تم الاستشهاد بها –وبغض النظر عن صحتها من عدمه- فإنها وإن كانت تشير إلى قيام الرسول (ص) بالصلح لوجود خلاف بينهما، إلا أنها لم تتعرض لمسألة التوتر المستمر بينهما نتيجةً لقسوة الإمام علي (ع) عليها كما ذكر الباحث، لأن قيام الرسول (ص) بالصلح، لا يعني بالضرورة وجود شدة وقسوة في تعامل الإمام علي (ع) معها، ولا يثبت أيضاً كون هذا التوتر مستمراً، إذ ربما يكون هذا التوتر –على فرض ثبوته طبعاً -عابراً كما هو حال العديد من الخلافات الزوجية.
6) انتقائية الباحث: استشهاداته بالمجلسي نموذجاً
أكاد لا أبالغ لو قلت بأن الباحث يمارس انتقائية لا تخضع لأية أسس أو ضوابط علمية أو منطقية في طريقة اختياره وترجيحه لبعض الأخبار والاحتمالات في بحثه التاريخي عن سيرة فاطمة (ع)، وهذا ما جعله ينتقي من الأخبار وتفسيراتها ما ينسجم مع خلفياته الفكرية ومألوفاته الشخصية، ويتجاهل كل ما لا ينسجم مع ذلك دون الاعتماد على منهجية علمية واضحة ومحددة.
ولعل ما يكشف عن هذه الانتقائية لدى الباحث أكثر مما سبق؛ هو ممارسته الانتقائية ليس بين الأخبار التاريخية المختلفة فحسب، بل انتقائيته لجزء من بعض الأخبار وتجاهله للجزء الآخر دون الإشارة لذلك، كما فعل في محاولته لتصوير عدم رضا فاطمة (ع) عن المهر المقدم لها من قبل الإمام علي (ع) بقوله: "ويبدو أن فاطمة لم تكن راضية النفس عما قدم إليها من صداق أو مهر؛ لذلك نراها تحتج على الرسول قائلة: "زوجتني بالمهر الخسيس"[24].
وهذه الرواية لم يوردها الباحث كاملة، بل اجتزئ هذا الجزء منها فقط، دون أن يوردها بأكملها أو يشير إلى أنه أخذ جزءاً منها على الأقل، لأن الرواية بالكامل هي كالتالي:
عن أبي عبد الله (ع) قال: "إن فاطمة قالت لرسول الله: زوجتني بالمهر الخسيس، فقال لها رسول الله: ما أنا زوجتك ولكن الله زوجك من السماء، وجعل مهرك خمس الدنيا مادامت السماوات والارض"[25].
إن ما لم ينقله الباحث من الرواية يتناسب مع أجواء ما نقله من روايات أخرى في بحثه للمتخيل الإسلامي، حيث تحدت عن ذلك تحت عنوان (الزواج بقرار إلهي) بقوله: "والمشهود من أخبار المتخيل الإسلامي أن هذا الزواج كان بقرار إلهي لم يكن فيه لعلي، ولفاطمة، ولأبيها، رأي مخالف... ولذلك، تأكد أن تزويج فاطمة: "نزل من السماء"[26].
وهكذا نلاحظ أن الباحث يمارس الانتقائية وعلى أعلى مستوياتها، فتارة نجده ينتقي رواية ويعرض عن الروايات الأخرى، وتارة يرجح احتمالاً دون وجود مرجحاً له، وتارة ثالثة ينتقي جزء من خبر تاريخي ويعرض عن الجزء الآخر دون أن يشير لذلك، كما فعل مع رواية المهر، وبالتأكيد أنه يرى أن ما جاء في الجزء الذي لم يورده يتناسب مع بحث المتخيل الإسلامي، لأنه أورد بعض الروايات التي تحكي نفس مضمونه عندما كان بصدد البحث عن المتخيل.
والعجيب أنه مع ممارسته لكل هذه الأمور يوجه سهام نقده لمن أسماهم بـ مدوني الأخبار الخاصة بسيرة فاطمة (ع)، وذلك لأنهم مارسوا عملية اختيار وانتقاء ليس علمياً، إذ يقول: "ونحن لا نتردد في القول: إن تدوين الأخبار الخاصة بفاطمة اقتضى، من مدونيها، إخضاعها إلى عملية اختيار، وانتقاء، في ضوء اعتبارات عديدة أهمها الانتماء المذهبي للمؤلف، وتكوينه المعرفي، وانتظارات قرائه"[27].
وكذلك نراه يقع فيما انتقدهم فيه بقوله: "أن العلماء المسلمين، قدامى ومحدثين، لا يتكلمون، في الغالب، على فاطمة بصفتها التاريخية الواقعية، بقدر ما يتكلمون على صورة لفاطمة مثلما تمثلوها في وجدانهم، وروجوها في صفوف متقبليهم"[28].
والحق أني أجد هذين النصين يعبران بدقة عن الممارسات غير العلمية التي وقع فيها الباحث في هذه الدراسة، لأنه اخضع الأخبار الخاصة بسيرة فاطمة (ع) أيضاً لعملية اختيار وانتقاء في ضوء اعتبارات عديدة أهمها الانتماء الفكري للباحث، وتكوينه المعرفي، وانتظارت قرائه منه، كما أني أجده لم يتكلم في الغالب عن فاطمة (ع) بصفتها التاريخية الواقعية، بقدر ما تكلم عن صورة لفاطمة تمثلها في وجدانه، وروجها في صفوف متقبليه !!
7) الموقف من مسألة انتقال سيرة فاطمة (ع) من التاريخ إلى المتخيل
ما ذكرته من انتقادات للباحث لا يعني بأني أنكر وجود المتخيل في سيرة فاطمة (ع)، إذ لا إشكالية لدي في كون سيرة فاطمة (ع) قد انتقلت من التاريخ إلى المتخيل، بحيث ضخمت أدوارها في المتخيل الإسلامي بما يفوق ما عليه سيرتها في التاريخ الفعلي، ولكن الإشكالية الأساسية في البحث كما أشرنا إليها منذ البداية هي: كيف ميز الباحث بين ما هو تاريخي وبين ما هو متخيل في سيرتها؟ هذا السؤال الذي لم يستطع الباحث الإجابة عنه في مقدمة كتابه رغم محاولاته ذلك، والغريب أنه في نهاية بحثه التاريخي عن سيرتها كرر التأكيد على صعوبة هذا الأمر مجدداً، وذلك في قوله: "ثم إن الانتقال المشار إليه (أي من التاريخ إلى المتخيل) لا يعني قطعاً باتاً بين التاريخ والمتخيل؛ إذ العلاقة بينهما معقدة جداً، على نحو ما بينا في مقدمة هذا العمل"[29].
وبعد ذلك راح يشرح العلاقة بين بحث التاريخ وبحث المتخيل قائلاً: "وآية ذلك أن التاريخ يوفر للمتخيل مادة أولى يتخذها منطلقاً لبناء صورة عن فاطمة مثلما أن المتخيل يعيد قراءة المعطيات التاريخية بطريقة تأويلية رمزية؛ بل كم من خبر متخيل هو، لدى الواثقين به، أكثر تعبيراً عن الحقيقة، وعن اللاوعي الجمعي من أحداث الواقع والتاريخ"[30].
ورغم كون هذا الشرح -الذي يُبين العلاقة بين بحث التاريخ وبحث المتخيل- جميلاً، إلا أنه لم يقدم أي حل فعلي للإشكاليات التي طرحناها منذ مطلع هذا المقال، لأنه لم يحتوي على أي ضوابط علمية صارمة يمكن الاعتماد عليها للقيام بعملية الفصل بين الأخبار المنتمية للبحث التاريخي عن غيرها من الأخبار المنتمية لبحث المتخيل.
8) الباحث بين القراءة التبجيلية والقراءة التحقيرية
ليس هناك أي ضرورة لإثبات كون فاطمة (ع) شخصية هامشية أو أن سيرتها في الواقع التاريخي باهتة جداً لكي نثبت تحولها للمتخيل، كما حرص على ذلك الباحث[31]، حيث يقول: "من أقوى المبررات، التي حملت علماء الإسلام على الانتقال بفاطمة من التاريخ إلى المتخيل، ما لاحظوه من أن الاقتصار على ما هو ثابت عنها في التاريخ مخيب للآمال، وعلة ذلك الحضور الباهت، والمحدود، والمهمش لهذه الشخصية في التاريخ"[32].
وهذا الكلام يصح الاعتماد عليه فيما لو كان مبنياً على إثبات كون ذلك حقيقة تاريخية ثابتة، وهذا ما لم يستطع الباحث إثباته، علماً بأنه ليس بالضرورة أن تكون الشخصية هامشية حتى تتحول سيرتها من التاريخ إلى المتخيل، لأن هناك الكثير من الشخصيات المحورية المهمة كالأنبياء (ع) التي تحولت سيرهم من التاريخ إلى المتخيل، بل أكاد أجزم بأن الشخصيات المحورية المهمة هي التي تكون قابلية انتقالها للمتخيل أكثر من غيرها، وذلك نظراً لتأثيرها الكبير في نفوس المتأثرين بها.
جديد الموقع
- 2024-11-22 عادات قرائية مفيدة
- 2024-11-22 مع أن الأديان تتحدث عن قيمة التواضع الفكري، لكن قد يصعب على رجال الدين بشكل خاص تطبيق ما يدعون إليه الناس
- 2024-11-22 يرجع الفضل في استمرارك في تذكر كيف تركب دراجتك الهوائية إلى منطقة المخيخ في دماغك.
- 2024-11-22 نظرة على البنوك في المملكة.
- 2024-11-22 المخرج الشاب مجتبى زكي الحجي يفوز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان غالاكسي السينمائي الدولي35
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد