2013/02/07 | 0 | 6085
الإمام لا يغسله إلا إمام-4
أما لو قلنا بأن ذلك في العلن فنحن أمام ما يثبت ذلك من خلال الروايات، وقد لاحظت بعض الروايات التي تشكل بمجموعها قرائن تدل على تغسيل وتكفين ودفن غير المعصوم للمعصوم.
إشكال ورده:
وقد يستدل على ذلك بدعوى بعض القرائن منها:
1-دعوى الإجماع على أنَّه لا يلي أمر الإمام إلا إمام مثله.
وفيه: إن كان المقصود الإجماع المنقول؛ فالإجماع كما عرفت سابقاً خلاف ذلك، فقد أجمع العلماء على أن بني أسد هم من دفنوا الإمام الحسين، وإن كان الإجماع المحصل فالمحصل أيضاً على خلاف ذلك إلا إن كان المقصود به المحصل عند المعاصرين ولا رأي للمتقدمين في ذلك!.
2- تصريح بعض الروايات بذلك.
منها: رواية الكشي حيث ورد فيها أنَّ علي بن أبي حمزة البطائني قال للإمام الرضا إنَّا روينا عن آبائك أنَّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله فقال له أبو الحسن الرضا فأخبرني عن الحسين بن علي كان إماماً أو كان غير إمام؟ قال: كان إماماً، قال: فمن ولي أمره؟ قال: علي بن الحسين. قال كان محبوساً بالكوفة في يد عبيد الله بن زياد. قال: خرج وهم لا يعلمون حتى وليَ أمر أبيه ثمَّ انصرف. فقال أبو الحسن: إنَّ هذا أمكن علي بن الحسين أنْ يأتي إلى كربلاء فيلي أمر أبيه فهو يمكِّن صاحب هذا الأمر أنْ يأتي بغداد فيلي أمر أبيه ثمَّ ينصرف وليس في حبسٍ ولا أسر[1].
وقد استدل بها على أن الإمام السجاد ولي أمر الإمام الحسين عليهما السلام وليس التغسيل فقط، باعتبار أن ابن البطائني لم يسأل عن التغسيل.
ومنها: ما رواه الكليني في روضة الكافي بسنده عن عبد الله بن القاسم البطل عن أبي عبد الله في قوله تعالى: ﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ (10) ورد في ذيلها (ولا يلي الوصي إلا الوصي)[2].
ومنها: ما رواه ابن شهراشوب في المناقب قال: وقد روي أنَّا أهل بيت النبوة والرسالة والإمامة... وإنَّ الإمام لا يتولَّى ولادته وتغميضه وغسله ودفنه إلا إمام مثله [3].
وجوابه – وبغض النظر عن سندها - :
أولاً: إن أكثر الروايات حصرت الكلام في التغسيل، بل والقاعدة المذكورة وهي (الإمام لا يغسله إلا إمام) تبين أن الأهم في ذلك التغسيل، وإن أشارت بعضها كما عرفت من جملة من الروايات أن الإمام باشر التغسيل والتكفين والدفن مثلاً. ولكن على أرض الواقع المرئي والدليل لم يكن كذلك كما ستعرف في النقطة التالية.
ثانياً: إن هناك روايات عديدة مما ذكرناها سابقاً تخالف هذه الرؤية ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
1-الروايات التي تحدثت عن أن غير الإمام غسل وكفن ودفن الإمام، كما في تغسيل سليمان بن جعفر، وتولي بني أسد لشأن الإمام الحسين كما في رواية كامل الزيارات المارة الذكر وتغسيل أم ولد للإمام السجاد(ع)، وما جاء في عيون أخبار الرضا (.... وبكر المأمون: من الغد فأمر بغسله وتكفينه، ومشى خلف جنازته حافيا حاسرا يقول: يا أخي لقد ثلم الاسلام بموتك، وغلب القدر تقديري فيك، وشق لحد الرشيد فدفنه معه، وقال: أرجو أن ينفعه الله تبارك تعالى بقربه)[4].
وواضح من هذه الرواية أن المأمون هو من تولى تجهيز الإمام في كل شيء حتى أنه دفنه مع الرشيد.
وفي إرشاد المفيد (ولما توفي الرضا عليه السلام كتم المأمون موته يوما وليلة، ثم أنفذ إلى محمد ابن جعفر الصادق عليه السلام وجماعة آل أبي طالب الذين كانوا عنده فلما حضروه نعاه إليهم وبكى، وأظهر حزنا شديدا وتوجع وأراهم إياه صحيح الجسد، وقال: يعز علي يا أخي أن أراك في هذه الحال، قد كنت أؤمل أن أقدم قبلك، فأبى الله إلا ما أراد. ثم أمر بغسله وتكفينه وتحنيطه، وخرج مع جنازته فحملها حتى أتى إلى الموضع الذي هو مدفون فيه الآن فدفنه)[5]. وذكر أبو الفرج في المقاتل ما ذكره المفيد رحمه الله من أوله إلى آخره بأسانيد، ثم روى بإسناده عن أبي الصلت الهروي أنه قال: دخل المأمون إلى الرضا يعوده فوجده يجود بنفسه، ..... فحضره المأمون قبل أن يحفر قبره وأمر أن يحفر له إلى جانب أبيه ثم أقبل علينا فقال: حدثني صاحب هذا النعش أنه يحفر له قبر فيظهر فيه ماء وسمك، احفروا فحفروا، فلما انتهوا إلى اللحد نبع ماء وظهر فيه سمك ثم غاص فدفن فيه الرضا عليه السلام[6].
2-الروايات التي أشارت أن الإمام فقط قام بالتغسيل والتكفين، ولكن غيره قام بالدفن:
أ-كما في رواية هرثمة (قال: فسكت عني ثم ارتفع الفسطاط فإذا أنا بسيدي عليه السلام مدرج في أكفانه فوضعته على نعشه ثم حملناه فصلى عليه المأمون وجميع من حضر ثم جئنا إلى موضع القبر فوجدتهم يضربون المعاول دون قبر هارون ليجعلوه قبلة لقبره والمعاول تنبو عنه حتى ما يحفر ذرة من تراب الأرض)[7]
ويظهر منها أن الإمام الجواد –لو سلمنا أنه المغسل- لم يكن قد حضر الدفن ولم يباشر الدفن بنفسه فكيف يقال أنه تولى أمره في كل شيء؟.
ب-عيون أخبار الرضا (ع): الهمداني، عن علي بن إبراهيم، عن ياسر الخادم قال: ...... وكان محمد بن جعفر بن محمد عليهما السلام استأمن إلى المأمون وجاء إلى خراسان وكان عم أبي الحسن فقال له المأمون: يا أبا جعفر اخرج إلى الناس وأعلمهم أن أبا الحسن لا يخرج اليوم وكره أن يخرجه فتقع الفتنة فخرج محمد بن جعفر إلى الناس فقال: أيها الناس تفرقوا فان أبا الحسن لا يخرج اليوم، فتفرق الناس وغسل أبو الحسن في الليل، ودفن. قال علي بن إبراهيم: وحدثني ياسر بما لم أحب ذكره في الكتاب[8].
والظاهر من هذه الرواية أن الإمام غسل ودفن ليلاً بمرأى من محمد بن جعفر بن محمد هذا وبعلم المأمون.
ج-وفي رواية عمر بن واقد: ...... وقال لي: يا أبا حفص إكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر، فكشفته فرأيته ميتا فبكيت واسترجعت، ثم قال للقوم: أنظروا إليه، فدنا واحد بعد واحد فنظروا إليه ثم قال: تشهدون كلكم أن هذا موسى بن جعفر بن محمد؟ قالوا: نعم نشهد أنه موسى بن جعفر بن محمد، ثم قال: يا غلام إطرح على عورته منديلا واكشفه، قال: ففعل، فقال: أترون به أثرا تنكرونه؟ فقلنا: لا ما نرى به شيئا ولا نراه إلا ميتا، قال: لا تبرحوا حتى تغسلوه وأكفنه وادفنه، قال: فلم نبرح حتى غسل وكفن وحمل فصلى عليه السندي بن شاهك، ودفناه ورجعنا، فكان عمر بن واقد يقول: ما أحد هو أعلم بموسى بن جعفر (عليهما السلام) منى، كيف تقولون: أنه حي وأنا دفنته[9] .
وهي صريحة في أن عمر بن واقد هو من دفن الإمام الكاظم (ع)، هذا أقل تقدير وإلا فإن فيها أن السندي بن شاهك صلى عليه، فكيف يقال أن الإمام يتولى كل شيء؟.
د-وصية الإمام لهرثمة في روايته وأبي الصلت في روايته وكاتب الإمام الرضا الحسن بن عباد والتي يوصيهم فيها بمكان دفنه وطريقة تجهيزه، وقد مرّ عليك مقاطع من روايتي هرثمة وأبي الصلت وأما ما روي عن الحسن بن عباد كاتب الرضا عليه السلام قال: (.... فقال: احفروا ذلك المكان فإنه سيلين عليكم، وتجدون صورة سمكة من نحاس وعليها كتابة بالعبرانية، فإذا حفرتم لحدي فعمقوه وردوها مما يلي رجلي فحفرنا ذلك المكان وكان المحافر تقع في الرمل اللين ووجدنا السمكة مكتوبا عليها بالعبرانية: "هذه روضة علي بن موسى، وتلك حفرة هارون الجبار" فرددناها ودفناها في لحده عند موضع قاله).
فإن من قام بالحفر هم هؤلاء ومن معهم من أتباع المأمون وليس الإمام.
هـ-وما جاء في غيبة الشيخ الطوسي: يونس بن عبد الرحمن قال: حضر الحسين بن علي الرواسي جنازة أبي إبراهيم عليه السلام فلما وضع على شفير القبر إذا رسول من السندي بن شاهك قد أتى أبا المضا خليفته - وكان مع الجنازة - أن اكشف وجهه للناس قبل أن تدفنه حتى يروه صحيحا لم يحدث به حدث، قال: فكشف عن وجه مولاي حتى رأيته وعرفته ثم غطى وجهه وادخل قبره صلى الله عليه[10].
وظاهر هذه الرواية أن أتباع الشاهك هم من دفنوا الإمام الكاظم بمحضر الحسين بن علي بن الرواسي.
و- غيبة الشيخ الطوسي: لما حبس هارون الرشيد أبا إبراهيم موسى عليه السلام وأظهر الدلائل والمعجزات وهو في الحبس تحير الرشيد، ...... إلى أن قال: (ثم دفن عليه السلام ورجع الناس، فافترقوا فرقتين فرقة تقول: مات، وفرقة تقول: لم يمت[11]. ونقلها ابن شهرآشوب عنه في مناقبه[12].
وظاهر هذه الرواية أنهم هم من دفنوه ولم يكن الإمام حاضراً ظاهراً.
ز- غيبة الشيخ الطوسي: وفي حديث طويل .... وسأل موسى عليه السلام السندي عند وفاته أن يحضره مولى له ينزل عند دار العباس بن محمد في أصحاب القصب ليغسله ففعل ذلك قال: وسألته أن يأذن لي أن أكفنه فأبى وقال: إنا أهل بيت مهور نسائنا وحج صرورتنا، وأكفان موتانا من طهرة أموالنا، وعندي كفني. فلما مات أدخل عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدي وغيره فنظروا إليه لا أثر به، وشهدوا على ذلك واخرج فوضع على الجسر ببغداد، ونودي: هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا إليه، فجعل الناس يتفرسون في وجهه وهو عليه السلام ميت. قال: وحدثني رجل من بعض الطالبيين أنه نودي عليه: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت، فانظروا إليه، فنظروا إليه. قالوا: وحمل فدفن في مقابر قريش، فوقع قبره إلى جانب رجل من النوفليين يقال له عيسى بن عبد الله[13] .
وظاهر هذه الرواية أن من غسل الإمام هو مولاه، ودفن من قبل أتباع السندي.
ح– وفي رواية أبي الصلت الهروي الطويلة مقاطع متعددة ..... ثم قال: سيحفر لي في هذا الموضع فتأمرهم أن يحفروا إلى سبع مراقي إلى أسفل وأن تشق لي ضريحه، فان أبوا إلا أن يلحدوا فتأمرهم أن يجعلوا اللحد ذراعين وشبرا فان الله تعالى سيوسعه ما يشاء، وإذا فعلوا ذلك فإنك ترى عند رأسي نداوة، ..... فبينا أنا كذلك إذ دخل علي شاب حسن الوجه، قطط الشعر، أشبه الناس بالرضا عليه السلام فبادرت إليه وقلت له: من أين دخلت والباب مغلق؟ فقال: الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق، فقلت له: ومن أنت؟ فقال لي: أنا حجة الله عليك، يا أبا الصلت أنا محمد بن علي. ..... ثم قال لي: يا أبا الصلت قم فافتح الباب للمأمون ففتحت الباب، فإذا المأمون والغلمان بالباب، فدخل باكيا حزينا قد شق جيبه، ولطم رأسه، وهو يقول: يا سيداه فجعت بك يا سيدي، ثم دخل وجلس عند رأسه وقال خذوا في تجهيزه فأمر بحفر القبر، فحفرت الموضع فظهر كل شئ على ما وصفه الرضا عليه السلام فقال له بعض جلسائه: ألست تزعم أنه إمام؟ قال: بلى، قال لا يكون إلا مقدم الناس فأمر أن يحفر له في القبلة فقلت: أمرني أن أحفر له سبع مراقي وأن أشق له ضريحه فقال: انتهوا إلى ما يأمر به أبو الصلت سوى الضريح، ولكن يحفر له ويلحد. ....[14].
وظاهر فيه عدة أمور:
1-أن أتباع المأمون هم من يحفرون، وأبا الصلت يأمرهم أن يحفروا حسبما وصاه الإمام فالمباشر للحفر هم أتباع المأمون وهم من وضعوه في القبر مع أبي الصلت.
2-أن المأمون عندما دخل عليه وهو ميت لم ير الإمام الجواد بدلالة أمره بتجهيز الإمام الرضا.
3-إن ما تبينه هذه الرواية أن الإمام الجواد قام بتغسيله وتكفينه ولم يقم بدفنه.
وعليه: كيف يقال أن الإمام متكفل بكل شيء من التغسيل والتكفين والدفن وما إلى ذلك!.
ط- ما جاء في مروج الذهب للمسعودي: كانت وفاة أبي الحسن علي بن محمد عليهما السلام في خلافة المعتز بالله، وذلك يوم الاثنين لأربع بقين من جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين ومائتين وهو ابن أربعين سنة، وقيل ابن اثنتين وأربعين سنة، وقيل أقل من ذلك، وسمعت في جنازته جارية سوداء وهي تقول: ماذا لقينا من يوم الاثنين، وصلى عليه أحمد ابن المتوكل على الله في شارع أبي أحمد، ودفن هناك في داره بسامراء[15].
والخلاصة من كل هذه الروايات أن هناك من قام بتغسيل وتحنيط وتكفين ودفن الإمام ظاهراً غير خفي، ومنه يظهر عدم دقة القول بأن الإمام لا يليه إلا إمام في كل شيء إلا أن يقال أن ذلك في الخفاء كما هو الحال مع الملائكة في حضورها وفي مشاركتها هذه الأمور والنبي الأعظم (ص) بحضوره ودفنه الإمام الحسين، وحينئذ لا يبقى لنا كلام إذا كان المقصود ذلك.
هل تقتضي الضرورة تغسيل غير الإمام للإمام:
ويبقى أنه لو فرضنا صحة أن (الإمام لا يغسله إلا إمام) أو (الإمام لا يليه إلا إمام) فهل أن ذلك مطلقاً أو أنه يمكن أنه يليه ولو في أمر من الأمور إذا اقتضت الحاجة ذلك أو استلزم ذلك شيء من الضرر؟
الظاهر وحسب روايات أهل البيت الثاني وأن الحاجة اقتضت أن يباشر الإمام غيره، إما حسب ما يدعى من خوف الضرر، أو لبعد المسافة بينهم كما هو الإمام الرضا مع أبيه أو الإمام الجواد مع الرضا عليهم السلام - وإن كان لا يبعد طي المسافة لهم - أو لسيطرة الأعداء عليه كما تحكيه رواية كامل الزيارات بحق الإمام السجاد.
ويبدو هذا هو رأي الشيخ المفيد في مسألة دفن الإمام الحسين من أن الضرورة اقتضت أن يتولى أمر الإمام غير الإمام – وهم بنو أسد - كما نقلناه سابقاً عن الإرشاد، ويؤكد هذا التصور من رأيه ما جاء عن تلميذه السيد المرتضى حكاية عنه في الفصول في معرض رده على الناووسية الرافضين لموت الإمام حيث رووا حديثاً عنه يقول فيه: إِنْ جَاءَكُمْ مَنْ يُخْبِرُكُمْ عَنِّي بِأَنَّهُ غَسَّلَنِي وَكَفَّنَنِي وَدَفَنَنِي فَلَا تُصَدِّقُوه. فرد الشيخ المفيد عليهم بوجوه، ومما قال: "وله وجه آخر وهو أنه عنى بذلك كل الخلق سوى الإمام القائم بعده لأنه ليس يجوز أن يتولى غسل الإمام وتكفينه ودفنه إلا الإمام القائم مقامه إلا أن تدعو ضرورة إلى غير ذلك [16]. ويبدو هذا هو رأي المرتضى أيضاً بنقله وحكاتيه عن أستاذه .
وكذا الحال مع الشيخ الطوسي في غيبته من أن مولى الإمام الكاظم هو من غسله كما مرّ ذكر ذلك.
وكذلك الحال مع الشيخ الصدوق مع أنه روى أن الإمام الرضا قد غسل أباه إلا أنه روى روايات كثيرة في أن غيره تولى شؤون أبيه دونه، وقال أيضاً: (لأن الصادق عليه السلام إنما نهى ان يغسل الإمام إلا من يكون إماما فان دخل من يغسل الإمام في نهيه فغسله لم يبطل بذلك إمامة الإمام بعده ولم يقل عليه السلام: ان الإمام لا يكون إلا الذي يغسل من قبله من الأئمة عليهم السلام فبطل تعلقهم علينا بذلك...)[17]
والحال نفسه مع ابن شهرآشوب فهو مع نقله لبعض الروايات التي تقول (الإمام لا يغسله إلا إمام) أو (الإمام لا يليه إلا إمام) إلا أنه وفي مسألة دفن الإمام تبنى - كما هو الظاهر – القول بأن بني أسد هم من دفنوا الإمام الحسين ولعله يرى أن الضرورة اقتضت ذلك وإلا لما كان له التسليم بما حدث تاريخياً لوجود روايات (الإمام لا يغسله إلا إمام).
وعليه يمكننا القول: إنه اقتضت الضرورة أن يغسل سليمان بن جعفر الإمام الكاظم أو مولاه، واقتضت الضرورة أن يدفنه عمر بن واقد مع أتباع السندي بن شاهك، كما اقتضت الضرورة أن يتولى المأمون أو محمد بن جعفر بن محمد شؤون الإمام الرضا، بل اقتضت الضرورة أن لا يتولى الإمام الجواد دفن أبيه مع فرض التسليم بتغسيله.
والأهم من ذلك اقتضت الضرورة التي حكتها رواية كامل الزيارات أن يتولى بنو أسد أمر الإمام الحسين ودفنه. (ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة وينصبون لهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام....) [18]. الخبر. وهذا واضح باعتراف زينب الكبرى والإمام السجاد عليهما السلام أن الله كلف جماعة دونهم يوارون جثت الإمام وأصحابه.
ومنه نرى أنه لا منافاة بين أن (الإمام لا يغسله إلا إمام) وبين تولي غير الإمام شؤون الإمام لأن ذلك مما اقتضته الضرورة، نعم الإمام وفي غير حالة الضرورة وفي حالة تواجده هو من يباشر كل شيء وقد يعاونه غيره لا بمفرده سواء أكانوا أفراداً خارجيين كما هو المعروف من أن أسماء بنت عميس عاونت أمير المؤمنين في تغسيل فاطمة عليهما السلام، وعاون الفضل بن العباس أمير المؤمنين عليه السلام في تغسيل رسول الله صلى الله عليه وآله، أو الملائكة كما في قول الإمام (معي من يعينني) .
ويقرر هذا الكلام ما جاء في رواية هرثمة: (إنا نقول إن الإمام لا يجب أن يغسله إلا إمام مثله فإن تعدى متعد فغسل الإمام لم تبطل إمامة الإمام لتعدي غاسله ولا بطلت إمامة الإمام الذي بعده بان غلب على غسل أبيه ولو ترك أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام بالمدينة لغسله ابنه محمد ظاهرا مكشوفا ولا يغسله الآن أيضا إلا هو من حيث يخفى....)[19].
ويمكن أن نخرج بنتيجة من هذا الكلام – على فرض التسليم به أن هذه القاعدة يمكن أن تكون هكذا (الإمام لا يغسله إلا إمام ) إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك .
الواقع الخارجي ونفس الأمر:
تارة نتحدث عن حدوث الأمر- أعني التغسيل والتحنيط والتكفين والدفن - خارجياً وتارة نتكلم عن نفس الواقع الذي لا يلاحظ خارجياً من قبل الناس، إما من قبل كل الناس كما في رواية هرثمة حتى أن هرثمة نفسه لم يشاهد الإمام أو يراه فرد من الناس كما في رواية ابن الصلت.
فإن كنا نتحدث عن الواقع الخارجي - وهو ما نقصد من كل هذا الكلام – فنحن أمام الأدلة ولو وازنا بين روايات تغسيل غير الإمام للإمام، وبين تغسيل الإمام للإمام السابق فإننا نجد أن الروايات الأولى أكثر عدداً واعتباراً، وإذا قلنا إنما الكلام عن نفس الأمر والواقع - وليس هذا حديثنا – يمكننا القول أن الملائكة أو النبي محمداً (ص) هو من يباشر ذلك في نفس الأمر والواقع كما نقلنا ذلك سابقاً من قيام النبي في دفن الإمام الحسين وهذا لا يعارض الواقع الخارجي الذي يتولى فيه غير الإمام شؤون الإمام.
فعل التغسيل صفة:
نعم يبقى هنا شيء وهو: هل أمر التغسيل والتكفين والدفن فعل خارجي أو صفة يتصف بها الإمام؟
إن كان هذا الفعل فعلاً خارجياً فلا بد أن يرى ويعرف كما هو الحال في تغسيل أمير المؤمنين للنبي وهذا مما لا خلاف فيه فقد عرف بين المسلمين عامة أن من غسل رسول الله هو أمير المؤمنين، وإن كان صفة من الصفات فقد يلاحظ وقد لا.
والذي يبدو من ظاهر بعض الروايات أن الكلام عن التغسيل إنما هو فعل من الأفعال لذا رأينا الإمام يؤكد الفعل وليس كونه صفة من الصفات كما في رواية أحمد بن عمر الحلال (... إن قال مولاي إنه غسله تحت عرش ربي فقد صدق وإن قال: غسله في تخوم الأرض فقد صدق قال: لا هكذا [قال] فقلت: فما أقول لهم؟ قال: قل لهم: إني غسلته، فقلت: أقول لهم إنك غسلته؟ فقال: نعم). فالإمام هنا لا يتحدث عن صفة من الصفات بل يؤكد فعلاً من الأفعال (إني غسلته)، ولذا فإن الإمام الصادق يوصي ابنه الإمام الكاظم بأنه يغسله فعلاً لا أنه يحكي عن مجرد صفة وإن كانت هي من شؤونه المفترضة (قال موسى بن جعفر (ع): فيما أوصاني به أبي ان قال: يا بني إذا انا مت فلا يغسلني أحد غيرك فان الامام لا يغسله إلا إمام واعلم أن عبد الله أخاك سيدعو الناس إلى نفسه فدعه فان عمره قصير، فلما مضى غسلته كما امرني)[20].
ومن ذلك استعظام المفضل بن عمر لتغسيل أمير المؤمنين (فعل التغسيل) لفاطمة[21] فإن الاستعظام للفعل وليس للصفة .
ولو قلنا أن (فعل التغسيل) هو صفة من الصفات هل يجب عقلاً أن تثبت للآخرين ليسلموا أنه الإمام أو لا ينبغي، فمثلاً من صفات الإمام كونه عالماً فهل هذه الأعلمية ضرورية الظهور للناس بحيث أنهم يسلمون بأعلميته على أقرانه كما شُهد بأعلمية أمير المؤمنين على الصحابة أو الإمام الصادق على أقرانه أو لا ؟
فإذا قلنا بضرورية ظهور هذه الصفة هل يعني عدم ظهورها إخلال بالصفة أم لا؟ وإذا قلنا بأنه ليس ضروريا الظهور كما هي العصمة مثلاً فإن كثيراً من أصحاب الأئمة ما كانوا يعتقدون في الأئمة بأنهم معصومون كما ذكر ذلك الشهيد الثاني في (حقائق الإيمان) ص151 منه بقوله:
(... فإن كثيراً منهم ما كانوا يعتقدون عصمتهم لخفائها عليهم، بل كانوا يعتقدون أنهم علماء أبرار، يعرف ذلك من تتبع سيرتهم وأحاديثهم. وفي كتاب أبي عمر الكشي رحمه الله جملة مطلعة على ذلك، مع أن المعلوم من سيرتهم عليهم السلام مع هؤلاء أنهم كانوا حاكمين بإيمانهم على عدالتهم) حتى قيل أن العلماء اليوم بل حتى العوام أقدر وأعرف من أصحاب الأئمة في معرفة مقامات الأئمة وصفاتهم !!، وعليه فإن عدم اطلاع الناس على هذه الصفة لا ينفي كونهم متصفين بها، وإن انتفت هذه الصفة في وقت من الأوقات أو بلحاظ من اللحاظ هل تنتفي هذه الصفة كلياً أو تنتفي الإمامة عنها فمثلاً عندما نقول أن الإمام لا بد أن يكون عالماً، وهو لا يعلم متى تقوم الساعة كما هو صريح القرآن وروايات أهل البيت، فهل انتفاء هذه الصفة في هذه الحالة – عدم معرفة وقت الساعة – يعني انتفاء الصفة كلياً أو لا؟
الصحيح أن انتفاء الصفة آناً ما وبلحاظ ما لا يعني انتفاء الصفة، ولا الاخلال بها، ولكن يعني عدم الضرورة لها في كل الحدود، فإذا علمنا أنه عالم، ولكن الله لم يطلعه على كل شيء، وليس عالماً بكل شيء فهذا لا ينفي كونه أعلم من غيره من الناس، وإذا قلنا إنه من صفاته تغسيل الإمام فإن عدم تغسيله لا ينفي ذهاب الصفة منه، وكل ذلك فلسفة طويلة لا طائله منها لأن التغسيل بما هو تغسيل فعل من الأفعال فإذا فعل الإمام هذا الفعل عرفناه – حسب الروايات- وإذا لم يفعل عرفنا أنه لم يفعل فأمير المؤمنين قاتل مع رسول الله في كل الغزوات والحروب وتخلف ولم يقاتل في غزوة واحدة وليست هذه مثلاً من صفات الإمام، نعم تخلف الإمام عن تغسيل الإمام –إذا اعتبرناه صفة- لا يعني انتفاء هذه الصفة عنه، تماماً ككون الإمام هو الإمام تولى على أرض الواقع الإمامة والخلافة كما هو أمير المؤمنين أو لم يتول الخلافة، كأمير المؤمنين في وقت خلافة الخلفاء الثلاثة وبقية الأئمة في خلاف بني أمية وبني العباس فهذا لا ينفي أنه هو الإمام المفترض الطاعة وإن كان ليس بيده شيء على أرض الواقع في ظل الحكومات المسيطرة على الحكم.
جديد الموقع
- 2024-11-24 التفوق العلمي طريق الى التقدم والازدهار
- 2024-11-24 قافية أيوب الأخرس
- 2024-11-24 البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل
- 2024-11-23 جمعية الكشافة تُشارك في الاحتفاء باليوم العالمي للجودة
- 2024-11-23 العرابي يتوّج في الاحساء بطلاً للجولة الثالثة والأخيرة لمنافسات بطولة السعودية تويوتا الدرفت 2024
- 2024-11-23 الفتح يتصدر ترتيب الأندية في الدوري المشترك للبلياردو
- 2024-11-23 ذاكرة القلم عن ملتقى الفريج الشمالي
- 2024-11-23 الأدلجة السلوكية
- 2024-11-23 في يومين : الأدباء الشباب في ضيافة ابن المقرب
- 2024-11-23 أفراح الملفي و الفليو تهانينا
تعليقات
الحاج الكعبي
2024-03-14السلام عليكم بحث قيم ورائع ومسوف لكل ما يتعلق بهذا الموضوع المهم ولكن لم تظهر لي المراجع والمصادر عند الضغط على رقم الهامش وانما تعيدني الى نفس صفحة البحث وهل هناك قسما خامسا ام انه انتهى بالقسم الرابع؟؟ اسال الله ان يوفقكم وينفع بكم انه سميع الدعاء مجيب