
2025/05/09 | 0 | 218
بين نُبل الإيثار وتحقيق الذات: كيف نفهم دوافع العطاء الخيري؟
كثيرًا ما نتجاهل المشاعر الإنسانية ونتردد في تقديم الشكر والثناء لفاعل الخير، بحجة أنه يعمل لله ولا ينتظر المقابل. نعم، هذا صحيح، فالإخلاص في النية أمر مهم. لكن تجاهل مشاعر فاعل الخير وعدم منحه التقدير الذي يستحقه، ليس من الحكمة. فالشكر لا يُنقص من إخلاصه، بل يُشجّعه ويُشعره بأن ما يفعله له قيمة وأثر في نفوس الناس.
لكن عندما نتأمل في واقع الناس وتجاربهم، نكتشف أن الدوافع الإنسانية معقّدة، وأن النفس قد يكون لها دور، حتى في أعظم صور العطاء. فهل هذا يُقلل من قيمة العمل الخيري؟ وهل السعي للرضا أو الأثر الشخصي يُنقص من نُبل العطاء؟
هذا المقال يحاول الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال استكشاف العلاقة المتوازنة بين نُبل الإيثار وتحقيق الذات، وكيف أن هذا التداخل قد يكون مصدر قوة لا ضعف.
وقد أشار القرآن الكريم إلى أثر فعل الخير على النفس في الدنيا والآخرة، وأن من يُقدّم الحسنة بصدق، يُجزى عليها خيرًا منها. يقول سبحانه وتعالى:
"مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ)"النمل: 89). فالآية تُبين أن عمل الخير لا يضيع، بل يُضاعف لصاحبه، ويمنحه سكينة وأمانًا في أعظم لحظات الخوف. وهذا المعنى يُوضح كيف أن العطاء النابع من نية صادقة لا يُفيد الآخرين فقط، بل يعود على النفس بالطمأنينة والرضا، وهو نوع من النفع الذاتي المحمود.
العطاء ليس فقط مالًا، بل هو كل ما يُقدَّم لخدمة الآخرين وتحسين حياتهم. قد يكون ماديًا كالدعم المالي، أو معنويًا كالمساندة النفسية، أو إرشاديًا كالتوجيه والتعليم. وقد يكون من خلال الوقت أو مشاركة التجارب والخبرات. كل هذه الصور من العطاء تستحق التقدير والاحترام.
ومن الأمثلة المعاصرة اللافتة على الجمع بين الإيثار والرضا الذاتي، ما فعله زيل كرافنسكي، رجل أعمال أمريكي حصل على درجة الدكتوراه في البلاغة، وكان يحمل اهتمامًا عميقًا بالفلسفة والأخلاق. تبرع بمعظم ثروته، ومنها 45 مليون دولار، ووهب كليته لشخص غريب، مؤمنًا بأن ذلك واجب أخلاقي. اختار حياة بسيطة، وقال إن ما فعله منحه شعورًا بالسلام الداخلي، وأنه وجد في العطاء هدفًا لحياته وقيمة حقيقية لوجوده.
هذه القصة تُظهر أن "الأنا" الطيبة يمكن أن تكون محفزًا قويًا للعطاء، وأن المزج بين العلم والرحمة قد ينتج عنه أثر إنساني كبير.
تشير دراسات وأبحاث في مجال العمل الخيري إلى أن العطاء لا يجب أن يكون خاليًا تمامًا من المشاعر الشخصية أو الفوائد الذاتية. بل إن الشعور بالرضا، وتحقيق الذات، والانتماء، قد تكون دوافع قوية تُسهم في استمرار الفعل الخيري وانتشاره. وهذا ما يُعرف أحيانًا بـ"الدافع الذاتي الإيجابي"، أي أن يكون في العطاء نفع للغير ونفع داخلي للنفس في آنٍ واحد.
ومن الأقوال المأثورة: "أمران يرفعان شأن المؤمن: التواضع، وقضاء حوائج الناس." هذا القول يُبرز أن رفعة الإنسان في العطاء لا تُقاس بحجمه فقط، بل بكيفية تقديمه وتواضعه وخدمته للناس بإخلاص، مما يعكس الانسجام بين صفاء النية وأثر الفعل.
وقد كتب إريك فريدمان، وهو باحث وناشط أمريكي في العمل الخيري، ومؤلف كتاب إعادة ابتكار العمل الخيري: إطار لعطاء أكثر فاعلية (2013):
"Most giving tends to be a combination of expressive and instrumental..." (Friedman, 2013, p. 477, in Moody & Breeze, 2016)
أي أن العطاء في الغالب يكون مزيجًا من التعبير عن القيم والمشاعر، ومن الرغبة في إحداث تأثير ملموس أو تحقيق أهداف عملية. وهذا يدعم فكرة أن وجود دافع ذاتي لا يُضعف من قيمة العطاء، بل يُظهر عمقه الإنساني وتنوعه.
كما أن على المؤسسات والجمعيات الإنسانية أن تولي اهتمامًا أكبر للجوانب النفسية لفاعلي الخير. فالتقدير ليس مجرد مجاملة، بل هو جزء أساسي من دعم استمرارية العطاء. تجاهل مشاعر العطاء الذاتية—مثل الحاجة للشكر أو الشعور بالأثر—قد يُضعف الحافز الداخلي ويقلل من تكرار الفعل الخيري، سواء كان بالمال أو بالوقت أو بالجهد.
التعبير الصادق عن الامتنان، والاحتفاء بتجارب المتبرعين والعاملين، هو استثمار في ثقافة العطاء. فالقصص الواقعية والتجارب الصادقة تُلهم الآخرين أكثر من الشعارات أو الإحصاءات. وكما يُقال: "من لا يشكر المخلوق لا يشكر الخالق."
لذلك، لا ينبغي للمؤسسات أن تخجل من إظهار الامتنان أو من احتضان المشاعر الدافعة للعطاء، بل يجب أن تُبرزها بوعي وتُحسن توظيفها في بناء تواصل إنساني مؤثر ومستدام.
ومن المهم أيضًا ألا نغفل عن تقدير العاملين في القطاع غير الربحي، سواء بالدعم المعنوي أو بالتكريم المادي، خاصة أولئك الذين يشاركون قصصهم ويعملون بإخلاص لإحداث تغيير حقيقي في المجتمع.
وفي الختام، يبقى سؤال مفتوح للتأمل: هل الاعتراف بالمشاعر الشخصية مثل الرضا وتحقيق الذات يُعزز من قيمة العطاء أم يُضعفها؟
قد تختلف الإجابات، لكن ما لا يختلف عليه اثنان هو أن العطاء الصادق لا يمر دون أثر. فعندما يُعطي الإنسان من قلبه، لا ينفع غيره فقط، بل يُضيء جزءًا من داخله أيضًا.
جديد الموقع
- 2025-05-21 محاضرة "أخلاقيات السرد " للدكتور كميل الحرز وسط حضور نخبوي
- 2025-05-21 من المتوقع أن يتحلل الكون في 1078 سنة، أي قبل وقت أطول بكثير مما كان يُعتقد سابقًا
- 2025-05-21 بيئة الأحساء تُفعّل اليوم العالمي للنحل في لولو مول
- 2025-05-21 الجامعة الأهلية بالبحرين تتوسع في استقطاب الطلبة السعوديين المتميزين وتطلق حملتها من "الأحساء مول"
- 2025-05-21 برعاية سمو المحافظ : انطلاق منتدى ( الاحساء صديقة الطفل ) 25 مايو
- 2025-05-21 وفد الجامعة العالمية يلتقي الملحق الثقافي العراقي في لندن
- 2025-05-21 تخرج احفادي من الابتدائية فرحة اعادت لي ذكرياتي الاولى
- 2025-05-20 سمو محافظ الأحساء يُقلّد مدير الدفاع المدني بالمحافظة رتبته الجديدة
- 2025-05-20 "قرع الطبول في زيارة إسطنبول" للكاتب منير المنيري
- 2025-05-20 برعاية سمو محافظ الأحساء وكيل المحافظة يشهد حفل تخريج طلاب أكاديمية الكفاح المتوسطة تحت شعار طموح