2013/01/23 | 0 | 3288
الجهاد الابتدائي وحريّة العقيدة - قراءة في نظريّة حظر الجهاد الدعوي
السياق التاريخي لحظر الجهاد الدعوي وتأسيس الحريات الدينية
لم تطرح هذه النظرية بشكل واضح وصريح في الوسطين: الشيعي والسنّي، سوى في القرنين الأخيرين، وقد قدّمت في هذا المجال بعض الآراء والأفكار، وكان من أبرز الشخصيّات الشيعية التي عالجت هذا الموضوع لتختار عدم وجود الجهاد الابتدائي في الشريعة الإسلامية العلامتان المغفور لهما: الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه «جهاد الأمّة»، والسيد محمد حسين فضل الله في «كتاب الجهاد»، وكذلك المغفور له الشيخ نعمة الله صالحي نجف آبادي في كتابه «جهاد در إسلام/الجهاد في الإسلام»، أما على صعيد أهل السنّة فقد تمّ تداول أسماء بعض الشخصيات كذلك، مثل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وبعض كلمات الشيخ محمود شلتوت، والدكتور محمد عبد الله دراز، وعلي علي منصور، وبعض كلمات الدكتور وهبة الزحيلي وغيرهم، وقد تعرّضت بعض كتابات هذه الشخصيات للنقد، لاسيما منها الشيخ البوطي، ممّا لا يهمّنا التعرّض له هنا؛ نظراً لخروج دراستنا هذه عن معالجة السياق التاريخي.
نوعية المستند الشرعي لنظرية حظر جهاد الدعوة
من الجليّ أنّه لا يوجد لدى أنصار الحرية الدينية النافين لشرعيّة الاجتهاد الدعوي إمكانيّة للاستناد إلى أيّ إجماع إسلامي أو مذهبي؛ لأنّه لا توجد معطيات تاريخية لصالح نفي هذا الجهاد، إن لم نقل بأنّها تميل لصالح اشتهار الاعتراف به في الموروث الإسلامي، وهذا أمرٌ واضح.
كما أنّه لا توجد إمكانية لهم أيضاً في الاستناد إلى السيرة الإسلاميّة أو الفعل النبوي؛ لأنّ السيرة والفعل ـ من حيث كونهما دليلاً لبياً ـ لا ينفيان شرعية الجهاد الابتدائي، بل غاية ما يثبتان أنّ النبي (ص) لم يمارس هذا النوع من الجهاد في حياته أو أنّ المسلمين لم يفعلوه أيضاً، وعدم الفعل لا يدلّ على عدم الشرعيّة بالضرورة ما لم تقدّم شواهد معيّنة.
وانطلاقاً من استبعاد مقولات السيرة والفعل والإجماع والشهرة وأمثال ذلك، وجدنا أنّ الفريق المناصر للحرية الدينية ورفض الجهاد الدعوي قد ركّز نظره على الكتاب الكريم بالدرجة الأولى، وعلى تحليل أساسيات المفاهيم الإسلامية في المرحلة الثانية، وتقديم مبرّرات عقليّة في الدرجة الثالثة، إلى جانب اهتمامه النقدي بتفنيد المبرّرات التي قدّمها أنصار الجهاد الدعوي، ممّا تعرّضنا له في دراستنا المستقلّة المشار إليها آنفاً.
تأسيس الأصل وبلورة المبدأ «محاولة العلامة شمس الدين»
لكن قبل كلّ شيء، لابدّ من الإجابة عن هذا السؤال: ما هو الأصل في هذا الموضوع؟ وهل هناك من أصل أو قاعدة أو مستند قبلي يُرجع إليه في موضوعة الجهاد الابتدائي؟
يذهب العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى وجود أصل عقلائي مسلّم في باب تنجّز التكاليف، مركّب من أمرين:
الأمر الأوّل: وصول التكليف بنحوٍ يعقله الإنسان المكلّف، وهذا الأمر كما يجري في المسائل العملية، بأن يعرف المكلّف الحكم ويلتفت إليه حتى يتنجّز عليه، كذلك يجري في المسائل العقائدية، بأن تحصل له قناعة بالأمر العقائدي وتصديق بمضمونه، وإلا فمجرّد التعبير اللفظي الحاكي عن هذا الأمر العقائدي لا يكفي.
الأمر الثاني: القدرة على الفعل والترك، وهذا ما يستدعي أن يكون المتعلّق اختيارياً، نظراً للترابط الشديد ــ كما برهن في علم الكلام الإسلامي ــ بين القدرة والمشيئة، وهنا إذا كان الأمر من المسائل العملية فإنّ معنى الاختيار أن يكون المكلّف بحيث إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وأما إذا كان من العقائديات فلابدّ أن يكون بحيث حصلت المقدّمات الموجبة للقناعة به، فلا يمكن الاقتناع بأمرٍ عقائدي دون حصول البرهان في نفس المكلّف بما يؤدّي إلى حصول العلم عنده، ويرشد إلى هذا الأمر قوله تعالى: ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ «البقرة: 256».
وطبقاً لهذين الأمرين، نحلّل الجهاد الابتدائي فنقول: إنه إما أن يراد به حمل الكافرين على اعتقاد الإسلام والعمل بأحكامه، أو يقصد من ورائه مجرّد إخضاعهم لسلطان الإسلام السياسي وصيرورتهم تحت حكم الإسلام ويد المسلمين.
أ ــ فإذا أريد منه الأوّل، فهو واضح البطلان، إذ هو ــ ما لم يقم دليل يقنع الكافرين ــ مخالفٌ للأصل الأولي في باب التكاليف؛ إذ الإيمان دون اعتقاد وقناعة أمرٌ غير مقدور ــ كما تقدّم ــ كما أنّ الإلزام العملي دون اختيار إلجاءٌ لا يتحقق الامتثال معه.
ب ــ وأما إذا أريد الثاني، فهو:
أولاً: خلاف صريح كلماتهم من أنّ هذا الجهاد إنّما هو للدعوة من حيث المبدأ.
وثانياً: خلاف ظواهر الآيات الدالّة على أنّ هدف الجهاد هو الدفاع وردّ الأذى لا الإخضاع.
وثالثاً: إنه يخالف كلام الفقهاء أنفسهم، حيث لم يقبلوا من غير الكتابيين مجرّد الإخضاع، بل خيّروهم بين الإسلام والقتل.
من هنا يلاحظ أن آيات القرآن في مجال الدعوة تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: ما دلّ على أنها لا تكون سوى بالشرح والبيان، نحو قوله تعالى: ﴿ قل يا أيها الناس قد جاءكم الحقّ من ربّكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها وما أنا عليكم بوكيل ﴾ «يونس: 108»، وغيره من الآيات [3] .
ثانيهما: ما دلّ على عدم كون استعمال القوّة ووسائل الإكراه من أدوات الدعوة، وإنما الهدف النبويّ كان الدعوة بالحسنى، نحو قوله تعالى: ﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ «النحل: 125»، وغيره من الآيات [4] .
هذا هو الإطار والأصل الذي يُرجع إليه في مسألة الجهاد الابتدائي وفقاً لنظريّة العلامة شمس الدين [5] ، وهو يستدعي رفض الجهاد الابتدائي بمعنييه.
تعليقات نقديّة على محاولة العلامة شمس الدين «التأسيس المختار للمبدأ»
ويمكن لنا إبداء مجموعة من التعليقات على ما قدّمة العلامة شمس الدين، نكتفي بأهمّها:
التعليق الأوّل: كان يُفترض أن يُلاحَظ الأصل بمعنييه هنا، أي الدليل أو المرجع الأوّلي العام والنصوص التشريعيّة العليا «كالعمومات الفوقانية»، والأصل العملي الذي يُرجع إليه حال فقدان الدليل، والذي يبدو أنّ الأصل بهذه الصيغة التي قدّمها شمس الدين مقتصرٌ على الناحية الأولى، دون الثانية.
وعليه، فالذي يمكن أن يكون مرجعاً عملياً عند فقدان الأدلّة هنا هو أصالة البراءة عن وجوب الجهاد الابتدائي، فالمفروض أنّنا نشك في وجوبه، والأصل الشرعي أو العقلي والشرعي معاً هو عدم الوجوب.
هذا على مستوى الوجوب، وأما على مستوى الشرعية، فالأصل هو عدم ولاية أحدٍ على أحد وعدم نفوذ تصرّفاته في أمواله ونفسه وعرضه وما يتعلّق به، فما لم يدّع عدم ملكية الكافر لشيء أو عدم احترام نفسه وملكيّته لشيء ما، فالأصل عدم نفوذ تصرّفاتنا في نفسه وأمواله، ومن الواضح أنّ مقولة الجهاد الابتدائي من أبرز مصاديق التدخّل في هذا المجال، فالأصل عدم نفوذ تصرّف المسلمين هذا.
هذا على مستوى الولاية والحكم الوضعي ونفوذ التصرّف، وأما على مستوى جواز الفعل العسكري ـ أو غيره من العقوبات الدنيويّة على تقدير الكفر ـ من الحكم التكليفي، فالأصل الجواز عندهم؛ لعدم دليلٍ على الحرمة.
لكن ذكر الشيخ محسن كديور أصلاً مقابلاً أسماه أصل البراءة من العقوبة الدنيوية على تقدير الكفر [6] ، وأنّ أي فعل عقابي مثل الحدود أو غيرها يحتاج إلى دليل.
ويبدو لي أنّ كلا الأصلين غير صحيح:
أ ـ أمّا أصل الجواز، فلأنّه متفرّع على أصالة حرمة النفس والمال في الطرف الآخر، فلو ثبتت الحرمة المذكورة كان مقتضى القاعدة هو الحرمة التكليفية؛ لأنّ الفعل حينئذٍ سوف يعبّر عن تصرّف عدواني في حقّ الطرف الآخر الذي ثبتت الحرمة لنفسه وماله وعرضه، وهو ظلمٌ مشمول لحرمة التصرّف في الغير بدون إذنه. وهذا يعني أنّ المسألة هي مسألة حدود حرمة الغير، فإذا بنى الفقيه على أصل عدم حرمة الإنسان ما لم يُسْلِم أو يعاهد أو يخضع لنظام الذمّة صحّ الاستناد هنا، أمّا إذا بنى على ما هو الصحيح الذي تعرّضنا له في محلّه من أصل حرمة الإنسان، فيكون مقتضى القاعدة هنا هو حرمة التصرّف والعقاب في حقّ غير المسلم ما لم يقم دليل خاصّ؛ لأنّ أصالة البراءة ستكون محكومة لأصل الحرمة الثابت بالدليل حينئذٍ. نعم، لو شكّ في حرمة الإنسان من الأوّل كان أصل عدم الحرمة هو المحكّم.
ب ـ وأمّا أصل البراءة من العقوبة الدنيوية الذي تحدّث عنه كديور، فهو ناظر إلى الطرف الذي ينـزل فيه العقاب أو تعلن ضدّه الحرب، فنقول: هو برئ من أيّ تهمة توجب عقاباً، لكنّ هذه البراءة القانونية هنا مغايرة لأصل البراءة عن الحكم التكليفي الذي نجريه في الحقيقة في حقّ الطرف الذي يريد إنزال العقاب بالكافر، أو إعلان الحرب عليه، ولو نفعت أصالة البراءة من العقوبة لأفادت في مجال حدّ الردّة، لكنّها لا تفيد في مجال الجهاد وفرض الدين؛ لعدم كونهما من باب العقوبات كما هو واضح، فلا يكون في مقابل أصل البراءة عن فعل الطرف المهاجم للكافر أيّ أصل معارض، ما لم نقل بحرمة أصل الإنسان كما تقدّم.
التعليق الثاني: لا شك في توقّف تنجّز التكليف على وصوله للعبد، كما تمّ تبيين هذا الأمر في علم أصول الفقه، كما لا شك في أنّ من الشروط العامة للتكليف الاختيار، وعليه فإذا أريد من الجهاد الابتدائي ــ أو بعض أنواعه ــ فرض الإسلام بالقوّة بالمعنى العقائدي للإسلام، فهو خلاف الأصول العامة المقرّرة في أصول الفقه وفي الفقه الإسلامي، إلاّ أنّ الفقهاء لا يذهبون إلى فرض الإسلام العقائدي بجهاد الدعوة، فهذا التفسير لجهاد الدعوة تفسيرٌ غير فقهي، ويجب أن نفهم طريقة تعامل الفقهاء مع هذا الموضوع، لنحلّل أساسيات تفكيرهم، حيث يقصدون من التخيير بين الإسلام والقتل، الإسلام الصوري الظاهري لا الإسلام القلبي الحقيقي، وإلا فلا يكاد يخفى عليهم أنّ القوّة بهذه الطريقة لا تحصّل إيماناً بالشهادتين، بل تحصّل شخصاً يلفظ الشهادتين ولو لم يؤمن بهما، على أن يسير في ظاهر حياته ــ ولو مضطرّاً ــ ضمن الحدّ الأدنى من ظاهر سيرة المسلمين، فليست الرؤية الفقهية رؤيةً عقائدية، بل تهدف التعامل مع ظواهر الأمور، ولهذا قد يقول أنصار الجهاد الابتدائي: إنّ هذين الأصلين المذكورين، وهما: أصل ربط التنجّز بالوصول أو أصالة الاختيار، لا يمسّان جهاد الدعوة؛ لعدم فرض الإيمان العقدي الوجداني فيه، هذا بعيداً عن أيّ ظهورات لأدلة أخرى، وبقاءً مع أساس هذين الأصلين.
ولا يمنع ذلك من صدق عنوان الإكراه على الدين؛ لأنّ الإكراه عليه كما يُفهم في سياق الإكراه على أمرٍ قلبي، كذلك يمكن في اللغة العربية أن يُفهم في سياق الإكراه على الشكل الظاهري للالتزام بهذا الدين والانتماء له والاندماج في اجتماعه السياسي، ويشهد لذلك قوله تعالى: ﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ﴾ «النحل: 106»، فإنّ ذكر الإكراه مع اطمئنان القلب بالإيمان بعد ذكره الكفر بالله بعد الإيمان، يفهم منه أنّ الإكراه كان على الكفر، ورغم أنّه لم يكن هناك كفرٌ قلبي بصريح الآية الكريمة إلا أنّها مع ذلك عبّرت بالإكراه، ممّا يشهد لصحّة التعبير بالإكراه على الدين في غير مجال الفعل القلبي الباطني.
التعليق الثالث: إنّ تسمية الجهاد الابتدائي بجهاد الدعوة وحصره بها تسميةٌ متأخرة، وأنّ الفقهاء المسلمين لم يطلقوا عليه تسميات من هذا النوع، فحتى لو فرضنا أنّ هذا الجهاد لم ينسجم ــ في بعض أشكاله ــ مع الدعوة، فلا يصحّ إبطال هذه الأشكال لذلك؛ لعدم إحراز إدراجه تحت هذا العنوان دائماً، فالنقض على إخضاع الكافرين في هذا الجهاد بأنّه خُلف الدعوة إنّما هو نقضٌ على مفسّري هذا الجهاد بجهاد الدعوة حصراً بها، لا على الآيات والروايات التي استندوا إليها، من هنا يظهر أنّ الاعتماد على الآيات التي تتحدّث عن الدعوة بالحسنى وعدم الإكراه لا يصحّ هنا إلاّ بناءً على تفسير هذا الجهاد بأنه للدعوة لا غير، فإذا جعلناه متعدّد الأغراض ـ ومنها الدعوة ـ لم يصحّ الركون إلى هذه الآيات للتوصّل إلى شيء أساسي في موضوعنا، إذ ليس من البعيد أن يقال بعدم وجود دليل على أنّ الدعوة للدين هي الملاك الرئيس المباشر لهذا الجهاد، وإنّما هو سيطرة قد تشكّل تمهيداً للمشروع الدعوي.
نظرية عدم شرعية الجهاد الابتدائي، الأدلّة والشواهد
يطرح الرافضون لهذا النوع من الجهاد مجموعةً من الأدلّة التي يرون فيها سدّاً منيعاً أمام منح الشرعيّة له، وأهّم ما قدّموه في هذا المجال أو يمكن أن يقدّموه ما يلي:
1 ـ شواهد النصوص الدينية
ثمّة مجموعات نصيّة قرآنية يمكن أن تشكّل مستنداً لرفض فكرة الجهاد الابتدائي، وقد تبلغ في مجموع كلمات الباحثين في هذا الموضوع سبع أو ثماني مجموعات، لكنّنا نتجاهل هنا ما نعتقد أنّه واضح في ابتعاده عن الموضوع، ونقتصر على النصوص المحتملة حقّاً، وهي:
1 ـ 1 ـ الجهاد الابتدائي ونصوص رفع القتال عند عدم الاعتداء
من أبرز أدلّة رفض الجهاد الابتدائي النصوص القرآنية الدالّة على رفع الإلزام بالقتال أو إثبات الإلزام بعدمه عندما لا يُقاتل الطرف الآخر، فهذه المجموعة من الآيات تريد أن ترفع وجوب القتال عن المسلمين عندما لا يقاتلهم الطرف الآخر، بل في بعضها ما يدلّ على أنّه لا يجوز قتالهم في هذه الحال، ونلفت إلى أننا لا نريد هنا ذكر الآيات التي تدلّ أقصى ما تدلّ على الجهاد الدفاعي، فهذه لا تدل على الابتدائي ولا تنفيه، إنما المقصود هنا ما دلّ ــ صراحةً أو ظهوراً بالمنطوق أو المفهوم ــ على نفي وجود شيء اسمه الجهاد الابتدائي.
وعلى أية حال، فأبرز هذه الآيات هو:
أ ـ قوله تعالى: ﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحبّ المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون ﴾ «الممتحنة: 8 ــ 9».
فهذه الآية الكريمة ترفع وجوب الجهاد ــ على تقديره ــ ضدّ من لا يحارب المسلمين ولا يسعى لإضعافهم، بل هي ترى البرّ لهم والقسط، وهو ما يجعل رفع النهي هنا بمثابة الوجوب؛ إذ لا معنى لرفع النهي عن القسط سوى وجوبه، فإن القسط ــ وهو العدل ــ واجب، فالآية تريد القول: إنّه حيث لا موجب للجهاد لزم التعامل معهم بالعدل والقسط، فإذا كان الجهاد الابتدائي واجباً، وهو الأصل في علاقة غير المسلمين مع المسلمين، فكيف يمكن تفسير هذه الآية الكريمة؟! بل كيف يمكن فهم الجواز فيها؟!
ومن الممكن أن يقال: إنّ هذه الآية وما قاربها في المضمون منسوخة بنصوص سورة براءة [7] .
والجواب ما درسناه في محلّه مفصّلاً ممّا أشرنا له سابقاً من عدم ثبوت النسخ من جهة، مضافاً إلى أننا قد توصّلنا في آيات سورة براءة إلى عدم دلالتها على الجهاد الابتدائي أساساً. وقد حاول العلامة الطباطبائي ردّ مقولة النسخ هنا بالتمايز بين موضوعي الآيات في براءة وهذه الآية الكريمة، من حيث إنّ الآيات هناك جاريةٌ في أهل الحرب، فيما هذه جارية في أهل الذمّة والمعاهدين وأمثالهم، فلا ترابط بين الموضوعين حتى نفترض النسخ [8] ، وهو كلام تابع فيه ـ إجمالاً ـ ما قاله الفخر الرازي [9] ، ويتناسق مع ما توصّلنا إليه هناك، بعد فرض أنّ المعاهدين وأمثالهم يشملون ـ من حيث العنوان ـ مطلق من لم يحارب، وإلا فاختصاص الآية الكريمة هنا بالمعاهدين بمعنى الذين وقعت اتفاقية منصوصة بينهم وبين المسلمين لا دليل عليه؛ لأنّ موضوع الآية هو عدم الحرب لا توقيع المعاهدة.
ب ـ قوله تعالى: ﴿ .. فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلّما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلّم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئك جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً ﴾ «النساء: 90 ـ 91».
وهذه الآية الشريفة ظاهرة في أنّ السبيل الثابت للمؤمنين في قتال غيرهم إنما هو اعتداء الغير وعدم رغبته في تهدئة الوضع، وإلا فإذا لم يصدر منه أمرٌ من هذا النوع فلا سبيل للمؤمنين عليه، فلو كان الجهاد الابتدائي مشروعاً مطلقاً، فما معنى نفي السبيل هنا مع أنّ السبيل ثابتٌ إلى يوم القيامة؟!
وامتياز هذه الآية عن سابقتها أنّ ظهورها في النهي قويٌّ، فيما تدلّ السابقة على رفع الإلزام، مع احتمال ظهورها فيما هو أزيد، كما ألمحنا، فتكون هذه الآية معارضةً ــ بوضوح ــ لما دلّ على الوجوب في هذه الحال، ومسألة النسخ بآيات سورة البراءة وغيرها تقدّم جوابه.
ج ـ قوله سبحانه: ﴿ وإن جنحوا للسَّلْم فاجنح لها وتوكّل على الله إنّه هو السميع العليم وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين ﴾ «الأنفال: 61 ــ 62».
المعطى في هذه الآية الكريمة يفيد أنّه إذا تأكّدنا من ميل الطرف الآخر للسلام ورفع الحرب والاعتداء لزم على المؤمنين الإجابة لذلك، مع الأخذ بعين الاعتبار موضوع الخديعة، ولو كان الجهاد الابتدائي ثابتاً لم يكن معنى للإلزام بالمسالمة عندما يميل إليها الطرف الآخر مطلقاً، كما هو واضح، بل وجب قتاله حتى لو تأكّدنا من إصراره على السّلم، ولهذا حرّم غير واحدٍ من الفقهاء أن تزيد مدّة معاهدات الهدنة مع غير المسلمين على العام الواحد، وأوصلها بعضهم إلى عشر سنوات، حتى لو أراد الطرف الآخر الهدنة لأكثر من ذلك.
د ـ قوله تعالى: ﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين ﴾«البقرة: 190».
تأمر هذه الآية الكريمة ـ أولاً ـ بمقاتلة من يُقاتل المسلمين، ثم تنهى ـ ثانياً ـ عن الاعتداء، وهذا ما يُفهم منه بوضوح أنّ القتال محصور بمن يُقاتل، وأنّ مقاتلة من لا يقاتل تُعتبر اعتداءً، والله لا يحبّ المعتدين، فتكون محرّمةً، وهذا ما يلغي الجهاد الابتدائي؛ لأنّ الجهاد الابتدائي ليس قتالاً لمن يُقاتل، فيندرج ضمن مفهوم الاعتداء الذي نهت الآية عنه، فيكون حراماً.
إلاّ أنّه قد يناقش الاستدلال بهذه الآية الكريمة:
أولاً: من الممكن أن يكون المراد من النهي عن الاعتداء هو تجاوز الحدّ في مقاتلة من يُقاتل المسلمين، كما في مثل التمثيل بجثث قتلى الكفار أو التعذيب قبل القتل أو استخدام أساليب غير شرعية ولا أخلاقية وهكذا، وليس من الضروري أن يكون الاعتداء باستئناف حرب، فتكون الآية خاصّة بالجهاد الدفاعي دون أن تدلّ ــ سلباً أو إيجاباً ــ على الجهاد الابتدائي، ومع التردّد والاحتمال يصعب الترجيح.
ثانياً: قد يُراد بالآية الكريمة وجوب مقاتلة المقاتل دون غيره، أي الرجل دون المرأة والشيخ الفاني والصغير و.. فتكون الآية بصدد الإلزام ــ سواء في الجهاد الابتدائي أم الدفاعي تمسّكاً بالإطلاق الوارد في صدرها ــ بمقاتلة خصوص المقاتلين، فيكون معنى الاعتداء مقاتلة غيرهم من النساء وغيرهنّ، وعليه فالآية لا تنهى عن الجهاد الابتدائي، بل لا تختصّ ــ بمقتضى إطلاق «وقاتلوا» ــ بالجهاد الدفاعي أيضاً [10] .
وعلى أيّة حال، فالآيات الثلاث الأولى كافية في الدلالة على عدم وجوب، بل عدم شرعية، مقاتلة من لا يُخشى منه على المسلمين، وهو ما ينفي الجهاد الابتدائي من الأساس.
2 ـ 1 ـ الجهاد الابتدائي ونصوص الحرية الدينية
نقصد بنصوص الحرية الدينية تلك الآيات القرآنية التي تدلّ على إيكال أمر الهدى والضلال إلى الإنسان نفسه لا غير، وأنّ الأمر إليه إن شاء اتبع هذا الدين وإن شاء تركه، وهو ما يعني حرية المعتقد الذي يساوق عملياً حريّة بيان العقيدة وإبدائها للغير، لأنّ حريّة المعتقد إنّما يقصد بها قانونياً حرية إظهاره للآخرين [11] ، وإلا فالجانب الذاتي الباطني عند الإنسان ليس موضوعاً للبحث القانوني، وإنما هو قضية أخلاقية أو فكرية، ومن الواضح أنّ حريّة المعتقد في الإسلام لا تعني تصويب كلّ معتقد يختاره الإنسان، من هنا قالت الآيات القرآنية: ﴿ إنّ الدين عند الله الإسلام ﴾ «آل عمران: 19»، و ﴿ من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾«آل عمران: 85».
من هنا يظهر لنا جليّاً أنّ التمييز بين حريّة المعتقد وحرية التفكير ـ كما فعل بعض العلماء [12] ـ جاعلاً بعض آيات حرية المعتقد راجعاً إلى حريّة التفكير، وأنّ الإسلام أعطى حرية التفكير لكنّه لم يعط الحرية العقديّة، في الوقت الذي لم يقبل بفرض العقيدة.. يبدو لي هذا التمييز حاوياً لبعض الالتباس؛ فإنّه عندما تفسّر الحرّية الفكرية بأنّها الحرية في مجال استخدام مقدّمات العقيدة من النظر والبحث ووسائلهما؛ لأنّ الاعتقاد أمر قهري يلحق المقدّمات لحوقاً قهرياً [13] ، ثم تنفى الحرية العقديّة ويرفض معها فرض العقيدة فرضاً، فإنّ هذا الاصطلاح غير قانوني، وإنما هو راجع إلى التحليل الفلسفي؛ لأنّ الباحث اعتبر العقيدة أمراً قهرياً راجعاً إلى علاقة العليّة الحتمية بين المقدّمات والنتيجة في الذهن، فالنتيجة عنده هي العقيدة، ومن ثم لا اختيار فيها؛ لأنّ أمرها قهري يأتي بتبع تبلور المقدّمات في الذهن، على خلاف الحال في المقدّمات نفسها فإنّ الاشتغال عليها أمر سلوكي حرّ يمكن للإنسان فعله ويمكن تركه.
وسبب الالتباس هنا هو الخلط بين الاعتقاد بوصفه ظاهرة باطنية، وحريّة العقيدة بوصفها ظاهرة إثباتية بيانية، ولهذا لم تقصد شرعة حقوق الإنسان من حرية المعتقد ذلك البُعد الفلسفي، وإنّما البيان والإبداء، ولهذا أيضاً ربطت حرية العقيدة هناك بحرية البيان.
وعندما نتحدّث عن حريّة البيان الاعتقادي في الإسلام فنحن نقصد أدنى معاني البيان، وهو إظهار الفرد أنّه يعتقد بغير الإسلام، مقابل التفتيش والإلزام العقائدي والمنع عن إعلان الاعتقاد، أما حريّة البيان بالمعنى الواسع الشامل لحرية التجمّعات والإعلام والصحافة والمطبوعات، فهذا موضوع مختلف من زاوية القوانين الإسلاميّة، لا ربط له ببحثنا هنا.
وعلى أيّ حال، فأهمّ الآيات الكريمة التي تتداول في سياق إثبات حريّة المعتقد، هو:
أ ـ قوله تعالى: ﴿ وقل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنّا أعتدنا للظالمين ناراً.. ﴾ «الكهف: 29».
فالآية الشريفة دالّة على أنّ الحقّ ـ أي الإسلام ـ من عند الله تعالى، وأنّ الأمر راجعٌ إلى الناس أنفسهم، فإن شاؤوا الإيمان فبها ونعمت وإلا فليكفروا، وعلى تقدير كفرهم لم تشر الآية إلى الحياة الدنيا وأنّ هناك أثراً سيترتّب على كفرهم فيها، كلّ ما في الأمر أنّهم سيواجهون جزاءهم في الآخرة، الأمر الذي يؤكّد أنّ الكفر لا آثار دنيوية له على مستوى العقوبات [14] ، وهذا ما يقف على النقيض من مفهوم الجهاد الابتدائي.
لكنّ الاستدلال بهذه الآية لوحدها قد يواجه بعض المشكلات:
أولاً: إنّها قد لا تشكّل دليلاً يواجه أدلّة الجهاد والعقوبات، لاسيما بعد كونها مكيةً؛ إذ لعلّ العقوبات أو الإجراءات الدنيوية المترتبة على الكفر والإيمان لم تكن قد نـزلت بعد.
إلاّ أنّ المفيد فيها هو إيكال أمر الكفر والإيمان إلى الإنسان، وأنه هو من يختار بين الأمرين، ومن ثمّ فهي في حدّ نفسها ـ وبصرف النظر عن النصوص التي لحقتها في النزول زماناً ـ لها حكاية عن أنّ القرآن الكريم يرخّص في الدنيا للكافر في أن يكفر، ويعطيه هذه المشيئة، وأنّ نتائج اختياره الممنوح له هذا تقع عليه في الآخرة وتمثل أمامه هناك.
ثانياً: إنّ الآية تجعل الحرّية في الإيمان والكفر، وهما أمران قلبيّان، وقد تقدّم سابقاً أنّ الجهاد الابتدائي لا يُهدف منه الإيمان الحقيقي، بل الإيمان الظاهري، فيظلّ الإيمان الحقيقي شأناً اختيارياً، فلا يكون هناك أيّ تنافٍ بين المفهوم الذي تعطينا إياه الآية الكريمة وبين مفهوم الجهاد الابتدائي.
لكن يجاب عن هذا الكلام بأنّ التفريق الذي قلناه سابقاً بين الرؤية الكلامية والرؤية الفقهية لمفهوم الجهاد الابتدائي إنما يصحّ في الأمور بحسب الواقع، ولهذا ذكرنا هذه التفرقة في مقام الحديث عن الأصول والقواعد العقلية في باب العهدة وتحمّل المسؤولية، أما عندما تدخل المسألة باب الظهورات اللفظية فلابدّ من الرجوع إلى العرف ليُرى ما هو المراد من منح مشيئة الكفر والإيمان للإنسان؟ فهل تخيير إنسانٍ بين الموت والإسلام هو بنظر العرف مفهومٌ موافقٌ لهذه المشيئة التي يقدّمها نصّ الآية السابقة أم لا؟ وسيأتي مزيد تفصيل لهذا الأمر إن شاء الله تعالى.
ثالثاً: قد يناقش في دلالة هذه الآية أيضاً بما ذكره العديد من المفسّرين وعلماء القرآنيات، بأنّ صيغة الأمر الواردة فيها ليست للطلب أو للتخيير، وإنّما هي للتهديد، تماماً مثل قوله تعالى: ﴿ ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ﴾ «النحل: 55»، ومن ثمّ فلا معنى لربط الآية بالحرّية الدينية ومنح اختيار العقيدة [15] .
إلا أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ بل هو فهم للصيغة نتيجة فهم مسبَق للمعنى نفسه، فلو صحّ هذا لكان معنى «من شاء فليؤمن» هو التهديد أيضاً، مع أنّه واضح في عدم إمكان ذلك، ولعلّ ما دفعهم إلى هذا الأمر عدم تعقّلهم إمكان أن يخيّر الله الناس بالكفر أو يطلبه منهم فيجعله في مصاف الإيمان، بما يوحي بأنّ الكفر فعلٌ جائز، تماماً كما هي خصال الكفارات المخيّرة، مع أنّ الآية الكريمة لا تعني ذلك، بل هي واضحة في ترجيح الإيمان من خلال المقطع اللاحق منها والمتحدّث عن النار، فهي تريد أن تقول: إذا أردتم الإيمان فلكم أن تؤمنوا ولن يكون لدينا مقابل إيمانكم هذا أيّ ردّ فعلٍ سلبي، وإذا أردتم الكفر فلكم ذلك أيضاً، ولن تجدوا في مقابله إلا الجزاء الأخروي، فلا يضرّ هذا التخيير بأيّ مبدأ عقدي أو كلامي، نعم لو كانت الآية بصدد الأمر بالكفر فقط أو الترخيص به ثمّ التوعّد بالنار، لصحّ ذلك تهديداً، كأن تقول: اكفروا وسترون ما لا تحبّون، مع أنّ هذه الآية بالخصوص ليست كذلك.
رابعاً: حاول العلامة الطباطبائي أن يجعل هذا المقطع «فمن شاء فليؤمن...» خارجاً عن مقول القول، فيكون معنى الآية: قل لهم: «إنّ الحقّ من ربّكم»، فمن شاء منهم أن يؤمن بعد قولك ذلك له فليؤمن، فلا إيمانه ينفعنا ولا كفره يضرّنا [16] ، فلا تكون الآية في سياق إعلان بيان قانوني بالتخيير ومنح الحرية العقديّة.
ولكنّني لا أعتقد أنّ تغيير مساحة مقول القول مؤثرة هنا في الدلالة على موضوع البحث؛ فسواء كانت من مقول القول أم لا، فإنّه في نهاية المطاف قد حظينا بنصّ قرآني يعلن التخيير، وإضافة أنّ الإيمان لا ينفع الباري تعالى والكفر لا يضرّه، إنّما جاءت من العلامة نفسه، وليس لها في الآية وجود حتى ندرجها فيها، فيكون معنى الآية ـ بعد الإخراج عن مقول القول ـ: وقل الحق من ربكم، فمن أراد منهم بعد قولك هذا له أن يؤمن فله ذلك، ومن أراد أن يكفر فهو حرّ مختار، لكننا سنواجهه بالعذاب يوم القيامة.
ب ـ قوله تعالى: ﴿ إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحقّ فمن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها وما أنت عليهم بوكيل ﴾ «الزمر: 41».
إنّ هذه الآية الشريفة تقرّر أنّ الأمر في الهداية والضلال راجعٌ إلى الإنسان نفسه، فتكون حاكيةً عن مفهوم الحرية الفكرية والدينية [17] .
وقد يناقش ــ بصرف النظر عن الجملة الأخيرة من الآية الكريمة ــ بأنها لا تدل سوى على عود نفع الهداية وضرر الضلال على الإنسان نفسه، وهذا أمر واضح صحيح، سواء كان هناك جهاد ابتدائي أم لم يكن، فهي لا تقرّر مبدأ المشيئة بهذا المعنى، بل تقرّر مبدأ النفع والضرّ.
ومثل هذه الآية ما جاء في سورة يونس، في الآية المائة وثمانية، إلى غيرها من الآيات التي طرحت في مسألة الحرية في اختيار الدين.
ويبدو لي من أكثر هذه الآيات أنها قد لا تنافي مسألة الجهاد الابتدائي عدا الآية الأولى في الجملة، لكنها تشكّل مدماكاً في هذا السياق، خصوصاً وأنّ جميعها أو أغلبها مما نزل في مكّة حيث لم يكن التشريع الدنيوي بادياً في النصّ القرآني بوضوح.
3 ـ 1 ـ الجهاد الابتدائي ونصوص وظيفة النبي (ص)
يُقصد بهذه النصوص تلك الآيات الدالّة على أنّ وظيفة النبي (ص) هي الهداية والإبلاغ وإيصال الحقّ، أما الإلزام به وتحقيقه خارجاً فهو أمر خارجٌ عن شؤونه ووظائفه.
1 ـ 2 ـ قوله تعالى: ﴿ فذكّر إنّما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر إلاّ من تولّى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر ﴾ «الغاشية: 21 ــ 24».
إنّ هذه الآية هنا لا ترى من مسؤوليات النبي (ص) سوى التذكير وأنّه ليس بمسيطرٍ عليهم ليلزمهم بديانته ولا بمتسلّط على شؤونهم ليدخل الإيمان فيهم، مما يكشف ــ بشهادة أداة الحصر ــ أنه ليس من وظائف النبي (ص) غير ذلك [18] ، فلو كان الجهاد الابتدائي واجباً لما صحّ سياق مثل هذه الآية ولسانها، كما هو واضح.
لكن قد يلاحظ هنا أولاً: إنّ هذه الآية مكية، فلعلّ المراد: حيث إنك لست بمسيطر عليهم ولا تملك إلزامهم بشيء فليس أمامك سوى وظيفة التذكير والبيان دون أن يؤدّي ذلك إلى افتراض النسخ بآيات القتال [19] ، لفرض كون الآية معلّقة منذ البداية على عدم تسلّطه عليهم ــ وهو إخبار لا إنشاء ــ فيكون تغيّر الحكم لوجود تحوّل في موضوعه القائم عليه، لا لوجود النسخ. وأما الاستثناء الوارد في الآية فهو ــ بقرينة الآية التي لحقتها ــ منقطع لا متصل، كما صرّحوا به [20] .
لكنّ هذا الاحتمال لو استطاع إرباك فهمنا لهذه الآية الكريمة، إلا أنّه سوف يتلاشى تدريجيّاً عندما نجد أنّ الآيات الأخرى تؤكّد مفهوم عدم السلطنة، بوصفه أساساً في المشروع النبوي، لاسيما مع كون بعضها مدنيّاً.
ثانياً: فهم العلامة فضل الله والسيد كاظم الحائري من هذه الآية السيطرةَ التكوينية على العقل والوجدان، وأنّ هذا الأمر من مختصّات القدرة الإلهيّة، فتكون الآية بصدد نفي سيطرته التكوينية على القلوب لا نفي السلطنة الظاهرية التي تكون بالإكراه على اعتناق دين ما [21] .
ولكنّ هذا التفسير وأمثاله للآيات ربما يواجه مشكلة الفهم العرفي، فإنّ بعض المفسّرين ـ لاسيما العلامة الطباطبائي ـ ربط مجمل الآيات التي نذكرها في هذا البحث بالبُعد الوجداني والقلبي الباطني، معتبراً ذلك أساساً، مع أنّ العرف لا يحصر فهمه بهذه الطريقة المنبثقة من تحول التديّن إلى فعل قلبي وإخراجه عن أن يكون اندماجاً في الاجتماع الديني، فأنت تقول لزيد ذكّر بكراً بما يجب عليه فعله وليس مطلوباً منك أكثر من هذا فأنت لا تملك سلطةً عليه ولا سيطرة، أو تقول ذكّره بالدين وليس مطلوباً منك أكثر من هذا فلست مسلّطاً عليه، إنّ هذا التركيب يفهم منه القهر والإكراه لا البعد الباطني فقط، علماً أنّ ما يذكّر به النبيّ ليس خصوص الاعتقادات، بل يشمل السلوك والتصرّفات والأخلاقيات أيضاً، مما يمكن أن يكون له مباشرةً مدلول عملي ظاهري، وليس من أفعال القلوب فقط، فالآية في محصّلتها تريد أن تبيّن للنبي أنّ وظيفتك البيان، وليست لك أيّ سلطة عليهم بحيث تستطيع إدخالهم في دينك، فأولئك الذين يتولّون منهم إنما يكون التعاطي معهم عندي عبر العذاب الأكبر الذي ينتظرونه.
ومثل هذه الآية الشريفة، قوله تعالى: ﴿ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾ «ق: 45» [22] .
وقد تواجه هذه الآية المشكلة نفسها؛ فإنّ السورة مكية، ومعنى جبّار أي متسلّط عليهم، وقيل: فظّ غليظ [23] ، فيكون المعنى: ذكّر يا محمد من ينتفع بذكراك فليس عليك وأنت في مكّة مقهوراً غير متسلّط عليهم سوى ذلك، فلا تكون دالّةً ــ مع هذا الاحتمال ــ على الموقف في غير الحال المكيّة، فهناك قصور في دلالتها، إلا إذا صحّ ما قدّمناه آنفاً.
3 ـ 11 ـ قوله تعالى: ﴿ ما على الرسول إلاّ البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ﴾ «المائدة: 99»، ومثله قوله تعالى: ﴿ إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ﴾ «آل عمران: 19 ـ 20»، وقوله تبارك اسمه: ﴿ قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولّوا فإنما عليه ما حمّل وعليكم ما حمّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين ﴾ «النور: 54»، وقوله عز من قائل: ﴿ وإن تكذّبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين ﴾«العنكبوت: 18»، وقوله سبحانه: ﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ﴾ «النحل: 35»، وقوله تعالى: ﴿ إنما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فقل إنما أنا من المنذرين ﴾ «النمل: 91 ـ 92».
وهذه الآيات ـ المكيّة والمدنيّة ـ تقرّر المبدأ عينه الوارد في سورة الغاشية، وهي أنّه ليس على الرسول إلاّ البلاغ، وأنه إزاء كفر الناس لا يكلّف بما هو أزيد، وأنّه ليس له أن يحمل الناس على الإيمان [24] ، فكيف يكون الجهاد الابتدائي، المنطلق من خاصّية كفر الناس، من تشريعات ديانة هذا النبي؟!
فهذه الآيات الشريفة تنفي وجوب أيّ أمر آخر على النبي إزاء كفر الطرف الآخر، ومنه الجهاد الابتدائي بملاك الكفر، لكنها لا تنفي شرعيّته، وأما مقاتلة النبي المعتدين أو استلامه شؤون الدولة وقيامه بوظائف أخرى فليس له علاقة بذلك، فهي لا تريد إسقاط الصلاة عن النبي والحجّ والصوم لتثبت عليه البلاغ فحسب، بل الحصر فيها إضافي ونسبي، أي بالنسبة إلى إبلاغ الدين وصفته الدعوية النبوية والرسوليّة ليس عليه سوى ذلك، فإن لم يهتد الطرف الآخر فلا وظيفة غير ذلك ملقاة على كاهل النبي إزاء الطرف المبلَّغ، وإلا لبيّنت، أما في الجهاد الابتدائي فالمفروض بدايةً هو دعوة الطرف الآخر فإن قبل وإلا وجب جهاده، فلو كان هذا التشريع من وظائف النبي للزم بيانه، على الأقلّ في الآيات المدنية من هذه المجموعة؛ لأنّه على صلة بالوظيفة الدعويّة، من حيث ترتّبه على إعراضهم عنها، في حين نجد أنّ هذه الآيات جميعها ترتّبُ على إعراضهم إعلانَ حصر وظيفته بالجانب الدعوي البياني، فلا تناسب بين المفاهيم.
وفي هذا السياق أيضاً، قوله تعالى: ﴿ ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم وكان الكافر على ربّه ظهيراً وما أرسلناك إلاّ مبشراً ونذيراً قل ما أسألكم عليه من أجر إلاّ من شاء أن يتخذ إلى ربّه سبيلاً ﴾ «الفرقان: 55 ــ 57».
فهذه السورة رغم كونها مكيةً، إلاّ أنّ في لسانها البياني تعميماً؛ إذ ربطت التبشير والإنذار بغرض الله تعالى من الرسالة، أي أنه ليس من وظائفك سوى الإنذار والتبشير، ولا مسؤولية عليك غير ذلك إزاء من يرفض دعوتك، وهذا المفهوم لا يناسب مفهوم الجهاد الابتدائي. ولا تعليق في الآية على عدم القدرة حتى يُقال بأنّ ذلك راجع إلى كونه في مكّة المكرّمة.
وكذلك يأتي في هذا المضمار، قوله تعالى: ﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن تولّيتم فاعلموا أنّما على رسولنا البلاغ المبين ﴾«المائدة: 92»، حيث تركّز هذه الآية الكريمة على المفهوم المتقدّم عينه، وهو أنّه على تقدير عدم طاعة الله ورسوله ليس على الرسول من وظيفة إزاء إعراض الطرف الآخر سوى البلاغ المبين، والسورة مدنية، فلو كان الجهاد الابتدائي مفهوماً إسلامياً للزم ضمّ هذه المسؤولية تجاه ذلك.
لكنّنا لو راجعنا سياق هذه الآية الشريفة بالخصوص فيما سبقها وما لحقها من آيات، لوجدناها تتحدّث مع المسلمين وأنّهم إذا تولّوا عن إطاعة الله ورسوله فليس أمام الرسول إلا البلاغ. ويبدو لي ـ إذا لم نشكّك في وحدة نزول هذه الآية مع سياقها ـ أنّ التولّي هنا هو الإعراض عن طاعة الله ورسوله، فإذا قصد المعنى الشامل دلّ على الارتداد، فتكون الآية معارضةً لحكم المرتدّ المعروف في الفقه الإسلامي، وإلا لزم القول بأنّ أنظمة العقوبات لا تكون من وظائف الرسول بما هو رسول، وإنما يكون تفعيلها من وظائف الولاية الثابتة له نتيجة العقد الاجتماعي والمواضعة على النزول عند حكمه أو غير ذلك، وبحثه يكون في الفقه السياسي.
وفي هذا الصدد، نجد كذلك قوله سبحانه: ﴿ وإن ما نرينّك بعض الذي نعدهم أو نتوفيّنك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾ «الرعد: 40»، وإن كانت هذه الآية غير ظاهرة إلا في الحصر الإضافي الذي نعلم حاله من المقطع الأخير، أي عليك أنت البلاغ فقط وليس عليك الحساب، فإنّه علينا، فلا يكون لها دور في موضوعنا ما لم نعمّم الحساب لغير الحساب الأخروي.
12 ـ 18 ـ قوله تعالى: ﴿ فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاّ البلاغ.. ﴾ «الشورى: 48»، وقوله سبحانه: ﴿ قل يا أيها الناس قد جاءكم الحقّ من ربّكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها وما أنا عليكم بوكيل ﴾ «يونس: 108»، وقوله تبارك اسمه: ﴿ وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل ﴾ «الأنعام: 66»، وقوله تعالى: ﴿ قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ «الأنعام: 104»، وقوله تعالى: ﴿ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل ﴾ «الأنعام: 106 ـ 107»، وقوله عز من قائل: ﴿ إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضلّ عليها وما أنت عليهم بوكيل ﴾ «الزمر: 41»، وقوله سبحانه: ﴿ والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل ﴾«الشورى: 6».
وهذه الآيات رغم أنّ بعضها مكيّ، إلاّ أنها لمّا رُبطت بالإرسال عنت أننا لم نرسلك لكي تكون حفيظاً عليهم تحفظهم من أنّ يضلّوا كما أنّك لست بموكلٍ بهم، فليس عليك إلاّ البلاغ، فلا تحزن لأمرهم [25] ، وهي دالّة على هذا المبدأ في التعامل مع غير المسلمين، فكيف يمكن أن ينسجم هذا المفهوم الذي تعطيه هذه الآية الشريفة مع الصورة الإجماليّة للجهاد الابتدائي في الموروث الفقهي الإسلامي؟! فإنّ تلك الصورة تقول: فإن أعرضوا فقاتلهم واقتل من لا يؤمن منهم، ما لم يكن من أهل الكتاب، وإلا فأخضعه للجزية ونظام الذمّة.
وقد فهم العلامة الطباطبائي من آيات نفي كون النبي موكلاً بالناس، أنّها تريد أن توكل أمرهم إلى الله سبحانه والتخلية بينه وبينهم من حيث المصير، لا أنّها تريد بيان حريّة المعتقد [26] .
لكنني لم أفهم عملية فكّ الارتباط بين مفهوم التخلية ومفهوم الحرية الدينية، فإذا كانت هذه الآيات تريد أن تقول للنبي: اتركهم لي، ألا يستبطن ذلك عرفاً أن لا تمارس القهر والعذاب والعقاب عليهم، وإلا فما الذي كان يمكن أن يفعله الرسول غير هذا؟ وإذا كانت تريد أن تقول بأنّ أمرهم موكولٌ إلى الله سبحانه، فإنّ هذا أيضاً ـ عندما لا يبيّن خصوص النظر إلى الجانب الأخروي في هذه الآيات ـ يفيد أن ليس المطلوب من النبي غير البيان، وأنّ الإجراءات العملية المترتبة على كفرهم ليست من وظائف النبي، فليترك هذا الأمر لله، فهو الذي يجري عليهم حكمه، فلماذا لا تكون هذه الآيات شاهداً على مبدءٍ رئيس هنا؟!
نعم، يبقى في النفس احتمالٌ قد يهدم الاستدلال بمجموعة الآيات التي عبّرت بالوكيل والحفيظ وأمثالهما، لا بكلّ آيات هذه الطائفة الثالثة، وهو أن يكون المراد إسقاط مسؤولية فعلهم عن النبي، فالحفيظ والموكل بأمر يتحمّل مسؤولية هذا الأمر، فكأنّ الآيات تريد أن تقول: يا محمد، إذا قمتَ بما كلّفناك به سقطت المسؤولية عن كاهلك، وأنت لا تتحمّل مسؤولية وضعهم وانحرافهم، فلست موكلاً بهم على نحو توكيل الوالد بولده الصغير أو حفيظاً عليهم على النحو عينه، حتى إذا عرض له شيء تحمّل الوالد تلك المسؤولية، وتوجّه اللوم إليه في أنّه لم يحفظ ابنه، مع أنّه في عهدته وتحت وكالته ونظره، إنّ القضيّة هنا ليست كذلك، فعليك القيام بواجبك، وانحرافهم لا يؤثّر عليك، فلا تحزن لأمرهم ولا يضرّك ضلالهم وزيغهم، فنفي الوكالة والحفظ هنا تخفيفٌ عن الشعور بالمسؤوليّة لا سلباً للسلطنة عليهم قانونيّاً.
ومع هذا الاحتمال، تصبح بعض آيات هذه المجموعة غير وافية بالدلالة على المدّعى، ولعلّ هذا هو نظر ومراد من ناقش فيها.
ومع هذا كلّه، فقد يلاحظ على الاستدلال بهذه الآيات الكريمة برمّتها:
أولاً: إنّها خاصّة بالنبي من حيث وظيفته الرسالية، فما المانع من وجوب الجهاد الابتدائي من حيث وظيفة المسلمين أو وظيفته من غير ناحية تبليغ الرسالة؟
والجواب: إنّ بعض هذه الآيات ــ وهو مدنيٌّ ــ ربط أصل إرسال النبي بهذا الأمر، فإذا كان الجهاد الابتدائي من شرائع دينه كان ينبغي ذكره. وبعبارة أكثر دقةً: إننا لا نستدلّ هنا بمعارضة حدّية بين هذه الآيات وبين نصوص الجهاد، وإنما نقارن المفاهيم ونقول: لو كان مفهوم الجهاد الابتدائي حاضراً في الشريعة لما كانت هذه الآيات المتكرّرة دقيقةً في التعبير عن واقع الأمر.
ثانياً: من الممكن أن يقال بأنّ آيات الجهاد الابتدائي تنسخ الآيات المذكورة هنا بمجموعاتها، فلا يعود هناك معنى للتمسّك بهذه الآيات.
ويجاب بأنّ بعض الآيات هنا ليس قابلاً للنسخ بحسب صيغته؛ لأنه ليس من شؤون التشريع، فعندما يقول الله تعالى: إنه لم يرسل هذا النبي سوى لكذا وكذا، هل يصحّ القول: إنه غيّر رأيه وإرادته وقصده من الإرسال إلى غرض آخر، فالقضية ترجع إلى الغاية التي وضعها الله للرسالة، لا إلى بيان حكم شرعي قابل للنسخ.
يضاف إلى ذلك أنّ تكرّر مجموعة آيات سابقة في تأكيد فكرةٍ ما، مع مجيء آية واحدة لا نظر لها إلى ما سبق، يصعب معه قبول النسخ فيه؛ إذ يرى العرف أنّ التصرّف الدلالي في الدليل الجديد أقرب من نسخ جملة آيات مؤكّدة لمفهوم واحد، علاوةً على أنّ الآيات المدنية هنا لا نعلم سبقها أو لحوقها لآية الجزية التي جعلناها سابقاً الآية الوحيدة الدالّة، وبذلك لا يوجد ما يؤكّد النسخ حينئذٍ.
ثالثاً: إنّ أقصى ما تعطيه أغلب نصوص هذه المجموعة من الآيات الكريمة هو نفي وجوب الجهاد الابتدائي، لا نفي مشروعيّته.
4 ـ 1 ـ الجهاد الابتدائي ونصوص نفي الإكراه في الدين
وردت في القرآن الكريم نصوص تنفي الإكراه في الدين، وفد فصلناها عمداً عن نصوص الحرية الدينية المتقدّمة؛ لأنّ إطارها البياني ينفي الإكراه على الإسلام، فيما الإطار البياني لتلك المجموعة يمنح الرخصة في إظهار غير الإسلام، والآيات هنا هي:
أ ـ قوله تعالى ــ حاكياً على لسان نوح ــ:﴿ ويا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربّي وآتاني رحمةً من عنده فعمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ﴾«هود: 28».
وهذه الآية مكية تتحدّث عن الحوار الذي جرى بين نوح وقومه، وكأنها تؤكّد ــ باستفهامها الإنكاري في آخرها ــ على قضية عقلائية مستكنّة في الوعي الإنساني، وهي أنلزمكم بما بان لي واتضح مع أنكم كارهون له؛ إنّ هذا أمر غير منطقي.
وعليه، فتكون الآية تقريراً لمبدأ عدم الإكراه في الدين، إذ ماداموا لم يقتنعوا بالحقيقة، كيف يمكن إلزامهم بها وإكراههم عليها؟! [27] ، فهي تقرّر مبدأ نفي الإكراه منذ أ
جديد الموقع
- 2024-03-28 مداد السلسبيل
- 2024-03-28 تراكمات القراءة وذائقة القارئ
- 2024-03-28 أعضاء وأيتام مركز بر حي الملك فهد في ضيافة جامع الإمام الصادق
- 2024-03-28 شباب «التيك توك» في الغرب وقراءة القيم الإسلامية
- 2024-03-28 مناقشة علمية لاستخدام مكشطة اللسان للتخلص من رائحة الفم الكريهة
- 2024-03-28 تقنية البنات بالاحساء تطلق عددا الفعاليات الداعمة لمبادرة السعودية الخضراء
- 2024-03-28 الدفاع المدني بالاحساء تكرم الإعلامي زهير الغزال في اليوم العالمي
- 2024-03-28 مرض التدرن (السل الرئوي) نضرة مخيفة ومرعبة من المجتمع .والشفاء منه مرهون بالتزام المريض
- 2024-03-28 مشاركات في منتدى الفجيرة الرمضاني يناقشن دور الآباء في تنشئة الأبناء
- 2024-03-28 شهر رمضان محسوم في أوله وحرج في آخره الحجري العيد موحد في البحرين بشرط الاطمئنان للرؤية الحسية