الشيخ حسين العباد:وظائف المنتظرين ومسؤولياتهم - (9)

( بريد الشبكة )

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين. واللعنة الدائمة على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾. (طه: 25 ـ 28).

الإنكار على أهل المعاصي:

عن الإمام الصادق (ع) أنه قال لجماعة من أصحابه: «حق لي أن آخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحق لي ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح ولا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يتركه». (تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي 6: 182).

لا زال الحديث أيها الإخوة المؤمنون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعلها الجمعة الأخيرة في هذا الصدد. وهذه الرواية الصحيحة تبين لنا مدى خطورة هذا الأمر وضرورة التصدي إليه. فقد التفت الإمام الصادق (ع) إلى جمع من أصحابه المخلصين مبيناً لهم أن من حقه أن يأخذ البريء بالسقيم. فماذا ذنب الأبرياء؟

تقدم في الجمعة قبل الماضية في رواية أيضاً أن سبب العذاب الذي نزل على قوم شعيب وهم مئة ألف، أن المذنبين منهم كانوا أربعين ألفاً، فيما كان الأبرياء ستين ألفاً، لكن العذاب نزل على الجميع، لأن الستين ألفاً سكتوا عن المنكر. فهذه الرواية في سياق تلك التي تقدمت، وهي تبين أن العمل القبيح يصدر من الرجل فلا يجد من ينكر عليه، ولا يهجره، ولا يؤذيه كي يترك العمل المنكر.

ومن الطبيعي أيها الإخوة المؤمنون أن من يقوم بعمل سيئ، ويرى في المجتمع أن الجميع ينفر منه، ولا يقبل منه، فسوف يتعظ وينتبه لنفسه ويرتدع عن المنكر، لا سيما إذا كان عاقلاً، لأنه بحاجة للمجتمع وللتقدير الاجتماعي.

مراتب الأمر والنهي :

في الرسائل العملية من أحكام الأمر والنهي أن هذه الفريضة ذات مراحل ثلاث، مرتبة ترتيباً دقيقاً، بحسب القدرة والتأثير، فلا ينتقل الآمر أو الناهي إلى المرحلة التالية إلا بعد استفراغ الجهد والوسع في الأولى، واليقين من عدم فاعليتها. وهذه المراحل هي:

الأولى: الإنكار القلبي، وهو أنه إذا رأى منكراً يُظهر انزعاجه وتذمره منه، بحيث يبدو على صفحات وجهه وسلوكه بأنه لا يرتضي هذا المنكر. كما أنه يصد عن صاحب المنكر ويترك الكلام والتعامل معه. فإن لم يُجدِ هذا العمل نفعاً انتقل إلى المرحلة التالية، وهي أشد قليلاً.

الثانية : اللسان، أي الأمر والنهي باللسان والقول الغليظ أو بالنصح والتذكير بما أعده الله تعالى للعاصين من العقاب الأليم وعذاب الجحيم، وما أعده للمطيعين من الجزاء والنعيم، مع ذكر الآيات والروايات إن أمكنه ذلك، ليكون النصح أبلغ. وهي مرحلة متقدمة عما سبقها من المراحل. فإن لم تجد هذه المرحلة نفعاً أيضاً انتقل إلى ما بعدها، وهو التغيير باليد.

المرحلة الثالثة : استخدام القوة، أي الضرب أو فرك الأذن. ولكن، لا بد من التنبيه هنا إلى أن التوجه إلى هذه المرحلة الثالثة، وهي الضرب أو فرك الأذن للعاصي العامل بالمنكر، ولا بد فيه من إحراز الإذن الشرعي من الحاكم أو من ينوب عنه، فليس لك الخيار أن تنتقل إلى الحالة الثالثة، وهي الأشد، إلا بإذن الإمام أو من ينوب عنه. فلو أقدم الآمر أو الناهي على هذه المرحلة، فاستخدم الضرب، وأصيب صاحب المنكر بشلل أو كسر، فإن من أقدم على هذا العمل يكون ضامناً له شرعاً.

فلا بد لمن أراد أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر أن يلتفت إلى هذه المراتب الثلاث، ولا بد أن يتفقه فيما هو كثير الابتلاء به، كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالمكلف لا يستطيع أن يتعلم جميع مسائل الرسالة العملية التي تبلغ خمسة آلاف مسألة تقريباً، إنما يتعلم مسائل الابتلاء بشكل رئيس.

وأشدد هنا على الترتّب في هذه المراحل بحسب القدرة والتأثير، أي أنه لا بد أن يكون قادراً، ولا بد أن يفرغ الوسع والجهد في كل مرحلة ويتيقن أنها لم تؤت ثمارها، حتى ينتقل للأخرى، ولا بد أن يحصل في المرحلة الثالثة على إذن الإمام أو من ينوب عنه.

عواقب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

هنالك العديد من الآثار الإيجابية الفردية والاجتماعية المترتبة على ممارسة وأداء هذه الفريضة، كما أن هناك الكثير من العواقب والآثار السلبية على تركها، وقد ذكرنا منها سابقاً أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى نزع بركة الإيمان من الفرد، فلا يشعر بلذة للإيمان في نفسه، وقد ذكرنا بعض الآيات والأحاديث في هذا الصدد.

ومن الآثار الاجتماعية في ذلك إشاعة الفساد وانقلاب القيم، وهذه ذكرناها أيضاً فيما مضى.

وهنالك آثار أخرى كثيرة، منها أن المنكر إذا فشا، والفساد إذا شاع، دون آمر أو ناهٍ، ساءت العاقبة، إذ يكثر وينتشر سوء العاقبة على الفرد، فترى المؤمن يصاب بسوء العاقبة، فبينا تراه مؤمناً إذ به انقلب في آخر عمره، أو في وسطة وتوجه باتجاه آخر.

يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): «من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه (ويده) فهو ميت بين الأحياء» (وسائل الشيعة، الحر العاملي16: 132). فمن يرتكب المنكر يعلن الحرب على الله تعالى، ومن يترك هذه الشعيرة الإلهية، يعلن الحرب على الله سبحانه وتعالى كذلك، فلا بد من التصدي للظواهر المعلنة التي تعتبر حرباً على الله ورسوله، ولا بد من التصدي إليها.

ومن الآثار والعواقب العذاب الذي ينزل على المجتمع بسبب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك نزع البركة والرزق، فالكثير من أبناء المجتمع يقول: لا أرى بركة في مرتبي الذي أتقاضاه من عملي. فلماذا؟ الجواب أن واحداً من تلك الأسباب هو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث تنزع البركة من كل شيء.

يوم المباهلة :

لا زلنا أيها الإخوة الأعزاء نعيش هذه الأيام المباركة، وهي أيام أسبوع الولاية وأيام عيد الغدير. وفي الخامس والعشرين من هذا الشهر من السنة التاسعة للهجرة، كان يوم المباهلة، وهو يوم من أيام الله جل وعلا.

والآية الواردة في هذا الصدد هي قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ‏ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبين‏﴾. (آل عمران: 61).

والمباهلة تعني الملاعنة، أي الابتهال إلى الله والدعاء والتضرع بأن يلعن الكاذب، وذلك إذا احتكم فريقان أو أكثر للمباهلة، فينزل العذاب على من كان كاذباً.

هذه الحادثة حصلت بين رسول الله (ص) وبين نصارى نجران، إذ تحاور هؤلاء مع رسول الله (ص) ولم يصلوا إلى نتيجة، فطلب منهم النبي (ص) المباهلة أمام الملأ، فدعوا كبار القوم عندهم واجتمعوا في يوم معين، وبات الجميع ينظر إلى جهة رسول الله (ص) وماذا سيفعل؟ وبمن يأتي كي يباهل؟ فخرج رسول الله (ص) ومعه علي بن أبي طالب (ع) وفاطمة والحسن والحسين (ع). فلما رأى النصارى ذلك قالوا: لولا أن محمداً موقنٌ بما لديه لما أحضر أعز ما عنده وأقرب من لديه من أهل بيته وأبنائه.

وفي هذه الآية الكثير من الوقفات العظيمة التي تدعو للتأمل، منها أنه عبر عن فاطمة بلفظ الجمع، كما أنها نصت على كون أمير المؤمنين (ع) هو نفس رسول الله (ص). فعلي (ع) ورسول الله (ص) نفس واحدة، فكل ما لرسول الله (ص) لعلي (ع) باستثناء النبوة. وكذلك الأبناء، وهم الحسنان عليهما السلام، فهما بنص الآية أبناء رسول الله (ص).

ذكرى التصدق بالخاتم :

الحدث الآخر الذي حصل في هذه الأيام المباركة، أيام الولاية، هو يوم تصدق الإمام أمير المؤمنين (ع) بالخاتم، وهو يومٌ من أيام الله، حدث في الرابع والعشرين من ذي الحجة. وقد نزل في ذلك آية هي قوله تعالى: ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ‏ راكِعُونَ‏﴾. (المائدة: 55). وقد أجمع المفسرون المؤالف والمخالف أنها نزلت في علي بن أبي طالب (ع). وقد نزل في علي (ع) الكثير من الآيات الصريحة الواضحة، حيث ذكر ابن عباس أن ثلاثمئة آية نزلت في علي (ع) لكن مع شديد الأسف حاول البعض طمس هذه الفضيلة، والتستر على نزول تلك الآيات في علي بن أبي طالب (ع).

عن الإمام الباقر (ع) في قول الله عز وجل: ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ‏ راكِعُونَ‏﴾، الآية، قال: إن رهطاً من‏ اليهود أسلموا، منهم عبد الله بن سلام، وأسد وثعلبة وابن يامين وابن صوريا، فأتوا النبي (ص) فقالوا: يا نبي الله، إن موسى (ع) أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيك يا رسول الله؟ ومن ولينا بعدك؟ فنزلت هذه الآية: ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ‏ راكِعُونَ‏﴾.‏

ثم قال رسول الله (ص) قوموا، فقاموا فأتوا المسجد، فإذا سائل خارج، فقال يا سائل، أما أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم، هذا الخاتم. قال: من أعطاكه؟ قال أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلي. قال على أي حال أعطاك؟ قال كان راكعاً. فكبَّر النبي (ص) وكبّر أهل المسجد، فقال النبي (ص): علي بن أبي طالب وليكم بعدي، قالوا: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبعلي بن أبي طالب ولياً، فأنزل الله عز وجل‏: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ‏ الله‏ هُمُ الْغالِبُون‏﴾. فروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: والله لقد تصدقت بأربعين خاتماً وأنا راكع لينزل فيّ ما نزل في علي بن أبي طالب (ع) فما نزل». (أمالي الشيخ الصدوق: 124).

نزول سورة الدهر:

والحدث الثالث في هذا الشهر هو نزول سورة الدهر، إذ مرض الحسن والحسين عليهما السلام، فنذر علي بن أبي طالب (ع) أن يصوم ثلاثة أيام، فشفي الحسنان، فصاموا في اليوم الأول فجاءهم عند إفطارهم مسكين، فتصدقوا بما عندهم وأفطروا على الماء، ثم في اليوم الثاني جاءهم عند الإفطار يتيم، فتصدقوا بما عندهم أيضاً، وتكرر الأمر في اليوم الثالث إذ جاءهم أسير ففعلوا كما فعلوا في اليومين الأول والثاني، فتغيرت ألوانهم جميعاً، فنزلت الآيات المباركة ونزل جبريل بتلك المائدة من السماء إكراماً لهم فأكلوا منها.

بيعة أمير المؤمنين (ع) بالخلافة :

والحدث الرابع والأخير هو بيعة الإمام أمير المؤمنين بالخلافة في الخامس والعشرين من ذي الحجة، بعد مقتل عثمان، وهي البيعة العامة بالخلافة الظاهرة، وإلا فهو الخليفة الأول والإمام المنصَّب من الله سبحانه وتعالى. وقد رفض أولاً تلك البيعة بالخلافة ألقاءً للحجة عليهم، ولئلا يقال: إنه شارك في قتل عثمان ليستخلف بعده. إلا أن المسلمين أصروا عليه، فقبل ذلك على أن تكون البيعة عامةً في المسجد، فتوجه إلى المسجد بحضور الجمع الغفير من المسلمين، وبايعوه بالخلافة في اليوم المذكور.

وآخر ما أود ذكره هنا أن شهر محرم الحرام قد أقبل إلينا، وهذا الشهر هو شهر الإمام الحسين (ع) صاحب الشعار العظيم: «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا ظالماً زلا مفسداً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي...».

وقد تناولنا في الكثير من الخطب السابقة مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو جزء يسير مما يمكن أن يتعلق بهذه المسألة، فلنغتنم هذا الشهر لنرتوي من مشروع الإمام الحسين (ع) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولا بد من التأكيد هنا على التعاون هذه السنة مع أصحاب الحسينيات، ومع اللجان التي تُشكَّل من أصحاب الشأن، وعدم الاصطدام معهم في أي تنسيق يقومون به. فصاحب الحسينية هو الأدرى والأعرف بالمصلحة فلا بد أن نتعاون معه في أي إجراء نقوم به، لنتفادى أي إشكالية.

نسأله تعالى أن يتقبل منا ومنكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.