2019/02/02 | 0 | 1813
آية الله السيد طاهر السلمان (قدس سره) أنموذجا حيا للورع[1]
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾[2]. ورد في كتاب (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل) لآية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي أيده الله في تفسير هاتين الآيتين الكريمتين ما نصه: جاء في الآية (40)... من خاف مقام ربه..، ولم يقل (من خاف ربه)، فماذا يقصد بهذا المقام؟ طرحت احتمالات عديدة في جواب السؤال المذكور:
1 - المقام: مواقف القيامة، وهي المقامات التي سيقف فيها الإنسان بين يدي ربه للحساب، فسيكون " مقام ربه " - على ضوء هذا الاحتمال - بمعنى (مقامه عند ربه).
2- المقام: علم الله ومقام مراقبته للإنسان، بدلالة الآية (33) من سورة الرعد: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت.
وبدلالة ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): قوله: "من علم أن الله يراه، ويسمع ما يقول، ويعلم من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى".
3 - مقام العدالة الإلهية، لأن العبد لا يخاف من ذات الله المقدسة بل خوفه من عدل الله حسابه وفي الحقيقة إن هذا الخوف ناشئ من قياس أعماله بميزان العدل، فالمجرمون ترتعد فرائصهم وتهتز دواخلهم حين رؤية القاضي العادل، ولا يتحملون سماع اسم المحكمة والمحاكمة، بعكس من لم يقم بأي ذنب، فرؤيته للقاضي ستكون مغايرة لما داخل المجرم من إحساسات... ولا تباين بين هذه التفسيرات الثلاثة، ويمكن ادغامها في معنى الآية.
ونستفيد من الآية المباركة أن من تورع عن ارتكاب المحرمات ومنع نفسه عن فعل القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. وفي خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشهورة التي خطبها في آخر جمعة من شهر شعبان المعظم مستقبلا بها شهر رمضان المبارك، سأله الإمام علي عليه السلام عن أفضل الأعمال في شهر رمضان، فكان جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الورع عن محارم الله».
ومن الملاحظ أن هناك أعمالا كثيرة يأتي بها المؤمن في شهر رمضان ولها فضل عظيم عند الله سبحانه وتعالى كقراءة القرآن وقيام الليل وإطعام الطعام وغيرها، إلا أن الورع عن محارم الله أفضل منها بكثير.
ومن آثار معرفة الله سبحانه تعالى والخوف منه هي تقواه والورع عن محارمه، ولذلك حذَّرَ الإمام الصادق عليه السّلام من التورّط في المخالفة ورَغّبَ في الإحاطة بالتقوى، والورع في الدين. فيقول عليه السلام: «اتقوا اللّه وصونوا دينكم بالورع»[3]، وقال أيضا: «من أشدّ ما فرضَ على خلقه ذكر اللّه كثيرًا، ولا أعني سبحان اللّه والحمد للّه ولا إِله إِلا اللّه واللّه اكبر، وإِن كان منه، ولكن ذكر اللّه عند ما أحلَّ وحرَّم، فإن كان طاعة عمل بها، وإِن كان معصية تركها»[4].
وعن مفضل بن عمر قال: «كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فذكرنا الأعمال فقلت أنا: ما أضعف عملي، فقال، مَهْ، استغفر الله، ثم قال لي إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى. قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال: نعم مثل الرجل يطعم طعامه ويرفق جيرانه ويوطئ رحله، فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى، ويكون الآخر ليس عنده فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه»[5].
ويرى علماء الأخلاق أن الورع على درجات: فترك فعل المحرمات هي أدنى مراتب الورع، وترك فعل المكروهات تأتي بعدها، وأعلى مراتب الورع هو ترك الاتيان ببعض المباحات من الأعمال بهدف المساواة بالذين ليس لديهم القدرة على أداء تلك المباحات. وترى أعلى درجات الورع في سلوك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، تجد ذلك في قوله عليه السلام: «...هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة. ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟...»[6]. وقال أيضا عليه السلام: «ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدي به ويستضيئ بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد»[7]. وعن عمرو بن سعيد بن هلال الثقفي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قلت له: إني لا ألقاك إلا في السنين، فأخبرني بشئ آخذ به، فقال: أوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد، واعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه»[8].
وورع العالم الفقيه المجتهد له دلالة كبيرة حيث أنه يعرف جميع النواهي التي نهى عنها الشارع المقدس، سواء كانت محرمات أو مكروهات، أي أن ورعه عن محارم الله مبني على أساس علمي ومعرفي. وقبل شهرين فُجعت الأحساء برحيل أحد القامات العلمية الأحسائية الكبيرة، الذي يُشار إليه بالبنان، حيث تجسدت في شخصيته أعلى درجات الورع، ألا وهو آية الله العلامة السيد طاهر بن السيد هاشم السلمان الذي رحل إلى الرفيق الأعلى في يوم الخميس 28/03/1440هـ الموافق 06/12/2018م.
وقد أجمع من تعامل مع السيد طاهر السلمان – سواء من الحوزات العلمية أو من جميع أطياف المجتمع - على ورعه وتقواه في جميع شؤون حياته. وقد نعى المرجع الديني آية الله السيد علي السيستاني وفاة آية الله العلامة السيد طاهر السلمان رضوان الله تعالى عليه، وجاء في البيان عبارات "العالم الجليل الورع التقي" في قوله: «تلقينا ببالغ الأسى والأسف نبأ وفاة العالم الجليل الورع التقي حجة الإسلام والمسلمين السيد طاهر السلمان، الذي ارتحل إلى جوار ربه الكريم بعد عمر مبارك قضاه في خدمة العلم وترويج الدين والقيام بحوائج المؤمنين»[9].
ومن صور ورعه رضوان الله تعالى عليه، أنه امتنع عن تحديد الأعلمية بعد رحيل آية الله العظمى السيد الخوئي قدس الله نفسه، حيث قال: «عدم معرفتي بالمراجع عن قرب، وعدم توفر تقريراتهم تحت متناول اليد، مضافًا لاعتبارات أخرى، دعاني للابتعاد عن المساهمة في تحديد المرجعية في جهة خاصة، كما أن هناك من يقوم بهذه المهمة الصعبة»[10]. وصورة أخرى تجسدت فيها ورعه رضوان الله عليه هي رفضه لمنصب القضاء في الأحساء، حيث قال: «القضاء يحتاج إلى بال واسع، وإلى تذمم قضايا المؤمنين، فالخوف من المحاذير الدنيوية من جهة، والأخروية من جهة أخرى، عامل مهم في ابتعادي عن هذا المنصب»[11].
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: ﴿ما قبض الله عالمًا، إلا كان ثغرة في الإسلام لا تسد﴾، وفي رواية أخرى عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: ﴿إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة، لا يسدها شيء إلى يوم القيامة﴾[12]. برحيل آية الله السيد طاهر السلمان رضوان الله تعالى عليه خسرت الأحساء قامة علمية رفيعة المستوى في وسط علماء الحوزة العلمية؛ وخسرت الأحساء شخصية اتسمت بالأخلاق العالية حيث جسد أخلاق محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين بأعلى مراتبها مع جميع أطياف المجتمع الأحسائي؛ وخسرت الأحساء أبُا رحيمًا لعلماء الأحساء.
وقلت شيئًا من الشعر تأبينًا لروحه الطاهرة:
هَنِيئًا لِأَحْسَائِنَا بِالأَكَارِمِ مِنْ آلِ طَهَ، وَنِعْمَ الفُحُولُ
رحمك الله يا أبا سيد محمد رضا رحمة الأبرار وأسكنك فسيح جناته مع محمد وآله الآخيار، وألهم أهلك وذويك وجميع العلماء وجميع المؤمنين والمؤمنات الصبر والسلوان، إنه سميع الدعاء، قريب مجيب.
جديد الموقع
- 2024-04-19 مكتبات من بشر
- 2024-04-19 المدة والملكية والترجمة وسائل لاستغلال مؤلفي الكتب
- 2024-04-19 أفراح البخيتان بالمطيرفي تهانينا
- 2024-04-18 مكتبات ليست للقراءة فقط
- 2024-04-18 الخميس: رغبتنا صعود لدوري الكبار
- 2024-04-18 "ختام ملتقى موعود مع انطلوجيا القصة القصيرة السعودية"
- 2024-04-18 بر الفيصلية يقيم حفل معايدة لمنسوبيه .
- 2024-04-18 مختارات من الرسائل
- 2024-04-18 الأمير سعود بن طلال يرعى توقيع عقد إنشاء بوابة الأحساء
- 2024-04-17 أحدث إصدارات الشيخ اليوسف: «الإمام العسكري: الشخصية الجذابة»