الثقافة ليست درجةً جامعية، أو رسمية، وليست علما بكل شيء، الثقافة -على حدّ تعبير الكثير من المثقفين- تُعنى بالفعالية الفكرية والأدبية والفنية، الثقافة إعراب عن الحياة، ومطلب كمال، وكمال الإنسان وعي إنسانيته، صحيح أن الإنسان يتحرك بعمق في المجال الثقافي الذي يألفه، وفي جو البيئة الثقافية التي ينهل منها، ويعي مقتضياتها.

إن الثقافة جهد يشارك فيه البشر قاطبةً، وهي الجسر الذي يصل الطبيعة بالحضارة، التي هدفها في نهاية المطاف الغاية الحضارية التي يريدها الإنسان لعالمه ووجوده في الأرض.

في زماننا أصبحت الثقافة البضاعة الرائجة لتسويق شخوصنا، ولم تعد المسعى للتطوير والتغيير، فمنّا من جعل في ذاكرته بعض عناوين الأفكار والحقائق كمخزون للاستعراض في الجلسات والمناسبات، أو في وسائل التواصل الاجتماعي، وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك ليطلق العنان لخياله في نسج الحكايات، لتبدو حقائق يجهلها العارفون، وجُل هؤلاء طارئون ظهروا في غفلة من الزمن، وأصبح تركيزهم على رفض كل ما يطرح من قضايا تاريخية، وتراثية، ودينية، وقيم اجتماعية، وهمّهم الأول والأخير هو الإسفاف بأي فكرة أو رأي معارض لهم.

مثقفون يلعبون في ملعب السطحية وادعاء المعرفة بكل شيء، ومحاولة الهروب من المواجهة في حالة السؤال عن مصادرهم، التي اقتبسوا منها معلوماتهم، فتراهم يلتفّون على الأمر بعدم إعطاء الجواب، بل لديهم القناعة بأنهم وصلوا لمرحلة «كفى قراءة، كفى بحثا، كفى سؤالا» وما الحاجة إلى السؤال ما دام أنه مثقف يوهم نفسه بأن له شأنا، فتراه دائما مشاكسا في كل شيء، معترضا على أي معلومة أو فكرة لا تتفق مع آرائه وأهوائه، متهما الأطراف الأخرى بالجهل والتخلف، هؤلاء يطلق عليهم «أنصاف المثقفين»

لقد أصبح دعاة الفكر من أنصاف المثقفين في وقتنا الراهن، يلعبون دورا مثيرا، عبر استعراض آرائهم وأفكارهم عبر قنوات التواصل الاجتماعي، ولأنهم لا يريدون لأي شخص مبدع أو مفكر أو مثقف آخر أن يقول كلمته، أو يعبّر عن فكرته أو يشارك باقتراحه، طالما أنه لا ينتمي لمدرستهم، وسرعان ما يوجّهون له كل أقلامهم المسمومة، في محاولة لتشويه صورته لدى العامة، لمجرد أنه لا ينتمي إليهم، وأصبح كل من يختلف معهم عدوا.

وأكثر ما يرعب هؤلاء ويفقدهم التوازن، هو فتح صفحات التاريخ، لا سيما التاريخ القريب الذي يعتبر واقعنا امتدادا طبيعيا له ولإفرازاته، لسبب رئيسي هو أنهم ليسوا سوى امتداد لأخطاء هذا التاريخ وسلبياته، ولو لم تعرف أمة أخطاء تاريخها ما وعت حاضرها، ولا استطاعت أن تخطط لمستقبلها، وصنّاع التاريخ هم بشر لهم اجتهادات بشرية تدخل في إطار الصواب والخطأ، وتناولها بحقائقها التي كانت عليها، وليست بأكاذيبها التي أشيعت عنها، حق وواجب على الجميع أن يسعى لتحقيقه، كبيان للحقيقة وإنصاف للواقع وإدراك للمستقبل.