2024/12/15 | 0 | 148
حكاية رجل على هيئة ساعة
مع كتاب حكاية رجل على هيئة ساعة، للمؤلف/ طارق الجارد، الطبعة الأولى 2010 م.
نحن نعيش في الزمن، نشعر بانسيابه، ونخضع لتياره الجارف. يسير بنا في رحلة بلا محطات. لا يتوقف لأحد، ولا ينتظر أحد. وصاحبنا هذا سيخوض تجربة مميزة مع الزمن، ستعبث تلك التجربة بوعيه بالزمن، وإدراكه لصيرورته.
الحكاية بدأت بصباح تقليدي. كان على صاحبنا أن يستيقظ لدوامه. وكان لا بد - إن أراد أن يتجنب توبيخ مديره - أن يستجيب لساعته المنبهة، تلك الساعة التي بذلت طاقتها وعمرها في خدمته، وبلغت في الحرص على إيقاظه مبلغ أم حنون توقظ أبناءها للمدرسة، لكن صاحبنا ـ الذي أمسى ليلته السابقة في السهر - تجاهل رنينها، وأنكر جميلها، ووصل به الكفر بالعشير أن قذف بها في الجدار. فسقطت محطمة مهشمة، تلفظ رناتها الأخيرة، في صوت ينخفض ويتباطأ، حتى ينتهي برنة علت على ما قبلها، وكأنها شهقة الموت.
أكمل صاحبنا نومه غير مبال بساعته وما حصل لها. وعندما أفاق في الظهيرة بأشعة الشمس الساخنة المتدفقة عبر نافذته لم يتساءل عن ساعته، وكل ما كان يفكر فيه هو مديره، وكيف سيصنع له عذراً مقنعاً. والحقيقة أنه كار أن يمضي يومه ناسياً ما فعل، لولا أنه نظر إلى نفسه في المرآة فرآها على صورة ساعة.
لن أكمل لكم ما تبقى من الحكاية بنفسي، فصاحبنا أدرك أهمية تلك التجربة، وبدأ يكتب مذكراته واصفاً ما يحدث له.
سأقرأ لكم بعض ما كتب:
اليوم الأول:
لم أكتب مذكراتي من قبل، لكن ما حصل لي اليوم جدير بالتدوين. فعندما رفعت رأسي من المغسلة كي أتأمل ذقني رأيت في المرآة ساعة ضخمة بنفس حجمي وبنفس طولي. أبتعد عن المرآة، فتبتعد وأقترب منها، فتقترب. أدركت حينها أني أصبحت على هيئة ساعة ورغم أنني صدمت لأول وهلة، إلا أنني لم أشعر بتغيير كبير. فيبدو أن العيش بداخل ساعة لا يختلف كثيراً عن العيش خارجها!
حتى أصدقائي في العمل، لم ينتبهوا إلى التغيير الطارئ على هيئتي وتصرفوا بنفس الطريقة التي تصرفوا بها حينما حلقت شاربي: كان لا بد أن أنبههم لذلك استباقاً لأي سخرية من قبلهم!.
إلا أنني لاحظت تغيراً في إيقاعي بالعمل. فالساعة التي أعيش بداخلها تملك ثلاث عقارب، ويبدو أن عقرب الثواني فيها يضبط روتيني. إنه يقفز من ثانية لأخرى، هارباً من الثانية السابقة ومرتداً عن الثانية التالية. وكل ما يهمه، أن يظل مشيراً إلى الثانية الآنية. لكن الزمن لا يدعه يقف كثيراً، فيلزمه على القفز مرة أخرى.
هكذا كنت في العمل، لا أفكر إلا فيما بين يدي، فيما أعمله. لم أشغل نفسي بالتوبيخ الذي تلقيته حينما وصلت متأخراً، ولن أشغل نفسي بما سيحصل لراتبي آخر الشهر. كل ما يهمني هو الآن، وما أفعله الآن!
لم يتوقف الأمر على عملي، وامتد هذا الإحساس على كل يومي. كنت أهرب من التفكير بالماضي، وأتجنب التفكير بالمستقبل. وكل ما يهمني هو اللحظة الحاضرة.
كيف أستمتع بها؟.
أو كيف أجعلها أقل وطأة؟.
ماذا أقرر الآن؟.
وماذا أتصرف الآن؟.
كنت عفوياً، مندفعاً، لا أخطط لما سيحصل، ولا أتعلم مما حصل!.
اليوم الثاني:
استيقظت اليوم فوجدتني بعقرب صغير واحد. فيما يبدو أنه عقرب الساعات. وفي العمل انشغلت بالمعاملات المتكدسة على مكتبي أتناول المعاملة تلو الأخرى. أتأمل الواحدة منها، أراجعها بصمت أوقعها بتأن، ثم أتناول التي تليها بهدوء. لست كبقية الزملاء في الدائرة، ينهي أحدهم المعاملة فيتحدث مع زميله. يذهب إلى المدير وبعده بأنه سينهي ما عليه في ساعة محددة. أو يحصي المعاملات التي أنهاها مرات ومرات في نهاية الدوام شعرت أني السلحفاة في حكايتها الشهيرة مع الأرنب أنهيت كل المعاملات دون أن ينتبه لي أحد، بينما اضطر بعض زملائي إلى إكمال ما تبقى عليهم من عمل في بيوتهم.
فعلاً أنا كما عقرب الساعة الصغير! أعمل بصمت لا أعلن عن نفسي بدقات. وإن راقبني الناس لا يلاحظون حركتي. لكنهم إن غابوا زمناً ثم نظروا إلي، رأوني قد سبقتهم، وأدركوا قيمتي!.
اليوم الثالث:
كان أمراً عجيباً أن أجد نفسي قادراً على الحركة، رغم أنني ساعة شمسية، تلك التي تقف في محلها، وتكتسب قدرتها على الإشارة للزمن بحسب ظلها، وحركته على الأرض.
علمت أثر الهيئة الجديدة في آخر اليوم. فلقد أصبحت كما الساعة الشمسية، تكتسب قيمتها من الظروف، إنها لا تتحرك من مكانها، لا تفعل شيئاً يذكر. حركة الشمس هي ما تجعلني ساعة. وإلا فأنا مجرد قائمة مائلة، لا قيمة لها لو حل الظلام أو حجب الغمام الشمس.
كنت موظفاً عادياً في العمل، ليس ثمة ما يميزني. ولكن بمجرد أن أعلن التشكيل الوزاري الجديد، فأصبح ابن عمي وزيراً، ناداني المدير وبارك لي. ثم أخبرني أنه يخبئ لي انتداباً وربما ترقية، لاجتهادي في العمل ومثابرتي. أعلم أنه يتودد لي، وأني لست كما وصف، فأنا اليوم ساعة شمسية، تصنعني الظروف وحالة الطقس!.
نهاية المطاف:
هذا ما أوصاني بنقله لكم صاحبنا الذي أصابته لعنة الساعات فاليوم، لن يصبح صاحبنا في هيئة ساعة مرة أخرى. لقد حانت ساعته، وسقط من قطار الزمن الذي لا يتوقف لأحد، ولا ينتظر أحداً!.
جديد الموقع
- 2024-12-18 لماذا يتفوق الطلاب على الطالبات في مادة الرياضيات؟: وكيف يمكن تضييق الفجوة بينهم في هذه المادة
- 2024-12-18 الغذاء السيء لكل من الأم والأب قد يؤثّر سلبًا ويسبب ارتفاع الضغط وأمراض الكلى المزمنة في نسلهما إلى الجيل الرابع
- 2024-12-18 ورشة المرأة في اللوجستيات _ بمؤمر سلاسل الإمداد و الخدمات اللوجستية بالرياض
- 2024-12-18 جامعة الملك فيصل بالاحساء تحقق المركز الثالث في قياس التحول الرقمي لعام 2024 على مستوى قطاع التعليم والتدريب
- 2024-12-18 سمو محافظ الأحساء يدشن "برامج أكاديمية ريف السعودية"
- 2024-12-18 الأحساء.. وجهة سياحية تنبض بالتاريخ والطبيعة الخلّابة
- 2024-12-18 اللغة العربية في التعريب
- 2024-12-16 تناول الشوكولاتة الداكنة مقترن بانخفاض نسبة احتمال الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني
- 2024-12-16 تقييم التحكم في ضغط الدم طويل الأمد باستخدام المدى الزمني للنطاق العلاجي بين مرضى سعوديين
- 2024-12-16 وقفة مع تاريخ العطاء