
2008/02/23 | 0 | 708
الليلة الثانية : سعيد بن جبير
أما الوجبة الروحية الثانية من حياة سعيد بن جبير هي صبره ، ولا نقصد بصبره على مكاره الدنيا ومصائبها ، ولا نقصد بصبره على أداء التكاليف الشرعية ، وإن كان لها من الفضل الكبيروالأهمية في الإسلام ، فكانت موجودة في سعيد بن جبير ، لكن قصدنا من صبره هنا العزوف عن متاع الدنيا وزبرجها حتى ولو كانت في متناول يده ، بحيث أن سعيدا تميز في ترك ملاذ الدنيا رغم أنه يستطيع الحصول عليها ، والشاهد على ذلك ما ترجم عنه فقد كان سعيد يوما ماشياً ،فرأى درة ثمينة على الأرض – شيء من القطع غالي الثمن – فلم ينحنِِِِ ِ لها ، وتركها لعلمه بالأحكام الفقهية في اللقطة ، وجواز التقاطها مع تفصيل في مسائل اللقطة ، رغم ذلك لم ينحني لأخذها ، ولو أخذها مثلاً وباعها جاءت له بما يعنيه في الدنيا ، لكنه تركها عزوفاً عن الدنيا .
أما الوجبة الروحية الثالثة في حياته هي شجاعته الأدبية ، فسعيد كان يفرض أدبه على الآخرين حتى أنهم يصغون إليه ، ويأخذون برأيه ، وكان لا يسمح أن يمر ذكر أحد بسوء في مجلسه إلا وحاسبه ومنعه ، وبذلك يفرض أدبه على غيره بأمره بالمعروف نهيه عن المنكر، فيقول لمن يريد غيبة أخيه المؤمن : أخرج من مجلسي ، وإذا أردت أن تقول شيء فيه فقل له مباشرة في وجهه ، ولا تتبع عورات المؤمنين ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ( ليس للمسلم أن يتتبع عورة أخيه ) . أي لا يعيبه في قول أو فعل .
والوجبة الروحية الرابعة في سعيد تصحيح الفكر وإيجاد طرقا للعروج إلى الله سبحانه ، وذلك بإدمان اتهام النفس ، ونكران الذات أمام الخالق سبحانه ، و الشعور بالتقصير في جنب الله ، وشكر نعمه . .فنلاحظ أن بعض الناس يرى في اتهام نفسه توهينا له ، وضعفا لشخصيته ، فمثلاً يكثر الجلوس في غرف الماسنجر، ويحدث الفتيات بدعوى النقاش في موضع ما ، وإذا قيل له : لا تخلوا مع المرأة الأجنبية ، قال مكابراً : أنا قوي ، ولا يمكن أن أقع في المحظور .
ومن مقالة سعيد في نكران الذات : ( لأن أؤتمن على بيت من الدر أحب إلي أن أؤتمن على امرأة حسناء ) . ولذا كان يتهم نفسه ، وينكر ذاته مصداقا لقول الله سبحانه :{ وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ.} .
ولي وقفة مهمة هنا معترضة في البحث في قصة يوسف عليه السلام مع زليخة زوجة العزيز ، فقد ذهب بعض علماء المسلمين بالقول أن يوسف عليه السلام قد اعتراه ما يهم الرجال من النساء كما قال تعالى :{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ }. قال لا تعارض بين عصمة الأنبياء ، وبين ما يعتريه من النساء ، ولا تحتمل الآية صرفها عن ظاهرها ، نقول هنا رداً على الإشكال الذي طرحه هل عرفت لنا العصمة ؟ وما معنى التسديد الإلهي ؟ وما هو الفرق بين العصمة الد'نية و العصمة الكسبية ؟ فنلاحظ أنه خلط بين كل هذه المفاهيم فنقول له إن أقرب تعريف للعصمة هو : أن المعصوم يرى حقيقة وبشاعة الذنب ، فتقترف وتشمئز نفسه منه ، فلا يرتكبه أبداً . فلو قُدم لرجل عصير تفاح لهفت نفسه لشربه من صفائه ، لكن لو قُدم له في هذا الكأس سم زعاف ، فحتى لم يتغير لون العصير ، لكن لعلمه أن به سماً زعافا لن يُفكر في الشرب ، لأنه رأى ضررا من تناول هذا العصير ، فيكون من غير العقل تناوله ، وهذا ما قصدناه ليوسف عليه السلام بحيث أنه معصوم ، ففر هارباً منها لعلمه بقذارة وحقيقة الذنب التي تريد أن تفعله ، فمحال أن يرتكبه ، فلا يجوز قول أنه كان يعتريه ما يعتري الرجال من النساء لأنه مخالف للعقل . وأما العصمة الكسبية فقد يرى حقيقة الذنب وقد لا يرها ، أو يعرفها بعد ارتكاب الذنب من خلال الرياضة الروحية التي يمارسها فتكون مع الأيام عصمة كسبية ، وهذه لغير المعصوم .فهذا العالم المحترم لم يكلف نفسه عناء تعريف العصمة مع التفريق بين التسديد الإلهي ، فتكون ما توصل له لم يصمد أمام الاستدلال العقلي فضلاً عن النقلي من الروايات . ولذا يجب على الإنسان أن يدمن اتهام نفسه ، وخير مثال نقتدي به هو آية الله مظاهر وهو يعتلي منبر الأخلاق حينما وجه له سؤال وهو شيخ المتألهين كيف تكون حالتك لو كنت مكان نبي الله يوسف عليه السلام ؟ فقال أستجير بالله من أن أكون مكان يوسف عليه السلام متهماً نفسه ، وهذا أحد علمائنا فكيف بنا نحن عوام الناس .
والوجبة الروحية الخامسة في حياة سعيد أنه كان يملك الدعاء و الاستغفار ، ومن يملك الدعاء ملك الإجابة ، ومن ملك الاستغفار ملك التوبة ، حيث أنه تذوق حلاوة الدعاء ووعاه ، ولذا قال : لقد دعوت أنا و صاحبي بعد أن ذقنا حلاوة الدعاء بأن نموت على الشهادة فماتوا عليها وأنا أنتظر الشهادة . الوجبة الروحية السادسة في حياة سعيد هي أن كل إنسان إذا أراد يرحل من هذه الدنيا ودع أحب شيء في قلبه من أولاده وأسرته وغيرهم ، لكن سعيد بن جبير ودع حياته بأن صلى ركعتين حينما عزم الحجاج على قتله فقد طلب إمهاله للصلاة ، فأمهله ، ثم أمر بقطع رأسه ، فبدأ الدم يشخب منه كالميزاب ، فارتعب الحجاج من هذا المشهد فسأل الأطباء لماذا سعيد يختلف عن غيره ممن قتلتهم ، فأجابوه : ماذا طلب منك قبل أن يموت ؟ قال : أمهلني لكي يصلي ، فقالوا أمر طبيعي لأن من قتلتهم سابقاً كانوا ينشف دمهم قبل أن يصل السيف إلى أعناقهم من الخوف والفزع ، لكن سعيد بن جبير لقي الموت بنفس مطمئنة راضية بقسم الله تعالى . وهذا ديدن أصحاب أهل البيت عليه السلام .
فرحمك الله ياسعيد بن جبير وحشرك مع أوليائه الصالحين .
تلخيص الاستاذ زاهر العبدالله
جديد الموقع
- 2025-04-27 أقوى تلسكوب في العالم لاستكشاف أسرار الكون
- 2025-04-27 برعاية سمو محافظ الأحساء وكيل المحافظة يدشّن النسخة الخامسة من مبادرة "امش 30"
- 2025-04-27 سمو محافظ الأحساء يرعى الحفل الختامي لميدان الفروسية بالأحساء لعام 2025 ويتوج الفائزين
- 2025-04-27 زوار معرض الرباط الدولي يشيدون بركن وزارة الشؤون الإسلامية: تجربة معرفية وتقنية تبرز ريادة المملكة في خدمة الإسلام
- 2025-04-27 زواج ثنائي سادة الهاشم (( الدكتور علي والمهندس حسين )) بالاحساء
- 2025-04-26 العمل التطوعي بين التنظير والممارسة
- 2025-04-26 تجربتان شعريتان في أمسية ابن المقرب
- 2025-04-26 أفراح الجاسم بالمطيرفي والبوحسن والخليف تهانينا
- 2025-04-25 سمو محافظ الأحساء يرفع التهنئة للقيادة بمناسبة ماتحقق من إنجازات لرؤية المملكة 2030
- 2025-04-25 سمو نائب أمير المنطقة الشرقية: رؤية السعودية 2030 تواصل ترسيخ مكانة المملكة في مصاف الدول المتقدمة