2021/12/17 | 0 | 7088
بروست وزمنه الضائع
لما أوغل أوغسطين وباسكال في التفكير في كينونة الزمان واستشعرا صعوبة وهلامية المفهوم، فقالا باستحالة تعريفه، مع إمكان إدراكه حدساً. واتجه بعض الفلاسفة الكانطيين نحو تأوله بوصفه مقولةً متعالية، وأخذ البعض بالفيزياء النيوتونية فنظروا إليه بوصفه كينونة مطلقة. ثم انساق العديد من الفلاسفة المعاصرين نحو الأخذ بنسبية أينشتاين فصار الزمن عندهم مجرد بُعد رابع من أبعاد المكان. أما الفيلسوف ماكتاجارت، فلعله أراد سلوك أقصر طريق للتخلص من مهمة تعريف الزمان، فأنكر وجوده أصلاً. ولكن كل هذا وذاك لم يحسم الإشكالية الدلالية العصية التي تلف هذا المفهوم الغامض.
غير أنه إذا كان من المستساغ أن ينصرف الفيلسوف إلى تسطير بحث مفصل يستهدف تفكيك استشكالات المفهوم، وإذا كان من المنتظر أن ينصرف الفيزيائي إلى إنجاز دراسات موغلة في الاقيسة والترميز من أجل تعريف وتكميم هذه الكينونة الفيزيائية الهلامية، فإنه يبدو مستغرباً أن يوغل أديب في كتابة أكثر من ثلاثة آلاف صفحة بحثاً عن "الزمن الضائع". وأغرب من ذلك أن يكون ذاك الكم من الصفحات مجرد سرد روائي.
لا يدرس بروست في موسوعة الروائية (بحثا عن الزمن الضائع) كينونة الزمن لتحديد طبيعته على نحو ما يفعل الفيلسوف أو الفيزيائي، إنما يحاول القبض على معناه بإفلاته، ثم الانغماس في صيرورته الخلاقة، ليعود إليه لاحقاً بفعلي التذكر والإبداع السردي. هذا هو إيقاع الأسلوب المنهجي الذي ينتهجه بروست. إنه لا يفرغ الزمان من محتواه، بل ينظر إليه كصيرورة حاملة لمحمولات نفسية ووجودية. وهذا فارق منهجي مهم: إذ يبدو لك الفيلسوف وعالم الفيزياء وكأنهما يفتحان كفيهما متأهبين من أجل الإمساك بالزمن، واعتقال دلالته باستدخالها في صلب حدود مفاهيمية أو رموز رياضية، بينما لا يستعمل بروست مخالب اللوغوس. ولا أدوات القياس والتكميم الفيزيائية، بل تسكنه روح فنان يبتغي معنى الزمان بالانسياق رقصاً مع إيقاعه.
لكن الزمن تيار جارف، يحملنا في جوفه ولا نستطيع منه فكاكاً، فكيف نقارب ما نحن مستبطنين بداخله؟
لا شك أن بروست الذي تلقى تعليما فلسفياً في معهد كوندرسه يدرك هذه الازدواجية التي تسِم الموقف الإبستيمولوجي، ويعي عمقها الإشكالي، غير أنه في مسلكه نحو الزمن الضائع يحاول عيش الزمن وتأمله في آن . . لكن ذلك يتم من خلال المنظور الفني وأولوية الفن على اللوغوس التي تبدو ثابتاً منهجياً في فكر بروست. فمنذ مقالته "ضد سانت بروف" يفصح عن نقده للمنهجية العقلانية، حيث يقول: "أزدادُ يوماً بعد يوم تقليلاً من قيمة العقل". بل حتى الوجود بحسيته ومرئيته معطى لا قيمة له بالقياس إلى الوجود كما يتمظهر شعوراً واحساساً ذاتيين، حيث يقول: "الفنان شخص يعيش متفرداً، ولا يعتبر الأشياء المرئية ذات قيمة مطلقة". ومعلوم أن بروست كان شديد التأثر بفيلسوف الديمومة (برجسون)، غير أنه يتمظهر أيضاُ في نتاجه السردي وكأنه يشتغل بطريقة التحليل النفسي الفرويدي: إذ يشبه نمطه في السرد إلى حد ما طريقة التداعي الحر، حيث يتجلى فعل السرد عنده وكأنه انسياق مع خواطر مخزون اللاوعي وباطن الذاكرة.
ثم إنه برجسوني أيضا في توكيده على قصور العقلين الفلسفي والعلمي بأدواتهما المنطقية والاستقرائية عن سبر معنى الزمان. حيث يرى أن الديمومة الزمانية لا تُقارب إلا بالحدس. لكن إذا كان برجسون يحول منتوج الحدس إلى نسقٍ فلسفي، فإن بروست يحوله إلى استطيقا. يمكن أن نقول إن عنده نوعاُ من التأليه للزمان، إنه السيد النهائي الذي يهيمن على الإنسان والكون بأكمله.
وفي مقاربته لمعناه يصل بروست إلى الاعتقاد بأن للزمن قدرة فعلية على تحويل الوجود إلى وهم، فتصير الحياة بأكملها – بفعل أثر الزمن – مجرد وهم زائل، حتى أنه لا يبقى من مسلك لاستعادتها سوى الذاكرة. والفن باستثماره لما في الذاكرة، وبفعل طرائقه الاستطيقية في الإنتاج، هو وحده القادر على استعادة الزمن المفقود وتحويله إلى كينونة جمالية أبدية. وهذا الاقتدار الفريد الذي يملكه الفن، يُفصح عنه بروست في ختام موسوعته الروائية هذه، عندما يقول: "أن الذي تم اكتشافه وإيضاحه أخيراُ هو أن الحياة الحقيقية، الحياة الوحيدة المعيشة بامتلاء، هي الأدب". أجل، إن متن "البحث عن الزمن الضائع" هو ذاته مشبع بالامتداد الزمني. فعبر خمسة عشر عاماُ وبروست يكتب ويعيد في كتابه الملحمي هذا، حيث تابع صيرورة حياة أربعة أجيال، مبتدعاُ أكثر من مائتي شخصية.
لكن هذا المتن يبدو، ظاهرياً، كما لو كان سيرة ذاتية، حيث يبدأ من طفولة الراوي ليمتد عبر مختلف مراحل حياته اللاحقة. معلوم أن بروست حرص على استثمار الكثير من معطيات حياته الشخصية. بل الأغرب من هذا كله أنه إذا كان الأدباء يمتحون من الذاكرة ما تبقى فيها من تجارب عاشوها من قبل ليؤثثوا بها متونهم، فإن بروست كان روائياً يستغل بما يمكن أن أصفه بـ "تقنية المختبر"، حيث ينتظر التجربة قبل وقوعها ليعيشها فعلياً، حتى يحسن التعبير عنها في متنه. والشاهد على ذلك أنه عندما وصل إلى وصف لحظة احتضار بيركوت (احدى شخصيات روايته) ترك المقطع فارغاً، ولم يكتبه، وذلك انتظاراً لمرضه، فأجل الكتابة وهو العليل بداء الربو، إلى حين تطور مرضه واشتداد الألم على نحو قوي ليذوق ما يشبه حاله الاحتضار، ثم أخذ في هذه اللحظة بالضبط يكتب مشهد موت بيركوت. ومن عجيب الصدف أنه لم يتأخر موته هو أيضا، حيث توفي عام 1922 م، بمجرد إكماله للجزء السابع والأخير (الزمن المستعار) الذي سينشر عام 1927 م.
جديد الموقع
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد
- 2024-11-21 القراءة للكسالى
- 2024-11-21 القراءة واتباع الأحسن
- 2024-11-21 روايات أسامة المسلم بين جيلين.
- 2024-11-21 ( غرق في المجاز، مَجازٌ في الغرق ): قراءة في ديوان الشاعر جابر الجميعة
- 2024-11-20 الدكتور عبدالمنعم الحسين يدشن حملة التشجير الثالثة ببر الفيصلية