2019/09/12 | 0 | 2497
نعم الزينبيات (نَاشِرَات الشُّعُورِ)!
يحتدم الجدال والاختلاف، في مفصل من أهم مفاصل فاجعة كربلاء، التي أستشهد فيها سبط نبينا محمد ﷺ، الحسين بن علي، وأهل بيته عليهم السلام. والمفصل جاء في (زيارة الناحية) عندما قال الإمام المهدي -عُجل فرجه-: "...وَأَسْرَعَ فَرَسُكَ شَارِداً إِلَى خِيَامِكَ، قَاصِداً مُحَمْحِماً بَاكِياً، فَلَمَّا رَأَيْنَ النِّسَاءُ جَوَادَكَ مَخْزِيّاً، وَنَظَرْنَ سَرْجَكَ عَلَيهِ مَلْوِيّاً، بَرَزْنَ مِنَ الخُدُورِ، نَاشِرَات الشُّعُورِ عَلى الخُدُودِ، لاطِمَاتُ الوُجُوه سَافِرَات، وبالعَوِيلِ دَاعِيَات، وبَعْدَ العِزِّ مُذَلَّلاَت، وإِلَى مَصْرَعِكَ مُبَادِرَات، والشِّمْرُ جَالِسٌ عَلى صَدْرِكَ، وَمُولِغٌ سَيْفَهُ عَلى نَحْرِكَ، قَابِضٌ عَلى شَيْبَتِكَ بِيَدِهِ، ذَابِحٌ لَكَ بِمُهَنَّدِهِ، قَدْ سَكَنَتْ حَوَاسُّكَ، وَخفِيَتْ أنْفَاسُكَ، وَرُفِع عَلى القَنَاةِ رَأسُكَ".
هذه الزيارة يجزم العلماء بصحتها. والمتذوق للكلمة والسرد اللغوي، يقف مذهولا من جمال المعاني، وسبك الكلمات وجزالة الألفاظ، فلا يمكن بأي حال من الأحوال توهين الزيارة، أوالتشكيك فيها، أوببعضها. وكذلك من جهة ثانية يوجد من يعترض على صحتها بوجاهة استحالة أن تكشف الزينبيات بما فيهم بطلة كربلاء عن (شعرها) أمام الأعداء الأغراب. وهذه الجزيئية في أدبيات كربلاء، تسببت وتمظهرت من خلالها سجالات ومجادلات واحترابات. من ذلك عندما تعرض سماحة السيد محمد رضا السلمان - بوعدنان- لهذه الحيثية في خطبة له بمسجد الإمام الحسين بالمبرز، باستنكار ورفض كشف السيدة زينب شعرها أمام الأعداء، قامت الدنيا عليه. والغريب عندما تعرض أحد العلماء من خارج الوطن لنفس الموضوع لم يعترض عليه أحد، وقُبل منه بل وتسابقت القروبات التواصلية في عرض ما تطرق إليه في نفس المضمون.
وبعد التمعن في هذه المسألة وجدتُ أن كلا الفريقين حجته صحيحة. وأعني أن (زيارة الناحية) صحيحة المتن بوجاهة، ووثاقة علمائنا. وبالمقابل من رفض أن زينب وبقية الزينبيات كشفن شعورهن كذلك كلامه ومنطقه صحيحاً. وللتوفيق بينهما نورد ذلك عبر محورين نتطرق فيهما بالتحليل والمنطق وبالاتكاء على اللغة العربية وموروثها اللغوي.
1- معنى ناشرات
لنتصور أنفسنا في ساحة كربلاء، عندما وصل الفرس المثخن بالجروح، وقد امتزج دمه بدم الحسين عليه السلام. في هذه الحالة سيكون موقف السيدة العظيمة التعبير عما يختلج في وجدانها مما ينضح من سويداء قلبها، من فجيعة وآلام. ولأنها من بيت هاشمي (كبيرهم لا يقاس، وصغيرهم جمرة لا تداس) هنا من الطبعي و (ليس الطبيعي) أن تعبر هي وبقية الزينبيات عما تكتنفه صدورهن من مآسي. هذه الحالة والفضفضة والشقشقة ببساطة (نشر) وهي كلمة نتناولها حتى يومنا هذا، ففي شبكات التواصل. قولنا (لقد نشرت مقطعاً) أو (لا تنشر مقاطع غير مرغوب فيها) ومن الاشتقاقات (نشرة الأخبار) وغيرها.
وهذه الكلمة متجذرة في الموروث اللغوي من ذلك قول الشاعر:
فإِنْ تَضْرِبِ الأَيامُ يَا مَيّ بينَنا ...
فَلَا ناشِرٌ سِرّاً وَلَا مُتَغَيِّرُ.
وكذلك قول الشاعر:
وغُودِرَ عِلْوَدٌّ لهَا مُتَطاوِلٌ ...
نَبيلٌ كَجُثْمانِ الجُرادَةِ ناشِرُ.
وكذلك قول شاعر آخر:
إِلَّا كناشِرَةِ الَّذِي ضَيَّعْتُمُ ...
كالغُصْنِ فِي غُلَوائِه المُتَنَبِّتِ.
إذن يتضح لنا أن كلمة (ناشر) بمعنى ظاهر وهو أسم الفاعل ويجمع (ناشرات) للمؤنث. وعندنا في (الأحساء الخلاقة) قول النساء (نشرت الثياب على الحبل) فالثيات إذا نشرت على الحبل (كشفت) ويسهل معرفتها.
وفوق كل ما تقدم قوله تعالى: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) وكثير غيرها كقوله: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً) وغير ذلك.
2- معنى الشعور
في حالة مأساوية وفي مفصل مأساوي، يندى له جبين الإنسانية (أسرع الفرس شارداً إلى الخيام). ورأته بطلة كربلاء، هذه صورة متحركة لأحد أحداث كربلاء. والسؤال أيعقل إمرأة عظيمة بحجم بنت أعظم وأفصح وأبلغ من نطق باللغة العربية (صوت العدالة الإنسانية) وهو الإمام علي. أن (تنشر شعرها) وتكتفي بذلك كردة فعل. وهي التي زلزلت القصر الأموي بخطبتها أمام يزيد ووزارائه، وحاشيته؟
إذن ما المقصور بلفظة (الشعور)؟
الشعور جمع مشاعر، وفي الحالات الحالكة العصيبة، من الطبعي أن يفصح وينشر الإنسان أحاسيسه (مشاعره). وجدير ذكره أنه من جمال اللغة العربية أن اللفظة الواحدة لها معان متعددة تنسجم مع الوشائج المشتركة، منها لفظة (الشعور) فهي أحاسيس يستشعرها المرهف الحس الذي يختزن في ذاتيته إنسان رقيق بستشعر ما يحيط به ويتجاوب. ومما يدعم هذا السياق قول الشاعر:
ما الشعرُ إِلا شعورُ المرءِ يرسلُهُ ...
عفَو البديهةِ عن صدقٍ وإِمانِ.
وأيضاً يقول الشاعر:
الشاعرُ الحقُّ من يجلو الشعوُر له ...
شمساً من الَحْي في داجٍ من الظلمِ.
ومن زاوية أخرى (الشعور) شعيرات ضعيفة رقيقة تتمايل وتتجاوب مع المحيط الخارجي فإذا كانت الأجواء والأهواء شديدة تحركت خصال الشعر يمنة ويسرة. وتسكن (الشعور) إذا سكن الهواء. إذن الشعور هي أحاسيس رقيقة تتحرك وفق الأحداث. من هنا ينجلي وجه الشبة والقاسم المشترك بين (الشعور) الأحاسيس، وبين (الشعور) زينة النساء والتاج الذي يكسي فروة الرأس.
وما قصده الإمام الحجة كما أعتقده، هو (الشعور العاطفي) حسب مقتضى الحال، فالنساء أكثر عاطفة من الرجال في التعبير عما يختلج في صدورهن، من هنا نرى أمهاتنا وأخواتنا إذا نزلت نازلة في وفاة عزير، نراهن أكثر قدرة في التعبير في سرد و (نشر) كل المشاعر والاحاسيس المرتبطة بالفقيد.
ومما يدعم هذا البحث، تماسك وارتباط كلمات (زيارة الناحية) بحيث نراها تفسر كلماتها بعضها بعضاً. ولتوضيح ذلك نتصور ونتخيل فجيعة كربلاء وبالتحديد وقتما نضحت الزينبيات بما في صدورهن. لو أردنا أن نصف حالة السيدة زينب بعد أن (نشرت) والبقية ما تقلقل في صدروهن، وأصبحن (ناشرات الشعور)؟ بماذا سيكون الوصف الدقيق لحالتهن وقتذاك؟
إجابة لذلك، سيكون الوصف ببساطة حسب المتداول عندنا قولنا أن الزينبيات قالوا اللي في (خاطرهن). أي كل اللي يترجرج ويتقلقل في صدورهن، عبروا عنه ونشروه. وهذا بالتمام والكمال ما عبر عنه الإمام المعصوم في زيارته بقوله: (...بَرَزْنَ مِنَ الخُدُورِ، نَاشِرَات الشُّعُورِ عَلى الخُدُودِ، لاطِمَاتُ الوُجُوه سَافِرَات). بعد ذلك تكون الزينبيات قد نشرن ما عندهن. والنتيجة أن ذلك بمجمله (أسفرن) ومعناه: (كشفن) . ومن هنا سمي السفر سفراً لأنه (يسفر) ويكشف ويظهر عما في بواطن النفوس. وكأنما أراد الإمام أن يوصف لنا الموقف، بأنه في الوقت الذي تلطم فيه الزينبيات وجوههن فإنهن (سافرات) أي كاشفات ومبينات خزي جيش بني أمية.
وبهذا تكتمل الصورة الكربلائية، في مفصل كثر الجدال فيه، إذ عندما جاء الفرس للخيام، تفاعلن الزينبيات وجدانياً وتيقين باستشهاد سيد شباب أهل الجنة. حينها نشرن شعورهن، وأظهرن كل ما يضطرب في صدورهن. وبعد ذلك نستطيع أن نصف الحالة أن الزينبيات (أسفرن) وقلن وأفصحن ما في خلدهن. وبهذا تتكامل الصورة من حيث ردة الفعل. وبعد أن لطمن الخدود كتفاعل جسدي، نشرن ما يختلج في صدورهن، وأسفرت عما في قلوبهن. بعد ذلك يأتي الالتجاء إلى الله، وهو ما عبر عنه الإمام في زيارته: (وبالعَوِيلِ دَاعِيَات). وبذا تكون الصورة المأساوية كاملة إبتداء من البروز من الخيمة والتفاعل جسدياً بضرب الخدور، والتفاعل بيانياً، ووجدانياً بالدعاء. ويواصل الإمام في توصيف الفجيعة في تسلسل زمنكاني وكأنك في شريط سينمائي أنتجته أكبر الشركات بقوله: "...وبَعْدَ العِزِّ مُذَلَّلاَت" وهو تصوير دقيق لما حل بالزينبيات إبتداء من استشها الحسين وحرق الخيام، وانتهاء بترحيلهن مكبلات إلى يزيد.
الفكرة:
من يأخذ ويتمسك بصحة (زيارة الناحية) فرأيه وتمسكه صحيحاً. على أساس أن (كاشفات الشعور) تعني كشفن وعبر عما في يموج في صدور الزينبيات من شعور إزاء مفصل من أفجع المفاصل الكربلائية.
ومن يأخذ ويتمسك برأي استحالة أن تكون الزينبيات (ناشرات الشعور) فرأيه وتمسكه صحيحاً، وهذا ما تم بيانه في البحث. وبالتالي إذا أخذنا بهذا البحث تحل مشكلة كبيرة تسببت في احتربات ومناكفات بين العلماء، ومحاولة تضعيف وتوهين (زيارة الناحية). أما إذا أخذنا بما جاء في هذا البحث، فيكون التوفيق بين الاتجاهيين، وانتهاء من هذه الجزيئية من خلال تحليل النص والاتكاء على فهم النص لغوياً.
جديد الموقع
- 2024-09-26 افراح العبدالله والشقاق تهانينا
- 2024-09-25 سمو محافظ الأحساء يطلع على مبادرة التعليم "نعاهدكم ببناء جيل منافس عالمياً"
- 2024-09-25 مؤسسة البريد السعودي | سبل تصدر طابعاً تذكارياً بمناسبة اليوم الوطني السعودي الـ 94
- 2024-09-25 برلمان الطفل العراقي حاضرا في معرض بغداد الدولي للكتاب
- 2024-09-25 رئيس مركز يبرين يهنئ القيادة بذكرى اليوم الوطني ال 94
- 2024-09-25 ( في رثاء المعلمة بتول الحمادة )
- 2024-09-25 اليوم الوطني 94 في دائرة الأوقاف والمواريث بالأحساء
- 2024-09-24 أفراح البخيتان وسادة الحسن تهانينا
- 2024-09-23 أمين عام جمعية البر بالاحساء م. صالح بن عبدالمحسن ال عبدالقادر: اليوم الوطني ليس مجرد ذكرى
- 2024-09-23 حسين الجسمي يصدح في حب السعودية بأغنية "الفخر من هنا" في اليوم الوطني الـ 94