2024/05/25 | 0 | 1216
(قبل التيه برقصة )
نوره النمر
أثناء قراءة هذه المجموعة أحببت أن أدوّن شيئاً من انطباعي حول نصوصها ، والتي استطاع كاتبها الشاعر هاني الحسن أن يترك حضوراً لافِتاً ولائقاً بالوسط الثقافي الأحسائي:
بعد الإهداء الذي عنونه ب (أنت المجرة ) يخاطب والده بلغة الإنتماء والحب والتماهي في وجوده بكل ماتعنيه الكلمة
فيقول في أحد الأبياتِ :
أنت المجرّةُ والمدى
وأنا الكُويكبُ في مسيرك
ليرحل بنا بعد ذلك في (ركب الغواية ) النص التفعيلي الذي يشي بلمحات عن الشعر ،
فيخبرنا أننا نقرأ( لشاعر جاء من كرمة الكلمات )
ليقطف من عذقها المحتوى
وهذا تماهٍ عميق بالشعر والبوح والكلمات .
إنه نص مبطّن بالكثير، ومنفتحٌ على معانٍ متشعبة
وموضعه في بداية الكتاب له دلالته ، كما لو كان يمنحك إذنا بالتجديف و الإبحار بين القصائد .
(وهو أول من قد غوى .. )
الغواية والشعر . تلك الثنائية العريقة ، هنا يعترف بطل النص بهذه الغواية التي من أجلها صار ( يوصد باب النهى )
إنّها بمثابة الاعترافات التي تمنح البوح عذوبته
إضافة إلى تلك المتناقضات التي يحتشد بها الشاعر الذي ( لم يزل فيه ذئب يتوق إلى مايطيّب ليل الهوى ) ولكنه لفرط رقّته يجيء
(مثل الهزار يزقزق فوق الغصون
وإن قيل ذئبٌ عوى
جاء هذا المشبع بالحلم والاشتهاء
ولكن أفاق على مهلكات القوى..)
إننا حين نقرأ مثل هذه العبارات نتلمّس هاجساً شاعرياً عميقاً ، متناقِضاً كثيف التعقيدات لكننا في نفسِ الوقتِ
لانستطيع الجزْمَ بمكنوناتها ، فقد أرادها الشاعرُ أن تظلّ مؤرجحةً بين البعد والقرب ،بين الوصول وعدمه .
وهو يشير لشيءٍ من ذلك في نص (رفيف بوح )
إذ يقول في بدايته :
أخفي حقيقة ما أحس وأشعر
إذ أختفي خلف المجاز وأضمِر
وهو يجد في هذا التموّج اكتفاءً كما يقول في أحد أشطر النص :
( وأنا الخيال
مموّجٌ
ومُحرّرُ)
فهو المشغول والمهموم بالكتابة رغم أنها تأخذ منه الكثير ويؤكد أن خلف هذا البوح الجميل أرضية خصبة للألمِ.
في نفس القصيدة ( رفيف بوح ) يقول :
لم أنزف المعنى المؤجّل من دمي
إلا وأُفسِدَ في الحنايا بيدَرُ
أو أنبَعِثْ بكتابةٍ لهواجسي
إلا وضِلعٌ من ضلوعي يُكسَرُ
أما في نصه ( جذوة الشعر ) فهو يعربُ عن رؤيةٍ خاصة للشعر ، إنها رؤى الشاعر المرهف المتمسّك بهذه الجذور فيقول
( لاتنصتوا لقوافٍ لمْ تُثِر هوَسا
ولاقصائد ظلٍ لم تُنِر غلَسا
إن القصيدةَ لبس الروحِ من وجعٍ
فهل يعيش الذي بالشكّ مالتبسا
: إنها نظرةٌ فلسفية للشعر .
وهو ديدن الشعراء الذين لطالما حاولوا مقاربةَ مفهوم الشعر والتعمّق في جمالياته ، قال خليل مطران :
(الشاعر الحق من يجلو الشعور له
شمساً من الوحي في داج من الظلم)
سريالية شعرية:
ونجد أنه في نصّ (إلى سدرة المشتهى )
المتناص في الاسمِ مع سدرة المنتهى
يرسم لوحة شعرية سريالية
فتركيبات صورها جديدة تشي برغبةٍ عارمة بالابتعاد عن هذا العالم..
كالرحيل في الضباب ، الاختفاء
امتداد الخيال حتى انقطاع الخيال ، تلاشي الجسوم ، امتزاج الدماء ، إنّه منجذبٌ جدا لهذا الماوراءِ الخلّاب
إلى حدّ أن يقصر التشكّل على الروح ، الروح الغير مادية ! خيال الشاعر وحده يستطيع أن يخلق هذه الفكرة ويتعايش معها ، وفي نهاية هذا النص يقول (وأني سأعلن يوماً بأني وصلتُ إليّ، إلى سدرة المشتهى قبل أن يتوققّف هذا النّفَس ) إذا كان الشعر نبوءةً ، فهل هو مايبلغ به الشاعر إلى ذاته ، هل هو كائن مبتعدٌ عن ذاته ليأمل الوصول إليها ؟
وفي استفهام شعري في نص (الريح أقوى )
(ألا ترى أن حب القلب لامرأةٍ
كافٍ لروحٍ عن الجثمان تُنتزعُ )
هنا اختزال لمعاناةِ المحبين عبر التاريخ.
وتلوح لنا غربة الشاعر عن هذا الوجود من خلال نصه ( الغريب ) الذي يقول فيه :
أنا وحيد وثقل الجرح في رئتي
بملئه صارت الأنفاس تخنقني
تجمعت كلماتي في وعاء يدي
وعندما أكتب الأشعار أكتبني
وقد تخبّأت في أدغال أسئلتي
وجدت لا شيء في الأشياء مثّلني
إلى أن يبلغ بالقارئ في ختام النص إلى التيه كأيقونةٍ في هذا الديوان
(ما أصعب ( التيه ) بين الروح والبدنِ )
(الجائحة )
تلك الفترة الشاقة على الإنسانية بالتأكيد كان لها أثرها الخاص على شاعر مرهف فها هو يدوّن شيئا من معاناته في نص (لن أهدر الكرم عصراً )
وهو يشفّ تشبّثاً بالحياة وبالحب والجمال رغم تلك الظروف .
بعد ذلك يعود للغواية مجدداً في ( غناء منفرد )
متغنيا بالتيه والضياع والغواية كقدر ٍ وآية مرسومة على جبينه فالغواية بوصلته ووجهته
(هكذا بوصلتي في وجهتي
متُّ من أجلِ الغوايات فدا )
وهو هنا يؤكد على وحدة الشاعر وغربته الدائمة التي تلحّ بداخله ليخلق عالمه الخاص حيث يمكث الشعر ، وتحيا الشعرية.
(النية الخضراء)
الفقد ، البكاء الحب ، الأحساء
النخل ، حاضرة في هذه المرثية ، التي يمتزج فيها الشعر بكل ذلك حين يقول
(أبكي وحولي جملةٌ من فاقديك
وأنتَ في شعل القصيدِ فتيلُها )
نصوص بالغة العمق والرمزية !
( قالب ومدار ) تأملت هذا النص مطوّلا ..ثمة معنى مبطّن حاولت القبض عليه لكن لم أصل ..
(زجاجة)
رمي الزجاجة ، إشعال السيجارة هذه الأمور العادية واليومية ، رأى به الشاعر شيئا مختلفاً فيشبّه ركل هذه الزجاجة في أحد أبياته بركل الاحتمالات ، وهو يبرّر هذا التشبيه في بقية النص .
بين العمودي والتفعيلي :
يحلّق بنا الشعر في هذه المجموعة التي تكثر فيها التلميحات كطابع جمالي ، بدءا من العنوان الذي يؤكد الكاتب من خلاله أن التيه ثيمةً بارزة في الكتاب ، انتهاءً بآخر نص ( ألف رقصة) . (ومن الملاحَظ أنّ الشاعر التزمَ بالقافية في معظم النصوص التفعيلية في مواقع كان بإمكانه التخفّف منها ، وربّما يعكس ذلك تمسّكاً وولعاً بالموسيقى الشعرية ). إن التأمل في هذه المجموعة من القصائد هو إبحار جمالي مُتنوّع ومتفرّع ، فالمعاني جديرة بالتأمّل .
تجربة الأستاذ هاني الحسن تجربة متميزة ومجموعته ( قبل التيه برقصة ) بصمة خاصة للأحساء وإثراءٌ جميل لمكتبة الشعر .
جديد الموقع
- 2024-11-24 التفوق العلمي طريق الى التقدم والازدهار
- 2024-11-24 قافية أيوب الأخرس
- 2024-11-24 البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل
- 2024-11-23 جمعية الكشافة تُشارك في الاحتفاء باليوم العالمي للجودة
- 2024-11-23 العرابي يتوّج في الاحساء بطلاً للجولة الثالثة والأخيرة لمنافسات بطولة السعودية تويوتا الدرفت 2024
- 2024-11-23 الفتح يتصدر ترتيب الأندية في الدوري المشترك للبلياردو
- 2024-11-23 ذاكرة القلم عن ملتقى الفريج الشمالي
- 2024-11-23 الأدلجة السلوكية
- 2024-11-23 في يومين : الأدباء الشباب في ضيافة ابن المقرب
- 2024-11-23 أفراح الملفي و الفليو تهانينا