2012/01/31 | 0 | 5537
التوحيد في العبادة ... إشكالية المفهوم والمصداق-2
1- وأصل العبودية الخضوع والذل . كما في الصحاح [1] ولسان العرب . [2] ومختار الصحاح [3]
2- قال الراغب في المفردات: "العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغ منها، لأنّها غاية التذلّل، ولا يستحقّ إلاّ من له غاية الإفضال وهو الله تعالى ولهذا قال: {وقَضى ربُّكَ ألاَّ تَعبُدوا إلاّ إيّاهُ...} "[4].
3- بمعنى اللين والذل كما في معجم مقاييس اللغة .[5]
4- بمعنى الطاعة كما في القاموس المحيط .
التوحيد في العبادة
ونعني به أنّ العبادة لا تكون إلاّ لله وحده ، وأنّه لا يستحق أحد أن يتخذ معبوداً مهما بلغ من الكمال والجلال وحاز من الشرف والعلاء.
فالمعبود هو الذي لا يفتقر إلى شيء وتفتقر إليه الأشياء ، الخالي من كل عيب ونقص ، وكما يعبر الفلاسفة هو (الكمال المطلق) .
والكلام في هذا العبد المخلوق ما الذي يدفعه إلى عبادة المعبود وإظهار الذل والخضوع والطاعة له بل إظهار العبودية له وهذا ما نسميه بمقومات العبادة والذي ينظر إليها كل إنسان بوجدانه الواعي وفطرته السليمة ويمكن بيانها كالتالي:
مقومات العبادة لله :
إن العبادة – أي عبادة – والتي تتحقق العبودية هي التي ينظر العابد فيها إلى أمور ومقومات لذلك المعبود وهذه المقومات يمكن بيانها كالتالي :
1- أن يكون خالقاً:
فالعابد ينظر إلى معبوده بأنه خالقه وهو من خلق الوجود كل الوجود.
قال سبحانه: {قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ( الرعد - 16 ) .
وقال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ( الزمر - 62 ) .
وقال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ( غافر - 62 ) .
وقال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ( الأنعام - 102 ) .
وقال سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى..} ( الحشر - 24 ) .
وقال سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ( فاطر – 3)
وقال سبحانه: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ( الأنعام - 101).
وقال سبحانه: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ( الأعراف - 54 )
فمنطوق ومفهوم الآيات أن لا خالق غير الله لهذا الكون وما فيه وما يجري فيه (هل من خالق غير الله) .
ولذا جاء الاعتراض على الكفار{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون} العنكبوت/61
وقال جل شأنه : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون} الزخرف/87
وهذا ما نطلق عليه التوحيد في الخالقية، وهو الاعتقاد بوجود خالق لهذا الوجود وهو الله.
2- أن يكون إلهاً واحداً :
والعابد ينظر إلى أن معبوده هو إله هذا الكون ولا يوجد إله غيره والإله هو المتصرّف المدبّر، أو من بيده أزمّة الأُمور. وهذا بفرض العقل مثبوت ولكن القرآن تعرض إلى ذلك في مناسبات عديدة:
{لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلاّ اللهُ لَفَسدَتا} (الأنبياء/22)
{مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَد وما كانَ مَعَهُ مِنْ إله إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إله بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعض} (المؤمنون/91).
{قُلْ لَوْ كانَ مَعهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولونَ إذاً لاَبْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلا} (الإسراء/42)
ومن هنا يقرر القرآن إن الإله واحد لا غير:
قال تعالى : { قل هو الله أحد }... إلى آخر السورة .
وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} البقرة/163
وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} المائدة/73 ، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا.
فالعابد إنما ينظر إلى معبوده بأنه المتصرف الوحيد في هذا الكون ولا يوجد متصرف غيره. لذا ينبه القرآن إلى أن المشركين يعتقدون أن هناك من يتصرف في هذا الكون ويمكن اللجوء إليه لذا يتخذون مع الله إلهاً آخر، كما في قوله تعالى:
{الَّذِينَ يَجْعَلونَ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ فَسوفَ يَعْلَمونَ} (الحجر/96).
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهةً لِيكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} (مريم/81).
{أئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أنَّ معَ اللهِ آلِهةً أُخْرى} (الأنعام/19).
لذا فإن الله يقرر عليهم أنهم وما يعبدون من دونه في نار جهنم :
{إنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَها وارِدُونَ * لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها} (الأنبياء/98ـ99)
وهذا ما نعبر عنه بالتوحيد في الألوهية ومعناه أنه لا إله في هذا الكون إلا إلهٌ واحدٌ متصرفٌ في هذا الكون.
3- أن يكون رازقاً:
والعابد ينظر إلى معبوده أنه هو رازقه والمنعم عليه والمتفضل بكل النعم منذ خلقه وإلى أن يرجع إليه .
لقد وردت آيات كثيرة تقرر أن الله سبحانه وتعالى هو الرازق الوحيد منها قوله تعالى:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الروم:40)
{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (النحل:71)
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (هود:6)
{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (العنكبوت:60)
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} (الملك:21)
{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (الأنعام: من الآية151)
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (يونس: 31 )
{أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (النمل:64)
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} سبأ24
{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (فاطر:3)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ...} (يّـس:47)
وهذا ما نعبر عنه بالتوحيد في الرازقية، ومعناه أنه لا رازق في هذا الوجود إلا الله . وغيره من البشر إنما يكونون أسباباً في إيصال الرزق إلى العباد لا أنهم هم الرازقين فتأمل .
4- أن يكون رباً:
الرّبُّ في الأصل: مصدرُ ربَّ يَرُبُّ، بمعنى: نشَّأ الشيءَ من حال إلى حال التمام، يُقالُ: ربَّه وربَّاه وربَّبَهُ، فلفظ (رب) مصدر مستعار للفاعل، ولا يُقالُ: (الرَّبُّ) بالإطلاق إلا لله تعالى المتكفل بما يصلح الموجودات ، نحو قوله : {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} .
ولا يقال لغيره إلا مضافًا محدودًا ، كما يقال : رب الدار ؛ وربُّ الفرس . يعني صاحبُها ، ومنه قولُه تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام : {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} . وقوله تعالى : {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} . {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا}.
وفي الحديث في ضالة الإبل: حتى يجدها ربها[6].
فتبين بهذا: أن الرب يطلق على الله معرفًا ومضافًا ، فيقال : الرب ، أو رب العالمين ، أو رب الناس ، ولا تُطلق كلمة الرّبِّ على غير الله إلا مضافة ، مثل : رب الدار ، ورب المنزل ، ورب الإبل .
والرب من يقوم بإصلاح وتدبيره شؤون مخلوقه ، وتربيته ، والعابد ينظر إلى أن معبوده أنه هو المدبر والمربي وأنه رب الأرباب ، فإن كل من يطلق عليه رب – بمصطلح أهل اللغة – فهذا المعبود هو ربه وهذا الرب في المفهوم القرآني متصف بما يلي :
{رَبُّ السَّمواتِ والأرضِ} (الصافات/5) وهو رب العالمين كما في الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
{يا بَنِي إسْرائيلَ اعْبُدوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} (المائدة/72)
{إنَّ اللهِ رَبِّي ورَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتقِيمٌ} (آل عمران/51).
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
وقد فَطَرَ الله جميعَ الخلق على الإقرار بربوبيته ؛ حتى إن المشركين الذين جعلوا له شريكًا في العبادة يقرون بتفرده بالربوبية، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}.
ومن هنا فإن الله ليؤكد لنا أنه هو الرب: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}.
وأنه خير الأرباب سواء المصطنعة أو الأرباب الحقيقة التي تضاف لها لفظة الربوبية :
{أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}.
وهذا ما يعبر عنه بتوحيد الربوبية، ومعناه أنه لا رب لهذا الكون إلا رب واحد وهو الله ، المربي والمدبر والمتصرف فيه، قال سبحانه: {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرونَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَر كُلٌّ يَجْري لأجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْر}. الرعد-2
فبعد أن ذكر خلق السماوات والأرض، ذكر تدبير أمر الخلقة، وربوبيَّتها فيُحصره في ذاته فلا مدبِّر ولا ربّ إلاّ هو، فيكون الخالق هو الموجد، والرب والمدبر لأمر الخلقة ودوامها واستمرارها.
ولكونه هو المدبر والمتصرف في شأن هذا الكون وبإرادته فقد أخضع بعض التغييرات لبعض الأفراد كما في قوله في حق الملائكة {فَالمُدبِّراتِ أَمْراً} [النازعات/5]، وقوله {وَهُوَ الْقاهِرُ فَوقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَة} [الأنعام /61]. وهذا لا تنافي بينه وبين التوحيد في الربوبية والآيات التي مرّت ، فإن الله في هذه الآيات هو من أَمَرَ الملائكة بتدبير هذه الأمور أو تلك ، وهو من أرسل الحفظة لحفظ الناس فبأمره يتصرف هؤلاء وتحت إرادته ، وليس بإرادتهم وتحت تصرفهم ، تماماً كما يفعل مدير الشركة مع موظفيه فليس للموظفين القيام بشيء من تلقاء أنفسهم بل بأمر مديرهم، فهل الإيمان بأن ملك المطر ينزل المطر وقابض الأرواح يقبضها وغير ذلك يعني فقدان الشخص التوحيد في الربوبية ؟
كلا ، بل إنهم يتصرفون حسب إرادته ، ويدبرون حسب مشيئته .
والرب هنا بمعنى الإله مفهوماً ومصداقاً وسيتضح هذا أكثر فيما سيأتي .
إلى هنا نقول إن هذا المعبود يتصف بأنه هو الخالق والرازق والإله والرب المتصرف والمدبر لهذا الكون . وليس نظر العابد إلى هذا فقط بل ينظر إلى أمور أخرى يجدها في معبوده وهي كالتالي :
5- أن يكون الملجأ لكل الصعاب :
إن المعبود لا بد أن يتصف ببعض الصفات التي تدعو العباد للجوء إليه ، فإن المشركين كانوا ينظرون إلى معبوداتهم أنها تخلصهم من الأضرار والآفات وهي المحقق لرغباتهم وغير ذلك ، فمثلاً العابد ينظر إلى أن المعبود – وهو الله – هو الذي يتوفى الأنفس كما في آيات مختلفة كقوله {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ وَلَـٰكِنْ أَعْبُدُ اللَّـهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يونس: ١٠٤
{وَاللَّـهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} النحل: ٧٠
وَلَئِنْ نَظَرَ إلى أن الملائكة تقبض الأرواح كما في {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: ١١]فلكونها مأمورة منفذة ولكونها كذلك لا يلجأ إليها العابد ولا يرى أنه يمكن أن تدفع عنه الموت عندما يلجأ إليها
فملك الموت ليس بيده شيء على الإطلاق فما هو إلا أداة لتنفيذ أمر الله ليس إلا.
وعلى هذا فقس كثيراً من الأمور، فمثلاً الشفاعة إنما هي لله {قُلْ للهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً} (الزمر/44). وَلَئِنْ عَلِم أن هناك من يشفع له ولكن في حدود رغبة الله ولذا فهو يلجأ إلى شفاعة الله ويتأمل أن يكون أحد المؤمنين شافعاً له كرسول الله مثلاً .
وإذا رغب في غفران الذنوب فليس أمامه إلا الله {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: ٣]
فإنه غفار الذنوب بل {ومَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاّ اللهُ} (آل عمران/135).
وهذا واضح من أن الله –الذي هو المعبود - هو ملجأ العباد كلهم في سرهم وضرهم
6-أن يكون الدعاء للمعبود :
وهنا مربط الفرس والإشكال الأهم وهو: هل أن الإنسان يدعو المعبود أو يدعو غيره؟ وبعبارة أصرح: هل أن الشيعة يدعون الله أو يدعون أصحاب القبور؟
بعضهم يتهمنا أننا عبدة القبور، ولما يحرر ماذا نفعل؟
عندما نصلي وندعو الله بجوار قبر الرسول (ص) هل أننا ندعو الله أو ندعو رسول الله؟
الخلط الذي وقع فيه إخواننا السنة هو اعتقادهم أننا ندعو صاحب القبر، ولذا قالوا أننا نعبدهم!
والحق أن الشيعي يرى أن المدعو هو الله في أي مكان ، وفي أي زمان وأن صاحب القبر لا يوجه إليه السؤال، وإنما يوجه السؤال إلى الله، ونحن نعتقد أن المعبود هو المدعو والعكس صحيح، انطلاقاً من قوله تعالى : {والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ} (الفرقان- 68).
وسوء الفهم من إخواننا السنة أنهم يفترضون أولاً أننا نعبد أصحاب القبور كما يعبد المشركون الأصنام، ونقربهم إلى الله زلفى كما هو رأي المشركين انطلاقاً من قوله تعالى {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}.
وأما نحن فلا نعبدهم حتى نقربهم إلى الله زلفى {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّـهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّـهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الأنعام: ٧١، كما أن هذه الآيات جاءت في سياق الكفار وعبدة الأصنام لا في سياق من يتشهد الشهادتين فلاحظ بارك الله فيك.
ثمة شيء هنا وهو أن دعاء الكافر يختلف عن دعاء المسلم ، فالكافر يدعو من لا يستجيب له {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} الرعد: ١٤
بل إن الكفار يدعون أناساً يعتقدون أنهم يخلقون ، وهم مخلقون كبقية المخلوقات لذا يندد القرآن بهم بقوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} النحل: ٢٠ وقوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} الحج: ٦٢ وقوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} لقمان: ٣٠
ولكن المسلم يدعو الله ولا يدعو غيره {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} الفرقان: ٦٨. بل إنهم إذا دعوا الله {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} السجدة: ١٦. لذا يخاطب الله رسوله : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} الكهف: ٢٨
وهذه المقومات الستة هي المقومات في المعبود المفترض وهي لا توجد إلا في الله فقط ، وما دونه فهم عبيد له .
وللحديث تتمة
جديد الموقع
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد
- 2024-11-21 القراءة للكسالى
- 2024-11-21 القراءة واتباع الأحسن
- 2024-11-21 روايات أسامة المسلم بين جيلين.
- 2024-11-21 ( غرق في المجاز، مَجازٌ في الغرق ): قراءة في ديوان الشاعر جابر الجميعة
- 2024-11-20 الدكتور عبدالمنعم الحسين يدشن حملة التشجير الثالثة ببر الفيصلية