2019/12/07 | 0 | 4776
فقه الوحدة فقه اختلافالمحقق الكركي ودراسته عند المذاهب
طوال قرون كانت دراسات العلوم الإسلامية متواصلة باتصال دون انفصال بين أتباع المذاهب منذ عصر الإمامين الباقر والصادق مروراً بعصر المفيد والمرتضى والطوسي في القرن الخامس فقد كان العلماء يتتلمذون على بعض ويحضرون حلقات مشتركة لأنهم يدرسون معارف الإسلام، وبالطبع فإن الحلقات التعليمية المشتركة لاتمنع السجال والاختلاف، وكان ذلك التواصل العلمي بين المذاهب يتم بطرق متعددة منها :
أ- حضور المعاهد العلمية المشتركة مباشرة بين حلقات الدروس المفتوحة في الجوامع وهي تمثل الحوزات الجامعة لطلبة المذاهب الإسلامية كما في بغداد وبيت المقدس والقاهرة .
ب - الابتعاث العلمي الذاتي بشد الرحال للأخذ من مذهب أو عالم متميز بأحد العلوم بين المذاهب.
ج- تبادل إجازات الرواية للأحاديث وللكتب وللقراءة، وقد استمرت طريقة الإجازات طويلاً توطد العلاقات بين مشايخ المسلمين.
تعثر ذلك التواصل العلمي وسط القرن العاشر إثر الصراع بين الدولتين العثمانية والصفوية.
المحقق الكركي الذي أصبح زعيماً دينياً رسمياً أحد
أعلام فقه الوحدة آخر عهد ازدهاره.
الكركي في سطور
- علي بن حسين بن عبدالعالي
- ولد حوالي ٨٦٩ في كرك نوح (الكرك) ربما هي قرب بعلبك، يقال أن فيها قبر النبي نوح على رواية غير مؤكدة .
- عاش على مشارف العهد العثماني التركي. وشهد بداية الدولة الصفوية.
- بدأ دراسته في لبنان على جمع من العلماء بينهم والده والشيخ محمد بن خاتون العاملي، والشيخ علي بن هلال الجزائري أهم اساتذته في كرك نوح، مما درس عنده بعد المنطق والأصول كتابي القواعد والمختلف للعلامة الحلي وعبر عن الجزائري مراراً أنه أجل أساتذته.
- سافر للزيارة إلى العراق وتجول في منتزهات بغداد سنة ٨٩٨
- مطلع القرن العاشر بدأ تجواله المعرفي للدراسة على علماء المذاهب الإسلامية.
- من المدن التي حضر دروسها : دمشق، القدس، مكة، مصر .
- عاد فترة قصيرة إلى لبنان ثم سافر إلى العراق سنة ٩٠٩ بعد حصوله على إجازات علمية من بلده ومكث فيه سبع سنوات.
- هاجر لأول مرة إلى إيران عبر اتصاله بالشاه إسماعيل الصفوي آخر سنة ٩١٦ مستقراً بين مشهد وزنجان وبقي هناك حوالي ثلاث سنوات لم يستطع فيها التبليغ كما يريد.
- عاد للإقامة في النجف الأشرف بين ٩٢٠ و ٩٣٦ وكتب (جامع المقاصد) وقبل أن يتمه جاءته دعوة (طهماسب) للسفر إلى إيران بعد اقامة ١٦ سنة في العراق تفرغ فيها للتعليم الفقهي.
- هاجر ثانية إلى إيران بصحبة الشاه طهماسب الذي احتل العراق ومكث هناك يرأس الشؤون الدينية متولياً منصب (شيخ الإسلام) فترة ثلاث سنوات وسط خلاف حول منصبه وتهجم المعارضين.
- عاد الكركي مقهوراً للمرة الثانية والأخيرة إلى نجف العراق سنة ٩٣٩ ولم يلبث أن توفي بعد سنة ونصف في ذي الحجة ٩٤٠ قبل احتلال الأتراك للعراق بقيادة سليمان القانوني ولذلك تم إخفاء قبره في النجف، ويقال أن قبره منسوب إلى بنات الحسن .
تتلمذ الكركي عند علماء المذاهب
لم يدرس الكركي في حوزة النجف فقد دخلها سنة ٩٠٩ بعد إنهاء دراسته فهناك شرع بالتدريس.
أما دراساته فقد تلقاها متجولاً بين المدن والمذاهب.
في مصر :
حضر دروساً في (صحيح البخاري) عند الشيخ زكريا الأنصاري المصري الشافعي ونال منه إجازة رواية.
كما حضر دروس (صحيح مسلم) سنة ٩٠٥ عند الشيخ عبدالرحمن بن الإبانة وتلقى منه إجازة.
في دمشق :
تلقى الدروس في بعض المتون والشروح الحديثية عند الشيخ علاء الدين البصروي الشافعي ونال منه إجازة.
في القدس :
صرح الكركي في كتاب نفحات اللاهوت أنه درس أكثر من ٤٠ حديثاً عند الشيخ محمد أبي الشريف المقدسي الشافعي مما أخرجه الحافظ ابن حجر .
الأفندي صاحب (رياض العلماء ج٣) يركز على تلقي الكركي علوم الحديث إنما المؤكد أن الكركي تلقى فقه المذاهب وهو ما استفاد منه في بحوثه الفقهية، بل كان الفقه يدرس كشرح لمتون الأحاديث وهو منهج استمر عدة قرون حيث يدرس على هامش الحديث - إضافة إلى علم الحديث ورجاله - عدة علوم من لغة وأصول وقواعد فقهية وفقه وسيرة، وهو منهج معرفي رائع، حضرت شطراً منه وتمنيت التدريس على شاكلته لولا التقيد بالدراسة المتعارفة الإلزامية.
وهناك مؤشر أن الكركي استفاد من الفقه السياسي السني أثناء تجواله بين المعاهد وتأثر منه بما يشبه قيادة الفقيه - لا ولاية الفقيه كما يشاع -مما نفع تجربته مع الدولة الصفوية وخروجه على مشهور علماء الشيعة من تجنب الفقهاء للسياسة الرسمية.
المفارقة المؤلمة أن المحقق الكركي الناشط في حقل التعليم الديني المشترك بين المذاهب أصبح خاتمة رواد الإزدهار الوحدوي في هذه الدراسات حيث سادت لاحقاً فترة القطيعة على إثر الصراع بين العثمانيين والصفويين وبقي الكركي شاهد عيان بل رمز هذه القطيعة السياسية ولم يستطع تلامذته بما فيهم ولده لاحقاً تدارك القطيعة بل تماشوا معها حيث دشنت لفكر انفصالي طائفي غلب على وعي المسلمين لعهود فكان ما بعد القرن العاشر غير ما قبله، بل إن المحقق الكركي نفسه تحول نحو فكر الإنفصال نتيجة الاسترخاء الشامل للمذاهب في ظل دولتين متصارعتين ومن ثنايا سطور مؤلفاته يظهر ذلك كما في كتابه شديد اللهجة (نفحات اللاهوت) .
كان من بين الذين نالوا إجازة من الكركي سنة ٩٣٧ بإصفهان عالم سني متسامح هو القاضي صفي الدين عيسى فقد وصف بأنه يدفع عن الشيعة الإشاعات وكان مولعاً بكتاب (كشف الغمة في مناقب الأئمة) تأليف علي بن عيسى الأربلي حتى طعنوا عليه بالرفض وتوصلوا إلى قتله بهذا السبب حسب نقل (بحار الأنوار ج١٠٥) وهذا غير مستبعد مع تقلب الأحوال نحو القطيعة الطائفية والكراهية المنافية للدين.
حترام الكركي لمشايخ التسنن
أكد المحقق الكركي مراراً استفادته من دروس كبار علماء أهل السنة الذين أخذ منهم بالمباشرة أو بالواسطة .
قال في إجازته للشيخ ابراهيم الخانيساري :
" وأما كتب أهل السنة في الفقه والحديث فإني أروي الكثير منها عن مشايخنا.. وعن مشايخ أهل السنة خصوصاً الصحاح الستة .."
في مقام آخر يذكر روايته لكتاب الكشاف " لجار الله العلامة محمود بن عمر الزمخشري " وكتاب الشاطبية في القراءات السبع " نظم الشيخ الأجل أبي القاسم بن قرة .. الشاطبي" وكتب أخرى ..
للأمانة نورد تصريح الكركي أن سبب اهتمامه بكتب العامة كما فعل الأصحاب من قبله :
" لغرض صحيح ديني فإن فيها من شواهد الحق ما يكون وسيلة إلى تزييفات الأباطيل مالا يحصى كثرة والحجة إذا قام الخصم بتشييدها عظم موقعها في النفوس .. ومع ذلك ففي الإحاطة بها فوائد أخرى جمة "
مع ذلك يسهب الكركي خلال إجازة القاضي صفي الدين في بيان فوائد تتبع كتب المخالفين ويعبر عنها
" المصنفات الجليلة المعتبرة "
وأنه يروي منها ما " لا يكاد يحصى و لا يحصر من مصنفاتهم في العلوم الإسلامية إجازة خاصة وعامة من علمائنا ومن علمائهم "
كما يؤكد أنه أكثر الملازمة لهم والتردد إليهم بدمشق وبيت المقدس شرفه الله وعظمه وبمصر ومكة " وصرفت في ذلك سنين متعددة وأزمنة متطاولة"
ويعبر عن مسند أحمد " مسند الإمام المحدث الجليل أحمد بن حنبل "
وعن أساتذته من علماء السنة يتحدث باحترام فهو يذكر " الشيخ الأجل العلامة أبويحيى زكريا الأنصاري " وأن الأنصاري هذا يروي عن " قدوة الحفاظ ومحقق الوقت بن حجر "
وهو يفتخر بأنه يحتفظ بإجازات خطية بخط مشايخه السنة
ثم هو بدوره يجيز رواية هذه الكتب السنية .
و في إجازته للقاضي صفي الدين عيسى يذكر ابن أبي الحديد المعتزلي بالثناء :
" الشيخ الإمام المتبحر جامع المعقول والمنقول مستجمع فنون العلوم عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد شارح نهج البلاغة "
إسباغ الثناء هذا يدل على مدى إعجاب الكركي بابن أبي الحديد وتفننه العلمي .
ممارواه من كتب العامة
صرح الكركي أنه أخذ عن علماء العامة كثيراً من مشاهير كتبهم في عدة علوم، ذكر تفصيل ذلك في إجازته للشيخ أحمد بن محمد بن خاتون العاملي الواردة في أعيان الشيعة ج٣ .
- في الفقه :
" مثل (المنهاج) للشيخ الإمام محيي الدين النواوي ومثل (الحاوي الصغير) للإمام عبدالغفار القزويني، ومثل ( الشرحين الكبير والصغير) للشيخ المحقق الإمام عبد الكريم القزويني، وغير ذلك " .
- في الحديث :
" مثل (الصحيحين) للإمامين الحافظين الناقدين البخاري ومسلم، وغيرهما من الصحاح، ومثل (المصابيح) للبغوي و(مسند الشافعي) و(مسند أحمد بن حنبل).
- في التفسير :
" مثل (معالم التنزيل) للبغوي، و(تفسير العلامة القرطبي) و(تفسير القاضي البيضاوي) وغير ذلك" .
- كيف تلقى هذه الكتب ؟
أجاب هو : " فبعض هذه بالقراءة وبعضها بالسماع وبعضها بالإجازة وربما كان في بعض مع الإجازة مناولة "
مصادر كل ذلك يلخصها الكركي :
"أسانيد هذه موجودة في متون الإجازات التي لي من أشياخ أهل السنة وبعضها مكتوبة بخطي وعليها تصحيح من أخذت عنه منهم بخطه "
الحديث عن استفادة المحقق الكركي من الكتب والمشايخ للمذاهب الإسلامية طويل ..
اتهام الأعلام من الفكر الإنفصالي
الجدير بالتنويه هنا : وجود شبهة تتردد في مقالات وخطابات وسط الخلاف الشيعي الشيعي وهو اتهام العلماء بالتأثر بالتسنن كطريق للغمز في الاعتقاد والولاء وقد راج ذلك مؤخراً وأصبح التوسع العلمي كما هي حسن المعاشرة من وسائل التعيير فانقلبت المنقبة إلى مثلبة.. فيقولون : الفقه الشيعي شافعي والتفسير متسنن وعلم الرجال سني والأصول منقول من المذاهب.. وهذا الهمز واللمز غير جديد ظهر وسط السجال الحاد بين الإخبارية والأصولية و ممن روج لهذه الملاحظة الحادة صاحب الفوائد المدنية الشيخ محمد أمين الاسترابادي ت ١٠٣٣ حتى أن الشيخ يوسف البحراني رغم أنه محسوب على الإخبارية إلا أنه انتقد تشدد الاسترابادي في كتابيه (الحدائق الناضرة) و(لؤلؤة البحرين) واصفاً إياه بأنه أول من فتح باب الطعن على المجتهدين وتقسيم الفرقة الناجية إلى إخباري ومجتهد .
يحاول بعض العلماء والدعاة رد شبهة التأثر بفكر التسنن بخطابيات وتكلف رد التهم منفردة بطريقة تجزيئية لامنهجية نافين تأثر الفكر الشيعي بالفكر السنة وإثبات أصالة تلك العلوم في المذهب والاستغناء عن المذاهب ..
وهي طريقة متكلفة من الرد خارج التاريخ الواقعي.
الجواب المختار على الشبهة
يوجد رد مهم لايناسب أصحاب الرد السابق ويتخلص ردنا المنهجي : بأن الفصل بين السنة والشيعة ووضع جدار عنصرية فاصلة غير واقعي بل فيه تهويل للخلاف لأن الفكر الإسلامي بمختلف العلوم الإسلامية متداخل بين المذاهب تداخل الأمواج لايمكن تأثر بعضها ببعض وحتى الاختلاف نفسه يؤكد تداخلها على سبيل الحوار والتعليق وحتى النقود والردود، فلايمكن الانفصال في الفقه حيث لابد من المنهج المقارن وكذلك في الحديث والتاريخ وعلم الكلام المسبب للتفرقة، يؤكد ذلك أن المسلمين كما يروى عن علي ع في قوله لليهودي : اختلفوا عن رسول الله لاعليه.. والجميع من أهل القبلة
محور الاختلاف هو نفسه محور الائتلاف القرآن الواحد القطعي حيث تتداخل التفاسير بالاقتباس والنقاش، وكذا السنة النبوية حتى مع الاختلاف على سند حديث فإن كل مسلم يقر بوجوب الأخذ بالسنة الثابتة.
ففي المعارف لايعتبر التأثر تهمة حتى يذهب البعض إلى مهزلة التفاخر بأنه لايقرأ للمخالفين لأن المقاطعة عند العلماء جهل لا مفخرة.
وإذا كان الحديث النبوي قال : (اطلبوا العلم ولو في الصين) وأكدت صحة مضمونه روايات عديدة بلسان (الحكمة ضالة المؤمن هو أولى بها أنى وجدها) ..
فذلك يؤكد من باب الأولوية ضرورة التبادل العلمي والتثاقف المعرفي في ما بين المسلمين أنفسهم الأمة الواحدة باصطلاح القرآن.
أما الدعوة الإنفصالية على مختلف الأصعدة الاجتماعية والعلمية فهذه لايبررها منطق البحث العلمي ولا العقل ولا منهج القرآن ولاسيرة الأئمة ولا تاريخ العلماء وإنما الانفصالية دعوة غرائزية بلا أصول يغذيها التعصب ولاتروق إلا للمتطرفين والمتعصبين ممن يفضلون عزلة الجهل على عشرة العلم.
المحقق الكركي إنما يدعى المحقق وهو بذلك جدير لأنه تتبع المذاهب مستفيداً مقارناً ناقدا. وهو أحد الأعلام ممن أكدو أن الوحدة الإسلامية ليست مجرد تعايش وإنما هي وحدة حقيقية وحدة أصول أمة ووحدة ثقافة ووحدة حياة ودين واحد، وقد أكمل الكركي العاملي مسيرة بدأت منذ الكليني مروراً بالمفيد والمرتضى والطوسي ثم العلامة الحلي ثم الشهيدين وصولاً إلى القرن العاشر حيث الكركي ..
--------------------------
مصادر :
١-كشف الغمة، الأربلي
٢- بحار الأنوار ، المجلسي، ج ٥
٣- رياض العلماء، أفندي، ج٢
٣- أعيان الشيعة، الأمين ج٣ و١٠
٤- حياة المحقق الكركي، محمد الحسون وآثاره ج١ وج٢ .
* اهتمامي تأخر بالإجازات والحقيقة أن فيها فوائد علمية وتاريخية و نصائح تعليمية كما هي إجازات الكركي.
جديد الموقع
- 2024-11-24 التفوق العلمي طريق الى التقدم والازدهار
- 2024-11-24 قافية أيوب الأخرس
- 2024-11-24 البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل
- 2024-11-23 جمعية الكشافة تُشارك في الاحتفاء باليوم العالمي للجودة
- 2024-11-23 العرابي يتوّج في الاحساء بطلاً للجولة الثالثة والأخيرة لمنافسات بطولة السعودية تويوتا الدرفت 2024
- 2024-11-23 الفتح يتصدر ترتيب الأندية في الدوري المشترك للبلياردو
- 2024-11-23 ذاكرة القلم عن ملتقى الفريج الشمالي
- 2024-11-23 الأدلجة السلوكية
- 2024-11-23 في يومين : الأدباء الشباب في ضيافة ابن المقرب
- 2024-11-23 أفراح الملفي و الفليو تهانينا