2013/06/03 | 0 | 4017
الشهادة على الزنا بين المعاينة واليقين
وبعبارةٍ أخرى هناك أربع نقاط للبحث في هذه المسألة هي:
1ـ هل يعتبر في الشهادة على الزنا كون الشهادة على خصوص إدخال الرجل عضوه الذكري في فرج المرأة أو أنّه تكفي الشهادة على ملازمات ومقدّمات هذا الأمر كالشهادة على كونهما عاريين أو ما شابه ذلك؟ بمعنى ما هو موضوع الشهادة هل هو كونهما عاريين أو على فراشٍ واحد أو في بيت واحد أو أن الموضوع هو الإدخال؟
2ـ هل يعتبر في الشهادة العلم واليقين أم أنّه يكفي الظن وما كان من قبيله؟
3ـ اذا اشترطنا العلم هل يلزم أن يكون حاصلاً عن طريق الرؤية بحيث لا عبرة بالعلم الناشيء من الحواس الأخرى كاللمس أو العلم الحاصل من الحدس والتحليل؟ وهل يشترط في هذه الرؤية أن تكون مباشرةً للإدخال بحيث لا يكون محطّ النظر شيءٌ فيما متعلّق اليقين الناتج عن هذا النظر شيءٌ آخر، وهو الإدخال؟
4ـ هل يُشـترط في الشهادة النصوصية والصراحة بحيث يلزم كون عبارة الشاهد نصاً صريحاً في الزنا أم أنه يكفي الظهور العرفي لهذه العبارة في إفادة معنى الزنا الذي هو الإدخال؟
والذي يبدو ـ كما أشار إليه بعض الفقهاء المعاصرين [2] ـ أنه قد حصل نوعٌ من الخلط والتداخل بين هذه النقاط الأربع في المباحث الفقهية هنا، وتجنّباً لهذا التداخل المخلّ بحركة البحث ونظمه نفترض هنا على صعيد النقطة الأولى أن الشهادة لابد أن تكون على الإدخال والإخراج؛ لأن ذلك هو الزنا بحسب التعريف الفقهي له، لا على مقدمات هذا الفعل ومصاحباته. كما نفترض على صعيد النقطة الثانية ـ كما هو الموقف المعروف فقهياً في كتاب الشهادات ـ اشتراط العلم في الشهادة وعدم إجزاء الظن ونحوه، وهكذا نغضّ الطرف ونبني على لزوم الصراحة في شهادة الشاهد على صعيد النقطة الرابعة، وإنّما نفرض هذه الاحتمالات لا نقيضها حتى نحاول الحدّ من تأثير مواقف فقهية في بعض هذه النقاط على النقطة مورد بحثنا، والتي هي النقطة الثالثة بحسب عرضنا المتقدّم؛ وذلك تحسّباً لكافّة الاحتمالات، فإذا بُني مثلاً على كفاية الشهادة على المقدّمات فإنّ هذا يترك تأثيره في مسألتنا حيث تصبح رؤية وضعية الفاعلين كافيةً في الحد.
فالمسألة التي يبحث عنها هنا هي هل يشترط في الشهادة على الزنا رؤية نفس الإدخال والإخراج أو أنه يمكن الشهادة عليهما ـ وبالتالي على الزنا ـ بواسطة رؤية أو إحساس أمرٍ آخر يجعل الشاهد على يقين بحصول الإدخال؟
بالرغم من حصول شيءٍ من التشويش في فهم كلمات الفقهاء المسلمين في هذه المسألة نظراً لعدم وضوح الكثير من العبارات في تحديد ما تقصده، لاسيما وأن الكتب الفقهية القديمة كان يغلب الاختصار عليها، بحيث يكتفي الفقهاء بتعبيرٍ مصغّر قد لا يوحي ببساطةٍ بكامل المطلوب هنا... فهل يقصد من اشتراطه الشهادة على أنّه كان كالميل في المكحلة حسب التعبير الفقهي المتداول أنه لابد من الرؤية البصرية المباشرة لذلك أو يقصد أن ما يشهد عليه هو ذلك ولو رأى ما يفيده القطع به لا هو بعينه؟
بالرغم من هذا التشوّش، غير أن الذي يبدو هو وجود ثلاثة مواقف فقهية في هذه المسألة هي:
الموقف الأوّل: وهو الموقف الذي يذهب إلى اشتراط الرؤية البصرية المباشرة لنفس الإدخال والإخراج أو للإدخال فقط أو للدخول، وقد أيّد هذا الموقف جماعةٌ من الفقهاء المسلمين [3] ، بل نصّ السيد الخونساري في جامع المدارك على أنه هو المعروف [4] ، ونصّ بعض الفقهاء المعاصرين على أنّ ظاهر الفقهاء الإجماع عليه، وأنه لا إشكال ولا خلاف فيه [5] ، وقد صرّح عبدالرحمن الجزيري باتفاق الفقهاء من المذاهب الأربعة على شرط المعاينة [6] .
الموقف الثاني: وفي مقابل الموقف الأوّل، تبرز وجهة نظرٍ تقول بأن النقطة الجوهرية في مسألة الشهادة على الزنا ومصداقيتها القضائية هو العلم الجزمي الذي يحصل للشاهد بفعل اطلاعه على ما يشهد عليه ولو من غير طريق الاطلاع البصري المباشر على عملية الإدخال، فهذا الوضوح الذي يملكه الشاهد نتيجة ذلك هو الذي يمنح القيمة لشهادته هذه [7] .
غير أن هذا الوضوح لابد أن لا يكون ناشئاً من عمليات تحليل أو محاسبات ذهنية صرفة بل لابد أن ينبثق عن هذا الاطلاع الحضوري لدى الشاهد، بمعنى أن الشاهد يستبطن في شخصيته القانونية واللغَويّة حضوره لما يشهد عليه، لا يقينه به حتى لو لم يحضره، وهذا الاستثناء يمكن استنتاجه من مطاوي المناقشات المبرزة من قبل أصحاب هذا الموقف، فهم يقرّون بخصوصية الحضور في الشاهد وهو ما يعني استبعادهم القول بحجية الشهادة التي حصل فيها الشاهد على يقين تحليلي تأمّلي.
والمسألة الإضافية في هذا الموقف والتي تميّزه عن الموقف الأوّل هو فيما يمنحه للشاهد من حرّية في الحركة في مجال الوسائل التي تمنحه اليقين النهائي بما يشهد عليه، فهو لا يحصر الوسيلة بحاسّة البصر كما لا يحصر البصر بالمعاينة لنفس الإدخال.
الموقف الثالث: وهو الموقف القائل بالتفصيل بين الحدود؛ فحدّ الجلد لا تُشترط فيه المعاينة فيما حدّ الرجم يشترط فيه ذلك، وقد نُسب هذا القول إلى الشيخ الطوسي [8] ، كما يظهر من العلامة المجلسي الميل إليه أيضاً [9] .
وبين هذه المواقف الثلاثة يلاحظ عدم تعرّضٍ من جانب العديد من الفقهاء لهذا البحث إما لأنهم لم يتعرّضوا لهذا الفصل أصلاً [10] أو لتعرّضهم له دون الإشارة إلى موقفٍ في خصوص مسألتنا هنا [11] .
وعلى أية حال سوف نحاول هنا ملاحظة الوجوه والأدلّة التي اعتمدت عليها الأطراف لتدعيم مواقفه.
1ـ اتجاه شرط المعاينة مطلقاً، الوجوه والأدلّة [12]
وأهم ما سجّل كأدلةٍ على هذا الرأي أمور:
الأول: الأخذ بقاعدة «الحدود تُدرأ بالشبهات»، وذلك بتقريب أن المورد من موارد الشبهة، حيث يشتبه الأمر لدى قيام الشهود بالشهادة مع عدم رؤيتهم المباشرة للإدخال، ومعه فتطبق هذه القاعدة الفقهية ويدرء بذلك الحد، وهذا ما ينتج اختصاص إجراء الحدّ بصورة الشهادة البصرية عن معاينة.
ولتحقيق الحال هنا لابد من دراسة هذه القاعدة بعيداً عن علاقاتها وتطبيقاتها ومواردها، فالذي يبدو أن هذه القاعدة مما أخذ به كافّة المسلمين عدا المذهب الظاهري [13] ، ومن هنا فقد ادعي قيام الإجماع عليها [14] ، وعلى حد تعبير بعض الفقهاء: إنّ هذه القاعدة مما أرسل إرسال المسلمات واستدل بها لا عليها [15] ، لكن المسألة في هذه القاعدة تكمن في تفسيرها أوّلاً، وبيان مدركها ثانياً.
يمكن بيان مجموعة تفسيرات لهذه القاعدة هي:
1ـ ما ذكره بعضهم ـ وهو ما يمثّل المقدار المتيقن من القاعدة حسب تتبع الكتب الفقهية التي ذكرت مجموعةً كبيرة من النماذج التي تصبّ في صالح هذا المقدار ـ من أن القاعدة تعنى «عدم إقامة الحد على العمل الذي يقع اشتباهاً، فالمراد من الشبهة هنا هو تحقق العمل الذي عليه الحد مع الجهل بالموضوع أو الحكم كما هو الحال في الوطء عن شبهة…» [16] .
وهذا التفسير للقاعدة يحصر مدلولها بالشبهة من طرف المتهم بالزنا نفسه، ويدرء بها عن القاضي أو الشهود أو غيرهم، فالفاعل إذا قام بالعمل الذي تترتب عليه عقوبة معينة، لكنّ إتيانه بهذا العمل كان عن شبهة حكمية أو موضوعية لم يترتب عليه الحد، وهذا التفسير للشبهة هو ـ كما يراه بعضٌ ـ نفس «ما يسمّى اليوم في عرف القانون الوضعي بظروف التخفيف وإن كانت الشبهة أقوى، لأن ظروف التخفيف لا تمنع العقاب ولكنها تجعله خفيفاً على الجاني» بخلاف الشبهة التي قد ترفع العقاب من أساسه [17] .
وهذا المقدار من التفسير تدعمه ـ بعيداً عن أدلة القاعدة المشهورة ـ الأصول المقرّرة دينياً، سواءٌ على صعيد علم الكلام أم أصول الفقه أم التحديدات العامة للجرائم في الفقه نفسه حيث أُخذت العمدية المختزنة للعلم في تعريف الزنا المعاقب عليه.
2ـ أن تعني القاعدة طروّ الشبهة من طرف القاضي نفسه، بمعنى أنّ هذا القاضي مطالب بتحصيل كافّة الشروط المأخوذة في عملية إصدار الحكم، وهذا ما يتطلب منه الفراغ عن مرحلة التحديد حكمياً فيستكمل الصورة الاجتهادية للمسألة مورد البحث وفق القواعد المقررة عنده لاستنباط الأحكام، فلو شك في لزوم شاهدٍ خامس في الزنا لا يحق له إصدار الحكم على أساس أربعة شهود ما لم يفرغ عن الدراسة الاجتهادية للمسألة، لكن الشبهة هنا بهذا المعنى يفترض بها أن تزول بعد فراغ المجتهد عن التحقيق بالتمسك بأمارة أو أصل أو مع القطع بحكمٍ ما لا فرق في ذلك، هذا على صعيد الشبهة الحكمية.
أما على صعيد الشبهة الموضوعية، فالأمر كذلك فلو لم يحرز الحاكم عدالة الشهود مثلاً درء الحد عن الجاني حتى تقوم أدلةٌ حجّة ومعتبرة على عدالتهم.
وهذا المقدار من التفسير تستدعيه أيضاً الأدلة العامة في الفقه وأصوله، فمقتضى هذه الأدلة العمل عن بينةٍ اجتهاديّة وتحديد مفردات القضية خارجاً، وهذا ممّا لا يُظن أن فيه خلافاً بين الفقهاء والقانونيين.
3ـ أن تعني القاعدة أيضاً عروض الشبهة من طرف القاضي نفسه، لكن بمعنى الشبهة الواقعية، أي اشتباه الواقع، وهذا معناه ـ حكماً أو موضوعاً ـ أن ما يزيل القاعدة المذكورة ليس سوى انكشاف الواقع للحاكم انكشافاً قطعياً، فلو انكشف انكشافاً ظنياً ولو بدليل معتبر لم يكف، ونتيجة ذلك حصول نوعٍ من المعارضة بين الأمارات والنصوص الواردة في القضاء وبين هذه القاعدة، فالأمارات تقول مثلاً بأن الظهور العرفي في شهادة الشاهد كافٍ، لكن مفاد هذه القاعدة درء الحد في مورد الظهور هذا إذا لم توجب الأمارات القطع للحاكم.
والحال كذلك على صعيد الأصول العملية الجارية في باب القضاء، فقد يدّعى بأن ظاهر هذه القاعدة هو التقدّم على هذه الأصول.
4ـ أن يكون المراد بالقاعدة حصول الشبهة لدى القاضي والجاني إما على نحو المجموعية كما هو أبعد احتمالات التفسير لها، أو على نحو الجميعية بمعنى كفاية طروّ الشبهة بالنسبة لأحدهما، وهذا الاحتمال سوف يشمل حينئذٍ التفسيرات الثلاثة المتقدّمة.
وتطبيقاً للقاعدة في المورد هنا، يلاحظ أن التفسير الأوّل لا علاقة له بالبحث هنا، ذلك أننا نفترض وقوع الفعل من الزاني عالماً عامداً حكماً وموضوعاً، أما التفسير الثاني فهو الآخر غير شاملٍ، ذلك أن المفترض عدم وجود شبهة موضوعية لدى الحاكم، والشبهة الحكمية يُفترض ـ بعيداً عن الحيثيات الأخرى التي فرغ منها الفقيه سلفاً ـ أننا بصدد البحث عن حلّ لها فإذا لم نتوصّل إلى حجّة شرعية معينة تحلّ المشكلة جرت القاعدة وإلاّ فلا.
أمّا التفسير الثالث فهو مورد الكلام، لأنّه شامل لمسألتنا حيث يفترض أن لدينا شبهةً واقعية، إذ لا دليل قطعي على رأي من الآراء ولو تسنّى لفقيه تحصيل اليقين بالواقع الحكمي والموضوعي لبطل مورد القاعدة هنا. وبهذا يتضح حال التفسير الرابع فيما يتصل بمسألتنا.
ذُكرت وجوهٌ عديدة لإثبات هذه القاعدة ـ كما اختلفت الأقوال بين من اعتبرها نصيةً وبين من خرّجها على أساس آخر ـ هي:
1ـ وهو الأساس فيها، وهو الحديث النبوي المعروف: «ادرؤا الحدود بالشبهات» [18] ، فإنه يدل على أن عروض الشبهة يوجب درأ الحدّ مطلقاً، وما نحن فيه من هذا القبيل.
لكن هذا الحديث قابلٌ للمناقشة:
أولاً: بالضعف السندي فيه كما ذكره غير واحد [19] ، أمّا من طرق الشيعة الإماميّة فلم ترد الرواية إلاّ في فقيه ومقنع الصدوق وفي كتاب دعائم الاسلام، لكنها في الجميع مرسلة، فإن بُني على حجية مراسيل الصدوق لاسيما المصدّر منها بـ «قال» تثبت هذه الرواية، وإلا ـ كما هو الأظهر وفاقاً للسيد الخوئي [20] ـ سقطت الرواية عن الحجية.
وربما يناقش: إن هذا الحديث مشتهر بين الفقهاء كافة وقد تلقوه بالقبول [21] ، بل هو مما أخذت به القوانيـن الوضعية [22] ، بل إنـه مما تواتر لدى الفريقين [23] ، بل إن كثرة طرقه ونقله بروايات كثيرة عن النبي| يؤكّدان صحة نسبته إليه [24] ، والذي يشهد على الاعتراف به لدى الفقهاء ورود تعبير درء الحدود بالشبهات في موارد كثيرة جداً من كلماتهم، وهذا التعبير لا مرجع آخر له سوى هذا النبوي فإنّ تشابه التعبير يمثل شاهداً واضحاً على نفوذ هذا النبوي في المباحث الفقهية، ومثل هذه الشهرة كافية لمنح الحديث الاعتبار.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بأن اشتهار القاعدة لا يعني الاعتراف بهذا النبوي، ذلك أن هذه القاعدة ممكنة التفسير من دون هذا النص، والفقهاء حينما استعملوا هذا التعبير أوردوه في موارد وطء الشبهة وأمثاله كما تشهد بذلك موارد الاستعمال الكثيرة له عندهم مما يلاحظ بوضوح لدى تتبّع كلماتهم، وهذه الموارد قامت الأدلّة المختلفة على درء الحد فيها بعيداً عن هذا النبوي، فمن غير المعلوم استنادهم إليه فيها، وأما استخدام التعبير نفسه فلا يوجد ما يمنع من تفعيل الفقهاء لهذا التعبير، نظراً لدقّته واختصاره، في التوظيف في موارد حصل القبول بالدرء فيها من أدلةٍ أخرى.
وأمّا من طرق أهل السنة، فهو حديث مرفوع وموقوف كما ذكره بعض الباحثين [25] ، ولا تشفع فيه المحاولات المتقدّمة للتصحيح لنفس الأسباب، كما لا ينفع ما ذكره البعض من أنه ولو كان ضعيفاً سنداً بيد أنه تامٌّ متناً وموافق للعقل [26] ، فإن هذا لو تمّ كفت فيه الأدلة الأخرى التي أتمته ولم نعد بحاجةٍ إلى هذا الدليل، وإلا فمجرّد كونه موافقاً للاعتبار لا يعني الأخذ بمضمونه بلا دليلٍ مستقل.
والمتحصّل أنّ هذا النبوي ضعيفٌ بالإرسال.
نعم إذا فسّرنا الشبهة بما فُسّرت به في مباحث البراءة من علم الأصول ـ كما فعله السبزواري في المهذّب ـ كفت أدلة البراءة هناك على هذا المعنى للشبهة [27] الذي لا يتجاوز التفسيرين الأولين حتماً، وصار البحث عن السند هنا أمراً لغواً.
ثانياً: ما ذكره بعض الفقهاء من أن الحديث خاصٌّ ظاهراً بالشبهة لدى الفاعل لا الحاكم؛ ذلك أنّ ظاهر الحديث التأسيس لأمرٍ جديد، واذا كان المراد الشبهة لدى الحاكم فقد الحديث تأسيسيته، إذ إنه لم يقل أحدٌ من المسلمين بأنه مع قيام البينة الشرعية يمنع الحاكم من إجراء الحد، كما أن عدم إقامته الحدّ عند عدم الدليل الشرعي مما لا يحتاج إلى نص تأسيسي لوضوحه، والمتحصّل أن ظهور الحديث في التأسيس مانعٌ عن شموله للحاكم فيكون مختصّاً بالفاعل كوطء الشبهة [28] .
لكن هذه المناقشة قابلةٌ للجواب:
أ ـ بالنقض، إذ المسألة على نفس المنوال من طرف الفاعل، أفهل يناقش أحدٌ من المسلمين في عدم ثبوت عقوبةٍ على الوطء شبهة؟ ألا تقرّر ذلك أدلتهم الكلامية والأصولية بعيداً عن هذا النص؟ وألا تستدعيه الطبيعة الإنسانية العقلائية الحاكمة في مثل هذه الموارد؟ فإذا كانت التأسيسية غير واضحة في مورد الحاكم فلا جزم بأنها أقلّ وضوحاً في موارد الفاعل.
ب ـ بالحل، فلو حافظنا على ظهور الحديث في التأسيسية، فلا يوجد ما يمنع من شموله للحاكم، ذلك أن هذا الحديث نبويّ أي في بدايات تكوّن المنظومة الحقوقية والمفاهيمية الدينية، وبالتالي فلا يمكن مقارنة الوعي العام الحقوقي عند المسلمين اليوم بما هو في بدايات زمن الرسالة، ولعل الرواية صدرت في بدايات الهجرة النبوية حيث لم يكن المسلمون على دراية بالأحكام القانونية الإسلامية، وصدور مثل هذا الحديث ـ للتنبيه على ضرورة تحصيل القاضي للثبوت الشرعي فيما يحكم به ـ في مثل هذا الجو مما لا غرابة فيه ولا منافاة للتأسيس، بل حتى خبر المقنع المنقول عن أمير المؤمنين× لا بُعد في صدوره على هذا النحو بعد أن كانت الكثير من النصوص التي أتت في زمن الأئمة^ على هذه الشاكلة بحسب اختلاف موضوعاتها ووعي المسلمين لها.
ثالثاً: إنّ هذا الحديث يدل على أبعد تقديرٍ على التفسير الأوّل والثاني المتقدّمين للقاعدة، وهما كما تقدم مما لا يبدو أنه يناقش فيهما أحد [29] ، أما التفسير الثالث فهو غير محتمل؛ إذ لازمه تعطيل الحدود كافة ونقض غرض الشارع من وراء مئات النصوص التي أطلقها حول الحدود بمختلف أنواعها، إذ لا يخلو موردٌ من شبهةٍ بهذا المعنى فإذا أريد درء الحد حتى في هذه الموارد لما كان هناك معنى لتشريع باب الحدود.
نعم، يمكن القبول بالتفسير الثالث للحديث فيما إذا كان مدرك الفقيه في مورد ما أصلاً عملياً كالاستصحاب، فإن ظاهر النبوي ـ بناء على التفسير الثالث أو ما يشمله كالرابع ـ التقدّم على هذا الأصل، ذلك أن مورد النبوي أخصّ من مورد الأصول العامة العملية فلا يبعد تقديمه عليها عرفاً، فلو أحرز الحاكم محكومية شخصٍ ما بعقوبة الجلد لكنّه شك في إجراء الحد عليه عملياً لا يمكنه استصحاب عدم الإجراء لترتيب الحد؛ لأن النبوي مقدّم عليه هنا عرفاً، أمّا نكتة هذا التقديم العرفي فلها محلٌ آخر.
2 ـ ثاني أدلّة قاعدة الدرء هنا هو ما دلّ على درء الحدّ عن المسلم قدر المستطاع وأشباه ذلك وما دلّ على عدم الرجم مع الظن بلا بينة، وهي:
أ ـ خبر ابن عباس أن رسول الله| لاعن بين العجلاني وامرأته، فقال شدّاد بن الهاد: هي المرأة التي قال رسول الله|: «لو كنت راجماً أحداً بغير بينةٍ لرجمتها؟» فقال: لا، تلك امرأةٌ كانت قد أعلنت في الإسلام [30] .
ب ـ وعن ابن عباس أيضاً قال: قال رسول الله|: «لو كنت راجماً أحداً بغير بينةٍ لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها» [31] .
ج ـ ما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله|: «ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً» [32] .
د ـ ما عن عائشة زوج النبي| قالت: قال رسول الله|: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرجٌ فخلّوا سبيله، فإن الإمام أن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة» [33] .
فظاهر هذه الروايات ـ كما استدل به بعض [34] ـ هو السعي للتوقف في إجراء الحد قدر المستطاع وما أمكن التماس المخرج والعذر للجاني وهو ما يفيد مؤدّى القاعدة ويمثّل تطبيقات عملية لها، ويشمل بالتالي ما نحن فيه.
والجواب أولاً: إن الروايتين الثالثة والرابعة ضعيفتان من الناحية السندية حتّى وفق القواعد السندية المقررة لدى أهل السنة كما ذكره الشوكاني وغيره [35] ، نعم صحّح الشوكاني الرواية الأخيرة لكن موقوفةً غير متصلة بالنبي| وهو ما سيأتي الحديث عنه لاحقاً.
ثانياً: إن الخبرين الأوّلين لا يدلان على أزيد من التفسير الثاني المتقدّم للقاعدة، وقد سبق أن قلنا بأن هذا التفسير تقتضيه الأدلة العامة فقهاً وأصولاً.
ثالثاً: إنّ الخبرين الأخيرين لا يفيدان ما يزيد عن النبوي المتقدّم؛ إذ المفروض أن المراد بما استطعتم الاستطاعة المبررّة شرعاً وفق القواعد المقرّرة لا الاستطاعة التكوينية؛ إذ لازم الأخيرة تعطيل الحدود وسدّها بالكلية، وليس لازماً لها فحسب بل تكون الرواية دالةً على ذلك وهو غير محتمل، والظاهر من هاتين الروايتين أنّ على الفقيه البحث في مخارج يمكن أن ترفع حجية الأدلة وتسقط اعتبارها، أما مع اكتمال الإثبات الشرعي والقانوني فلا معنى لهذه الروايات حينئذٍ؛ لأنها تفترض التعليق على وجود المدفع والمخرج والمفروض عدمه.
3 ـ مجموعة النصوص الواردة عن الصحابة مما يفيد هذا المدعى سواءٌ على مستوى القول أم الفعل، نحو ما ورد عن ابن مسعود أنه قال: «ادرؤا الحدود بالشبهة»، وما روي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان من أنهما عذرا جاريةً زنت وهي أعجمية، وادعت أنها لم تعلم التحريم، وغيرها من الروايات [36] .
بيد أن هذه الروايات لا تمثل بنفسها حجةً شرعيةً ما دامت لم تصدر عن صاحب الشرع نفسه، بيد أنه يمكن أن يدعى بأن كثرة هذه النصوص والأفعال الصادرة عن المتشرعة يمكنها أن تشكّل كاشفاً عن الموقف الشرعي، ولكن ذلك إذا تمّ لا يفيد أزيد من التفسيرين الأوّلين للقاعدة، كما يُلاحظ من الروايات نفسها بوضوح.
4ـ أصالة الاحتياط إمّا المطلقة أو في الأموال والدماء والفروج [37] ، والتي استوحاها الفقهاء من نسيجٍ مترابط سيّال في المصادر الدينية القانونية والأخلاقية، ولعل هذه الأصالة هي المآل الحقيقي لقاعدة الدرء في كلماتهم.
والملاحظة التي يمكن تسجيلها على هذه الأصالة هي أنه من غير المفترض أن تكون مرجعاً للفقيه في استنباط الأحكام وتبيين الحدود والامتدادات لها كما هو المقرّر في مباحث البراءة من علم أصول الفقه، إذ لا يُفهم منها ـ بمعونة ما ذكروه في الأصول ـ نحو حكومةٍ على الأدلة الأولية الثابتة عند الفقيه، وهذا معناه أنّ هذه الأصالة تمثّل مرجعاً ميدانياً إجرائياً للفقيه، بمعنى أن القاضي مطالب ببذل جهود إضافية للتدقيق في الأدلّة والشواهد والبينات والإقرارات والأيمان، وملاحقة تفاصيل الحادثة وإجراء تحقيقٍ شامل في مفرداتها وعدم التورّط في الاستعجال في إصدار الأحكام قبل قراءة مختلف الحيثيات نظراً لخطورة الحكم الذي سوف يصدره... ولا يحتمل في هذه الأصالة التقدّم حتّى على الأدلّة والأمارات التي ثبتت حجيتها كما هو معروف أصولياً.
نعم، بالنسبة إلى أصالة الاحتياط في الدماء يمكن القول ـ إذا ثبتت بدليلٍ معتبر واضح ومستقل ـ بتقدّمها على الأصول العملية لا الأمارات، إذ من المحتمل أن يكون لها نظرٌ إلى مثل ذلك، وتفصيل الكلام موكولٌ إلى محلّه [38] .
5 ـ ما ذكره بعض الباحثين [39] من إمكانية اكتشاف هذه القاعدة عن طريق تجميع موارد تلتقي فيها من قبيل ما دلّ على لزوم صراحة الشهادة ودقّتها [40] ، وما دل على ثبوت الخيار للشهود في الشهادة أو التستّر، وما نص على ترجيح التوبة على الإقرار [41] ، وكذلك ما ورد في قصة إقرار ماعز بن مالك والمرأة الغامدية [42] بتقريب أن تلك كانت محاولة من النبي| لعدله عن الإقرار فإذا عدل تصبح محاكمته مورداً للشبهة فيسقط الحد لذلك [43] .
ويمكن تطوير صياغة هذا الوجه من خلال افتراض ابتناء الحدود على التخفيف كما نصّ عليه بعض الفقهاء [44] ، وتكون هذه الشواهد المتقدّمة دالةً على مبدأ التخفيف هذا الذي يمكنه أن يشكل مدركاً لقاعدة الدرء ولمسألة الشهادة على الزنا أيضاً.
بيد أن هذا الوجه لا يوجد ما يعزّزه بشكل قواعدي، إذ يستفاد من جملة موارد التشدّد في مسألة الحدود من قبيل النهي عن التأخير في إقامة الحد وأنه لا نظر ساعة في الحد [45] وأنه لا كفالة ولا شفاعة في الحد [46] بل حدّ الشهود للفرية وردت فيه صورٌ تبدي بوضوح درجة التشدّد ضد ظاهرة القذف [47] ، وهذا ما قد يشكل مانعاً عن التمسك بمبدأ قواعدي بعنوان التخفيف في الحدود، أما الشواهد التي ذكرت لاسيما قصة إقرار ماعز والغامدية فلا تفيد هذا المبدأ، ذلك أنها تريد التأكيد على مبدأ الوضوح في الحكم ومفرداته ومبرراته، فقصّة الإقرار قابلةٌ للتفسير على أساس إمكانية عدم وضوح الأمور للمتشرعة في الصدر الأول بحيث لم يكن الزنا وحدوده واضحين، فيكون التأكيد والملاحقة لأجل تأكد الحاكم من حيثيات القضية ودفع أي احتمال مشوّش لحكمه، وكذلك الحال في مسألة ترجيح التوبة وأمثالها فإن هناك فرقاً بين عدم رغبة الشارع في إيقاع الحد على الزاني كمبدأ وبين حكمه بلزوم التشدّد فيه بعد وصوله إلى الحاكم، فوظيفة الزاني أو الشهود مختلفةٌ عن وظيفة الحاكم ولا ينبغي الخلط بين الوظيفتين.
وبهذا ظهر أن فكرة التخفيف في الحدود لا تعني ـ انسجاماً مع وظائف الحاكم المقررة بالأدلة الأخرى ـ أزيد ممّا يفيده التفسيران الأوّلان لقاعدة الدرء.
6 ـ التمسّك بالإجماع [48] ، حيث كانت هذه القاعدة كما تقدّم مورداً للاتفاق بين الفقهاء عدا الظاهري.
والجواب: إن هذا الإجماع مطمئن بمدركيّته فليس بحجة، هذا مضافاً إلى أن معقده غير واضح، فمن غير المعلوم أنه انعقد على أزيد من التفسير الأول والثاني للقاعدة كما يلاحظه من يتتبّع موارد استعمال الفقهاء لها، وقد تقدّم أنهما لا ينفعان هنا بل لا يحتاجان إلى دليل الإجماع نفسه.
وبهذا يتبين أن أقصى ما هو ثابتٌ من قاعدة الدرء هو هذان التفسيران، وهما لا يدلان كما اتضح على شرط المعاينة هنا.
تقدّم أن المذهب الظاهري يرفض قاعدة درء الحدود بالشبهات كما شرحه ابن حزم نفسه في المحلّى، فقد ناقش ابن حزم أدلة المثبتين للقاعدة من الروايات والنصوص بضعف سندها بالإرسال أو الوقوف على الصحابة، ومن هنا رفض القاعدة تمسكاً بقولـه تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا﴾ «البقرة: 229» [49] .
والذي يبدو أن ابن حزم قد وافق ـ من خلال كلامه ـ على التفسيرين الأوّلين لقاعدة الدرء، وكان يصب مناقشاته على ما هو أزيد منهما بحجة أن فيه تعدياً على حدود الله وتعطيلاً للحدود الشرعية، وهو ما يبرّر ما ذكره بعضٌ من تطبيق ابن حزم القاعدة ـ بمعنى الشبهة من طرف الفاعل ـ في الكثير من الموارد الفقهية في كتبه ومذهبه [50] .
وقد تبين مما تقدّم ما يوافق هذه المقولة وأنّ الصحيح عدم ثبوت أزيد من هذا المقدار من القاعدة ويغلب على الظنّ أن فقهاء الإمامية لاسيما المتقدمين منهم كانوا على هذا الرأي أيضاً.
الثاني: ـ من وجوه الموقف الأوّل ـ التمسّك بالخط العريض في أصل الشهادة وهو كونها عن حسّ كما هو ثابت ومقررٌ في بحث الشهادات عندهم، وحيث إننا نتحدّث حول الشهادة والمفترض أن الزنا ـ كما عرّفوه في بدايات بحث حد الزاني [51] ـ هو عملية الإدخال، فالشهادة عليه شهادةٌ على نفس الإدخال، وحيث يعتبر الحس في الشهادة، والحسّ في مثل هذه الأمور هو الحس البصري، فلا بد أن يكون الشاهد مشاهداً ببصره لنفس عملية الإدخال، وبذلك يتم هذا الشرط [52] .
وقد تعرّض هذا الوجه ـ بعد تجاوز الرأي الذي يذهب إلى كفاية مطلق العلم في باب الشهادات بدون حاجةٍٍ إلى السماع أو المعاينة كما ذهب إليه بعض [53] ـ لمناقشتين هما:
المناقشة الأولى: ما ذكره بعض الفقهاء من أن هذه القاعدة لا إشكال فيها وإنّما الكلام في استدعائها ما ذكره أصحاب الموقف الأوّل هنا، سلّمنا أن الشهادة من الشهود وهو الحضور، وأنه أُخذ فيها الإبصار أو السماع أو نحوه من الحواس، وسلمنا أن ما نحن فيه يتطلّب الشهادة عن حس... إلا أن دعوى أنه لابد أن تكون هناك رؤية مباشرة لعملية الإيلاج نفسها غير واضحة؛ إذ إن لازمه سدّ باب الشهادة على الزنا إلا نادراً، إذ من أين يجتمع أربعة شهودٍ عدول ويرون نفس الدخول بهذه الوضعية؟! مع أن التاريخ الإسلامي كثيراً ما يخبرنا عن حالات إقامة الشهادة على الزنا ـ ومن ثمّ الحد ـ زمن الرسالة أو بعده، مما يشكّل شاهداً على عدم أخذ مثل هذه القيود في الشهادة على الزنا، وإلا لما كان هناك مبرّر لكل هذه النقولات التاريخية [54] .
أ ـ إن لازم مقولة الموقف الأوّل سدّ باب الشهادة على الزنا.
لكن الاستفهام الذي يمكن إثارته هنا هو هل هناك ما يدلّ على رغبة الشارع في كثرة الحدود الحاصلة على الزنا خارجاً؟ ألا يمكن افتراض أنّ رفع عدد الشهود في الزنا إلى أربعة ـ بخلاف غيره بما في ذلك القتل ـ شاهدّ معزّز لاحتمال عزوف المشرّع عن كثرة إيقاع هذا النوع من الحد في الخارج؟ ألا يفسّر حثّ الشارع الزاني على التوبة وعدم تقديم نفسه للمحاكمة من خلال الإقرار على أساس عدم تشدّده في وقوع العقوبة على الزنا لا بمعنى رغبته في تساهل الحاكم بل عدم إيصال النوبة إليه؟ إن هذه الشواهد وأمثالها وإن كنّا لا نجزم بدلالتها على ما نقوله لكنها تشكّل عائقاً لصحة القول الوارد في المناقشة، خصوصاً وأنه لا دليل عليه بنفسه.
وبعبارةٍ موجزة: إن أقصى ما يفيده هذا الوجه هو تحجيم الشهادة على الزنا تحجيماً كبيراً وهو ما لا دليل على المنع عنه فضلاً عن استلزامه تحجيم إجراء الحد نفسه، بل على حدّ تعبير بعض الفقهاء من الممكن أن يكون غرض الشارع متعلّقاً بعدم ثبوت هذه المعصية الكبيرة في الخارج [55] انسجاماً مع مبدأ تشريعيٍّ في باب العقوبات يقضي بإخفاء الجرم وعدم كشفه.
بل يمكن النقاش حتى في درجة التحجيم المفترضة بناءً على أخذ هذا الشرط، ذلك أن الشواهد الميدانيّة تفيد بأن نسب إثبات الزنا من خلال الإقرار الناجم عن التحقيق القضائي هي نسبٌ جيدة وكثيرة والإقرار ليس مختصاً بالصورة الاختيارية العفوية التي يقوم بها المقرّ دون أيّ معلوماتٍ مسبقة عنه كما هو الحاصل في بعض النصوص كقضية ماعز بن مالك، بل يمكن أن يحصل كثيراً عقيب التحقيقات القضائية والأمنية وهو ما له حيز كبير في النشاط القضائي المعاصر [56] .
ب ـ إن الشواهد التاريخية تفنّد مثل هذا الشرط.
لكن الكثرة المفترضة في المناقشة غير واضحة، فالعديد من النصوص التي تحدّثت عن إقامة الحدّ خارجاً كانت تحكي عن الإقرار وسيلةً للإثبات القضائي كما في قصّة ماعز بن مالك، وبعضها كانت القرائن هي التي تثير القضية كحصول الحمل لدى المرأة أو خروج الولد على غير شبه أمّه وأبيه وما شابه ذلك، على أنّ مجموعة حوادث على امتداد بضعة عشرات من السنين لا تمثّل شاهداً على الكثرة المدعاة المثيرة للاستفهام هنا، لاسيما وأن وسائل التخفّي لم تكن بقوّة ما هو موجود حالياً.
والإنصاف أن مجرّد المرور السريع على المنقولات التاريخية لا يبّرر لنا رفع اليد عن شرط المعاينة إذا ما دلّ عليه الدليل، لاسيما وأنه من غير المعلوم صدق كافّة الشهادات المنقولة لا صدقاً تاريخياً ولا صدقاً في الشهادة نفسها.
المناقشة الثانية: ما ذكره السيد الخوئي وغيره من أن الشهادة على الزنا يمكن أن يصدق عليها أنها حسيّةً وبالمشاهدة بلا حاجةٍ إلى اشتراط المعاينة المباشرة، إذ إن رؤية المقدّمات الملازمة للإدخال خارجاً توجب صدق الرؤية لما يشهد عليه عرفاً، وهذا المقدار كافٍ في الشهادة ولا دليل على ما هو أزيد منه [57] ، بل إنّ ما يفهمه العرف هنا هو مرجعية الحس وهو ما يحصل بتحكيم أيّ حاسّةٍ من الحواس أيضاً ولو حاسّة السمع التي قد تفيد اليقين من خلال الصوت الخاص [58] .
وهذا الكلام منه& منسجمٌ والقاعدة في باب الشهادات؛ لأنّ المدار في الشهادة هو العلم والحضور، أما أنّ هذين الأمرين كيف يحصلان وعبر أيّة واسطةٍ يتحققان فهذا ما لم يرد فيه نصّ في كتاب الشهادات، فيمكن تحصيل ذلك على وجه القطع من خلال السمع أو اللمس أو... مما هو موكولٌ إلى النظر العرفي والعقلائي العام، وفيما نحن فيه لا يتردد شخص في نسبة رؤية الزنا من خلال رؤيته الكثير من الملازمات التي توجب عرفاً وعقلائياً اليقين الجازم به، وما دام العرف هو الملاك في التحديد فيكفي هذا المقدار فيه.
الثالث: ما أشار إليه الشهيد الثاني من احتمال كلمة الزنا التي ترد في شهادة الشهود لزنا العين وأشباه ذلك فتعيّنها في مقام الشهادة يستدعي إبراز موضح وهو التصريح بالمراد به وهو الإدخال، فإذا لم يكن قد رآه فلا محالة لا يمكنه الشهادة به [59] .
لكنّ هذا الوجه يقع في التداخل ما بين اشتراط المعاينة لنفس الإدخال مباشرةً، واشتراط الصراحة والنصيّة في شهادة الشاهد ـ كما أُشير إجمالاً إلى ذلك في مطلع هذا البحث ـ فالأوّل تقدّم الكلام عنه في الوجه السابق؛ إذ لا يزيد هذا الوجه عمّا قرّر هناك، وأما الصراحة فلا بأس بالالتزام بها على أبعد تقدير ما دمنا نمنح الشاهد يقينه بالإدخال فكيف لا يشهد عليه وقد رآه عرفاً؟!
الرابع: التمسّك بالأولوية، بتقريب أن الوارد في قصّة إقرار ماعز بن مالك وغيره هو التشدّد في تحديد الزنا وجعل المدار فيه على نفس الدخول، فإذا كان التشدّد بهذا الحجم في الإقرار فبطريقٍ أولى لابد منه في البينة، وهذا معناه أنه لابد للشهود من أن يوضحوا وبصراحة أنهم رأوه كالميل في المكحلة، كما هو الوارد في خبر ماعز نفسه [60] .
ويرد عليه أن المستفاد من مثل هذه النصوص هو ضرورة تأكّد الحاكم من عدم وجود خللٍ في فهم المقرّ لمفهوم الزنا أو لما يعترف به، أي أن على الحاكم التنبيه لاحتمالات إقرار المقرّ وعدم العجلة بمجرّد تلفظه بكلمةٍ ما من الممكن أنه لا يعرف مضمونها الشرعي وتداعياتها، وهذا مطلبٌ قابل للقبول حتى في موردنا، وهو ما تشبعه فرضية أن الشهود على يقينٍ ودراية بما يقولون، وهو ما لا يدل على أزيد من إلزامهم بتوضيح مرادهم من الشهادة حتى يرتفع بذلك الاحتمال الآخر لدى الحاكم.
وأقصى ما تفيده هذه النصوص ـ مضافاً إلى ما تقدّم ـ هو حثّ الشارع المذنبين على عدم تقديم أنفسهم إلى ساحة المحاكمة والمحافظة على التكتّم وعدم كشف ما ستره الله تعالى عليهم كما يستفاد من ذيل بعضها، وهذا لا علاقة له بوظيفة الحاكم بعد ثبوت الدليل.
الخامس: التمسّك بالنصوص الواردة في المقام والتي يظهر منها اشتراط معاينة الشهود للدخول معاينةً حسيّة بصرّية مباشرة [61] ، وهذه النصوص هي:
1ـ صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله× قال: «حدّ الرجم أن يشهد أربعة أنهم رأوه يدخل ويخرج» [62] .
2ـ خبر محمّد بن قيس، عن أبي جعفر× قال: قال أمير المؤمنين×: «لا يرجم رجل ولا امرأة حتى يشهد عليه أربعة شهود على الإيلاج والإخراج» [63] .
3ـ خبر أبي بصير، عن أبي عبدالله× قال: «لا يجب الرجم حتى «يشهد الشهود الأربع» أنهم قد رأوه يجامعها» [64] .
4ـ خبره الآخر قال: قال أبو عبدالله×: «لا يرجم الرجل والمرأة حتى يشهد عليهما أربعةُ شهداء على الجماع والإيلاج والإدخال كالميل في المكحلة» [65] .
5ـ خبره الآخر أيضاً قال: «حدّ الرجم في الزنا أن يشهد أربعة أنهم رأوه يدخل ويخرج» [66] .
6ـ خبر محمّد بن قيس، عن أبي جعفر× قال: قال أميرالمؤمنين×: «لا يجلد رجلٌ ولا إمراةٌ حتى يشهد عليهما أربعة شهود على الايلاج والإخراج...» [67] .
7ـ خبر أبي بصير، عن أبي عبدالله× «... ولا يجب الرجم حتى تقوم البينة الأربعة بأنه قد رؤي «رأوه» يجامعها» [68] .
8ـ صحيحة حريز بن عبدالله، عن أبي عبدالله× قال: «... ولا تُقبل شهادتهم حتى يقول أربعةٌ: رأينا مثل الميل في المكحلة» [69] .
وظاهر هذه النصوص لزوم المعاينة المباشرة لنفس عملية الإدخال والإخراج، ومعه فتكون حاكمةً على المبدأ العام في كتاب الشهادات والقاضي بكفاية مطلق العلم كما أشار له في الجواهر [70] ، وهذا معناه أخذ الرؤية هنا على نحو الموضوعية ولو لخصوصية المورد نظراً لبناء الحدود على التخفيف وقاعدة الدرء [71] .
لكنّ مجال المناقشة هنا وارد أيضاً، وذلك:
أولاً: لما تقدّم ـ وأشار له السيد الخوئي أيضاً ـ من صدق عنوان الشهادة على الزنا والإدخال من خلال رؤية الملازمات القطعية عرفاً، وهذا يعني أن هذه الروايات لا تضيف على المبدأ المعمول به في كتاب الشهادات خصوصيةً جديدة.
ثانياً: إن الوارد في خبري محمد بن قيس وخبر أبي بصير]رقم: 4[هوالشهادة على الإدخال لا رؤيته نفسه [72] ، وقد تقدّم أنّ الشهادة على الإدخال تصحّ عرفاً حتى مع عدم الرؤية المباشرية بالبصر.
ثالثاً: إن هذه الروايات لا تفيد لزوم رؤية الشهود لنفس عملية الإدخال، وذلك أن الوارد فيها هو رؤية الرجل يجامعها أو يدخل ويخرج أو رؤي يجامعها، وهذا كلّه غير رؤية نفس الدخول والخروج فإنه قد يصدق أنه رؤي يُدخل ويخرج ولو لم تحصل رؤية الدخول نفسه بالعين، وانما رؤيت الملازمات القريبة المفيدة للجزم عرفاً وعقلائياً.
أ ـ الطائفة التي
جديد الموقع
- 2024-04-18 مكتبات ليست للقراءة فقط
- 2024-04-18 الخميس: رغبتنا صعود لدوري الكبار
- 2024-04-18 "ختام ملتقى موعود مع انطلوجيا القصة القصيرة السعودية"
- 2024-04-18 بر الفيصلية يقيم حفل معايدة لمنسوبيه .
- 2024-04-18 مختارات من الرسائل
- 2024-04-18 الأمير سعود بن طلال يرعى توقيع عقد إنشاء بوابة الأحساء
- 2024-04-17 أحدث إصدارات الشيخ اليوسف: «الإمام العسكري: الشخصية الجذابة»
- 2024-04-17 تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين مسابقة الملك عبدالعزيز الدولية لحفظ القرآن الكريم في دورتها الـ 44 تنطلق في شهر صفر القادم 1446هـ بمكة المكرمة
- 2024-04-17 الطبيب أشرف العيسوي يرزق بمولود هاشم
- 2024-04-17 بعد أن تتعرض للإهانة اكتب مشاعرك على قصاصة ورق ثم تخلص منها وهذا من شأنه أن يحد من مستوى شعورك بالغضب