الإسلام وأوروبا عند المفكر هشام جعيط

لو لم يكن هشام جعيط إلا مؤرخاً لكان ذلك وحده يكفي كي نقول إنه قدم للفكر العربي المعاصر ، وللفكر الإنساني عامةً مالم يقدمه إلا نفر قليل من الباحثين من عميق مساهمة في ميدان الدراسات التاريخية وخاصة في دراسات تاريخ الإسلام. لكنه ما أكتفى بالتاريخ مجالاً حصرياً للدراسة والتأليف ، إنما جاوز حدوده إلى جغرافيات معرفية أخرى كتاريخ الفكر والفلسفة وفلسفة الدين وعلم الاجتماع الديني والنقد الثقافي ، فتقاطعت مصادر معرفية متنوعة ومناهج دراسية مختلفة في عمله العلميّ الذي استفاد من معرفته الموسوعية بتاريخ الفكر الغربي وتاريخ الإسلام ومن إتقانه لغاتٍ عدةً واستثماره مصادرها الثقافية في الدرس والتأليف .
اشتغل جعيط منذ مطلع السبعينات بسؤال
الأنا والآخر . ولكنه ما شُغل به على طريقة النهضويين الأسلاف الذين ما طفقوا يبحثون فيه من زاوية نظرة الأنا إلى الآخر . بل بما هو سؤال حول أنماط الصور التي كونها الآخر عن الإسلام والمسلمين على مدار تاريخ طويل يمتد من القرن الثامن عشر الميلادي حتى القرن العشرين ، من يوحنا الدمشقي حتى جان بول سارتر . لم يكن الآخر هذا هو نفسه في كل أحوال التاريخ وإن ظل يُطل على الإسلام من الموقع الجغرافي عينه . لذا جاء كتابه ( أوروبا والإسلام) على نطاق واسع بوصفه نصاً مكرساً لنقد المعرفة الغريبة للإسلام ونقد الصور النمطية فيها . وقد يكون هذا الكتاب النص الفكري الأول المتكامل الذي وضعه مفكر من جيل الحداثة العربية لنقد المعرفة الغريبة للإسلام وقد صدر قبل سنوات من صدور كتاب الاستشراق لادوارد سعيد .
يميز هشام جعيط بين أوروبا التاريخية وأوروبا الكونية من أجل الإجابة عن سؤال العلاقة بين أوروبا والإسلام . ليس الفرق بين أوروبا والإسلام كمي يقوم على تصنيع الأولى وما قبل تصنيع الثاني ، لأن الفرق ذهني وثقافي وحضاري أعمق . أما فيما يخص سؤال كونية أوروبا ، لا يقطع جعيط برأي ، لأن المسألة في نظرة مطروحة للتمحيص .ليست كونية أوروبا مسألة بديهية كما يمكن أن يوحي به بعض الخطابات. ان الغاية التي يرسمها جعيط لأطروحته هي إضفاء نوع من النسبية على إدعاء الكونية الأوروبية وذلك محاولة منه للخروج من دائرة المركزية الأوروبية. فهو يلاحظ أنه في الوقت الذي تُعلي أوروبا من قيمة الإنسان أو تجعل منها قيمة فوق باقي القيم ، تنتهك القيم ذاتها بقوة الحديد والنار وبالهيمنة والسيطرة إلى حد يدفع الإنسان إلى التساؤل عمَّ إذا كان الأمر يتعلق بالإمبريالية أو بالكونية ؟ .
يقول جعيط  ماهو كوني في أوروبا هو ما بذرته هنا وهناك عن طريق الصدفة ، بمعنى آخر لا وجود لخطوة تاريخية تنعم بها أوروبا مسبقاً تؤهلها لإنجاز رسالة سماوية للتقدم ، فهذا الضرب من الأفكار أقرب إلى الغيب منه إلى التحليل العلمي .وبدل الاعتقاد بقدرة أوروبا لإنجاز تقدم إنساني، ثمة مجرد صدف في التاريخ منثورة هناك وهناك، وهذا يذكر بأطروحات ليفي ستراوس.
يقول جعيط إن كونية أوروبا هي على محك التاريخ الذي يعلمنا بأي ثمن يمكن الحديث عن هذه الكونية ؛ بأي ثمن اكتسى العقل الأوروبي كونيته ، إن لم يكن بثمن همجية لا تُبقي ولا تذر ، بثمن حروب كبرى وإبادات جماعية . يقول " كان على العقل الديكارتي أن يختمر في ظل الخوف والصمت ، وكان على العقل التنويري أن ينمو في ظل نظام سياسي متهالك ، وكان على العقل الجدلي أن يترعرع في ظل نظام غير عادل بشكل همجي " .
أن الأشكال الثلاثة للعقلانية  الاوروبية، المتمثلة في العقلانية الديكارتية والكانطية والهيغلية، ترعرعت ونمت في ظل أنظمة سياسية أقل ما يقال عنها إنها أنظمة مرعبة ، سواء النظام الثيوقراطي على عهد ديكارت او العادل المستبد على عهد كانط او النظام القيصري على عهد هيغل.
يقارن جعيط بين أوروبا وأوروبا: بين أوروبا التاريخية وأوروبا المنتجة للخطاب الكوني . إن أوروبا التاريخية هي أوروبا الحروب الصليبية وأوروبا الغزو الاستعماري.  أما أوروبا المؤسسة للخطاب الكوني ، فهي أوروبا النزعة الإنسانية وأوروبا حقوق الإنسان التي تبلورت في عصر النهضة وعصر الانوار.  وغالباً تحقق الإرث الكوني خارج حدود أوروبا:فالماركسية،كإرث كوني وفلسفة تحررية ونقد للرأسمالية ، لم يقدر لها أن تترعرع في حدود أوروبا التاريخية، إذ يقول "معنى هذا القول أن نستحضر الاختلاف التام بين أوروبا الواقعية والتاريخية وأوروبا المبدعة والمؤسسة للكوني" يحصر جعيط بما هي منتجة للخطاب الكوني في لحظتين فاصلتين: أوروبا النهضة وأوروبا الانوار .