2022/03/23 | 0 | 6449
شعرنة النقد وانشطار الذات قراءة في ديوان ( عروج إلى الهامش ) للشاعر / يحيى العبداللطيف
هذا الشعر في عمومه تمثيل نقدي للمشهد الثقافي في أكثر من جهة، فالشاعر لم يكتفِ بإطار شعري لإضاءة شمعة جمالية يطلّ بها القارئ على شاعريته ،بل راح يوقد الشمعة تحت المشهد الثقافي؛ ليلسع بعض الممارسات الثقافية، ما يجعل الديوان أقرب إلى شيءٍ أسمّيه بشعرنة النقد.
وأمام هذه العتبة(عروج إلى الهامش) لا نملك إلاَّ أن نَصُفَّ أجنحتنا للعروج مع الشاعر لا أن نقبضها فهو عروج إلى الهامش ، وليس لنا أن نصدِّق أن ثمة عروجًا إلى الهامش إلاّ في عالم الشعر وعالم السحر والبديع والمجاز ، ليس نحن فقط الذين لم نصدق إمكانية العروج التنازلي ، الشاعر نفسه لم يقتنع بعروج إلى الهامش :
لن تسرقوا قلمي ووهجَ دفاتري
إن العروج في هذه الأبيات يأخذ اتجاهه العلوي بينما يأخذ العروج في العتبة اتجاهه السفلي / الهامش، فماذا يعني هذا ؟
الحقيقة التي أرجّحها من عدة احتمالات في قراءتي لهذه العتبة هو أن هذا الديوان ينطوي على الكثير من الشعر والكثير من الفوضى كذلك .
حسنًا يجب ألا تأخذنا كلمة ( الفوضى) إلى حالة من التلقي السلبي للديوان ، فالفوضى في الشعر أمرٌ محمود ، فهي تحطيم لقيود اللغة في بعدها النسقي المبتذل وتقويض الوشائج والعلائق الطبيعية بين الأشياء والكلمات، ما يعني هدم للقيمة والتراكيب الاعتيادية للغة وإعادة بنائها في عالم مجازي صادم وخاص بالشاعر .
ومن البَيِّن جدًا أن العنوان لم يكن حدثًا اعتباطيًا، بل كان واقعًا قصديًّا يتناسب مع الحالة الإنسانية العميقة التي يحملها هذا المشاغب الشاعر يحيى العبداللطيف ، فهو رغم مشاغبته وتمرده يحمل إنسانًا محبًّا متسامحًا ومتطامنًا مع الآخرين ، يعلو في انخفاض ، وينخفض في علو ، يشك في يقين ويتيقن في شك، يتقيّد في حريته ويتحرر في قيده ، فلا يجد علاجًا لهذه الحالة إلاّ في عيادة الأسئلة العفوية والطاهرة كما تقرؤها في قصيدته ( برقية عاجلة للمدعو يحيي العبداللطيف ) في أسلوب يُسمى في البلاغة العربية بِ ( التجريد ) يقوم على أن يجرد الشاعر من نفسه نفسا أخرى يبث لها همومه وقلقه:
حتى شكوككَ فيها طهرُ أسئلةٍ ..
في هذا النص يحاول يحيى المثقف أن يعود ليحيى الشاعر في إشارةٍ إلى أن الشك الذي هو مستودع المعرفة وسبيل الحقيقة ، وقد أفضى إلى عزل الشاعر الذي يظهر أنه يعيش حالة التأمل أو التأويل المثالي كما يسميه (ديكارت)وأطلق عليه مصطلح فينومنولوجيا ،فالذات الشاعرة تحاول أن تفهم نفسها بعد أن أعياها فهم الآخر نتيجة للقلق أو الهمّ الثقافي الذي تعيشه جراء القلق على الهوية الثقافية، وهذا واضح في شغب الأسئلة الذي يكتنف شخصيته .
والقارئ لهذا الديوان تلوح له عدة ملامح واسمة تتمثل في :
أولاً : أنه لا ينتمي إلى مشروع كتابي واحدٍ ينتظم قصائد الديوان لا من الناحية الشكلية ولا من الناحية الأسلوبية، فهناك قصائد عمودية وهناك قصائد تفعيلة ، وهناك كتابة على الطريقة الكلاسيكية وهناك على الطريقة الرومانسية وهناك حضور أيضًا للطريقة الحداثية المنضبطة ، لكن الانتماء الحقيقي للشاعر في كتابته والتي هيمنت على كثير من قصائد الديوان هي الرومانسية ، وهذا التنوع يؤشر إلى حقيقة الانفتاح وثراء التجربة لدى الشاعر ، وربما قصد من هذا التنويع في تسلسل القصائد كسر الملل والرتابة التي تعترض القارئ إذا جرت بأسلوب واحد ، وربما كانت مؤشرًا أيضًا إلى ضياع الهوية الأسلوبية ، فأنت عندما تقرؤها في قوله :
أنـا الـنبيذُ الـذي لـم يـكتشف وطنًا
وعندما تقرؤه كذلك في قوله :
أحيا بمنفاها أسير وثوى برأسي يستجير زجًّا بمنعطفٍ خطير
لا شك أنك وأنت تقرأ هذه الأبيات تستحضر النشاط الكلاسيكي بكل تفاصيله وملامحه التعبيرية خاصة عند شوقي وحافظ ،حيث المباشرة والسردية والتقريرية ، لكنك عندما تقرأ هذا النص التفعيلي التالي ستشعر بأن الأدوات تغيرت ودخلت في دهاليز الحداثة التفعيلية واستحضرت السياب ودنقلا ونزارا وغيرهم من شعراء التجديد في القرن العشرين وما بعده ، يقول يحيى في نص تحت عنوان ( خذيني إلى مرسمك ) :
خذيني إلى مرسَمِكْ
سأدخلُ معبدَكِ
المرتمي في الطهارة
أخلعُ نعلَ الفحولةِ
أنزع ُوجهي وكلَّ النياشينِ والأوسمة
وكل انتصاراتيَ المبهمة
أنا البربريُّ الذي جاء من مجده عاريًا إذ يتمتمُ باسمكِ
من صوتهِ المرتبكْ
خذيني إلى مرسمكْ
سأكبر لونا يجيد التعلُّقَ في ريشة من قلق
أقلمِّ موتى لأصبحَ أشهى بروحِ الورق
أميلُ مع الريش أرقب عمري على معصمكْ
خذيني إلى مرسمكْ
ثانيًا : الموسيقى المفرطة وتراجيديا الموقف :
دور الشاعر الحقيقي أن يصنع من الموسيقى موسيقى أخرى فالبيت الشعري بطبيعته نشاط موسيقى منظوم ، ولكي يخرج الشاعر بأبياته من رتابة موسيقى الخليل ( العروض والقوافي ) يعزف على أوتار اللغة ليطرب من خلالها ، وبالتالي يتحدى الموسيقى التقليدية المعتمدة على الحركات والسكنات بموسيقى اللغة المرتكزة على عنصر التجاور والنسب بين الكلمات والتراكيب أو ما يسمى في علم لغة النص ب(التضامّ)، وهنا نؤكد على أن يحيى اعتنى عنايةً فائقة بالموسيقى اللغوية ما يجعلنا نطرب للغته الأخاذة وموسيقاه العذبة ،وقد اعتنى بسبك متين بالأبيات الطالعة في أغلب قصائد الديوان إيمانًا منه بدورها في فتح شهية القارئ من أول الباب ،ويكفي أن نضرب لذلك أمثلة من قصيدة ( إشراقتها الأولى) :
حضورك لا يقاس به حضورُ
ومن قصيدة ( المقنع الكندي ) قوله :
إلى الأهل الذين بي استبدّوا
ومالوا عن مودتِهم وصدّوا
ومن قصيدة ( مغازلة برائحة التوبة ) قوله :
من أيِّ أطراف العتابِ سينتهي
فلك الدموع وكلّ حزنٍ سقتِهة
ففي هذه الأبيات الطالعة كمية هائلة من الموسيقى ليست تخفى .
ويبدو أن الولع بالموسيقى والأغاني الشعبية والعربية التي يستمع إليها يحيى شدَّت على وتر المجاز ، ولذلك نجده أحيانًا يتناصُّ مع بعض الأغاني الصباحية الدارجة وربما جعل عنوان أغنية شهيرة عنوانًا لقصيدة من قصائده ، كما فعل في قصيدة ( ما في حدا ) للفنانة ( صوت الصباح) فيروز :
صوتي سُدى ، وخطاي تلتهم الطريقَ إلى الرّدى
والعابثون على فمي مرّوا على الشكوى صدى
وعلى أصابعي الكلام يزورني متردِّدا
فيروز تكشفني وتبتكر الأغاني مرصدا
( لا تندمي ما في حدا ... ما في حدا ... مافي حدا )
غير أن لحظات الغناء والطرب كثيرًا ما تتحول إلى نغم تراجيدي موجع يفسد لحظات الفرح الكتابي ويطفئ مصباحها الليلي فتدبُّ الوحشة:
في الجانب الغربيِّ من روحي الظلامُ تسيدا
والليل يقطرُ من خيالِ حكايتي متمردا
وفي هذا الديوان الكثير من المواقف العابرة يرصدها الشاعر في قصائده ما يجعلنا أمام شاعر تجريبي سريع الانفعال والتأثر يرصد المواقف ويحوّلها إلى جمال لا يخلو من الخلط التراجيدي :
فالقصيدة توحي في مقامها القرائي الذي قدمه الشاعر مناسبة للقصيدة تحت عنوان ( عَمُّو) ومفاده أن صبيةً في إحدى دور الكتب بادرته بتحية ( أهلين عمو ) رغم أنّه ثلاثيني فكانت هذه القصيدة ، وفي حين يتوقع القارئ ميلاد قصيدة غزلية ضاحكة، لكنه يفاجئه بجرعة من التراجيديا في قوله:
ثم يعود إلى اللحظة الطريفة مرةً أخرى في حوار
تتناوب وتتعدد فيه الأصوات :
فقالت ياغريب فما تُسمّى ؟
فقلت لها : وذلك لا يهمُّ
يسميني الأحبّةُ يا ( سي يحيى )
وما بين الصبايا صرتُ ( عمّو )
ثم ما يلبث أن يعبِّر عن نقدٍ لاذع لدور الثقافة مجموعة من التساؤلات حول دور المثقف وزمن الثقافة ، كل هذه الأسئلة المتدحرجة يترجمها على لسان هذه الفتاة في أسلوب ذكي وحوار مسرحي ساخن يتنازل فيه المؤلف / الشاعر عن دوره في نقد الثقافة المعاصرة ، ويخفي صوته تماما كما يفعل الروائيون؛ ليعفي نفسه من المواجهة مع المثقفين كل ذلك يتم بعد عبارة ( ويقال إنها ردّت ) :الإنساني، فيقدم
هذه الأبيات الموجهة ضدَّ دور الثقافة والفلسفة في نظم الحياة والإنسانية تكتب بتقنية سردية تسمى في السرديات الحديثة بالأصواتية أو ( تعدد الأصوات ) حيث منح الشاعر التلفظ لهذه الفتاة في إبداء هذه التساؤلات ضد الثقافة والمثقفين ، وقد صنع بهذا الأسلوب كائنًا خطابيًا في مقابل الكائن التاريخي وهو الشاعر، لكن المتلقي يدرك جيدًا أن وجهة النظر في الشعر ذاتية وأن موطنها النصي ليس أقوال الشخوص أو الأشياء وإنما في خطاب الشاعر ( الذات المتكلمة ) ، فهي لا يمكن أن تعيش خارج ملفوظها أو أن تُعفى عن مسؤولياته ، وذلك لأنّ أي مقطع خطابي كما ترى ( أوركيوني ) يحوى بدرجات مختلفة بصمات من تَلَفَّظَ به .
على أنَّ هذا النقد الموجّه للثقافة والفكر والفلسفة ، مسكون برهانات النظرة المباشرة أو اللحظة الراهنة ، وإلَّا فأكثر المثقفين والفلاسفة الحقيقين عبر التاريخ هم من البسطاء .
ثالثًا : الذات الملوَّنة أوالذات المنشطرة :
في عالم الكتابة لا يمكن للذات أن تتوارى أبدًا ؛ لأننا عندما نكتب نستهدف رصد ذواتنا بمختلف المشاعر والمواقف تجاه قضية ما ، وفي عالم الشعر يتكرَّس مفهوم الأنا ، وذلك لأن عالم الشعر يحلق على جناح التخييل والمجاز ، فالأنا لا بدَّ أن تحضر بقوة في كل شعر جميل .
وفي هذه النصوص لا يستطيع القارئ أن يقبض على لون واحدٍ للذات ، فهي تتلون وتتشظّى ، تأخذ مواقف نقدية تجاه قضايا راهنة ، وأحيانًا تكتفي بنشوة الإبداع ، وأحياناً ...
وفي المجمل يمكن أن نرصدها في ثلاثة مسارات :
أ - الأنا المبدعة : وهذه الأنا عادة ما تتلمس ذاتها في مواطن الإبداع وتنتشي بفتوتها الشعرية ، وبواكير الإبداع لديها، وهو نسق فحولي يمارسه الشعراء منذ القدم لإشهار صوت التجربة وإعلاء نبرة التحدي في عالم الكتابة ،ونلمح هذه الأنا متكاثرة في شعر الفخر عامة وعند المتنبي بشكل خاص(أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي، أنا الصائت المحكيّ.....) ومن ذلك قول يحيى:
وكذلك قوله :
مــالـي أراهـــم لا أراهــم إنّـمـا
ب - الأنا التقابلية : وهذه الأنا تضع نفسها في متباينة أنا أو نحن لا نساوي هم ، وهي ( أنا ) تشفُّ عن حالة نقدية يصعب تدشين لحظاتها جماليًا ، وتتخذ هذه الأنا وجهين هما :
· الأول الأنا المتراجعة وتمثلها قصيدة ( ناي علي مصبِّ الدم ) كتبها للمتشبثين بالجمال :
وهذه الأنا يمكن أن أسميها بالأنا المتراجعة التي تستدعي الغابر وترمي عليه أوجاع الحاضر.
· الثاني : أنا متخاصمة مع المجتمع بكل رواسبه التاريخية والثقافية ومتصالحة مع خياراتها :
متفردٌ عنكم بأف فأنا تجاوزتُ المدى كلُّ الذين قرأتهم
عشْ والحياة برسلِها
كاري التي كم تستثير بعدًا عن السجن الصغير
ما خلَّصوكَ لتستنير لستَ المبشِّرَ والنذير
ج - الأنا المتطامنة :
وهذه الأنا متواضعة تعرف كيف تصاد عشيقها بالتذلل والتسكع على عتبات الحب والغرام :
فسيّجيني بصوتٍ منكِ يمنحني أنا الذي عمره نقشٌ على وجعٍٍ لا يطلب الصبُّ حبًّا لا يليق به
دفءَ الحياة لأحيا الآن أروعها إن مرّ في خاطر العشاقِ أوجعها يكفي خطاك على روحي لأسمعها
ويتضح من خلال هذه الأنا المنشطرة أنها تخلق ثنائيات ودلالات متناقضة أحيانًا في جسد الديوان ، وأحيانًا في جسد القصيدة الواحدة ؛ما يجعلنا نظن بأن جزءًا من مصادر تكوين ثقافة الشاعر سمعية انفعالية وتأملية وليست قرائية بالدرجة الأولى ، لكن قدرة الشاعر على هذا السبك المتين وتدشينها في هذا العزف الراقص والمؤلم في نفَس ٍنقدي رصين أحيانًا ، وعاطفي أحيانًا أخرى يجعل من الدكتور يحيى شاعرًا في مصاف شعراء الأحساء الكبار رغم انشغاله بقيد البحث العلمي الدراسات العليا .
فكل شيءٍ في هذا الديوان الملتهب عاطفيًا يريد أن يكتمل ، أن يسمو ، لكنه يقف قبل القمة بعتبة واحدة سيطؤها قلم الشاعرلكن بشيءٍ من الحذف والتنقيح يطال هذه الوفرة ، فلم تعد القصيدة في زمن السرعة تميل إلى النظرية الكمية .
جديد الموقع
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد
- 2024-11-21 القراءة للكسالى
- 2024-11-21 القراءة واتباع الأحسن
- 2024-11-21 روايات أسامة المسلم بين جيلين.
- 2024-11-21 ( غرق في المجاز، مَجازٌ في الغرق ): قراءة في ديوان الشاعر جابر الجميعة
- 2024-11-20 الدكتور عبدالمنعم الحسين يدشن حملة التشجير الثالثة ببر الفيصلية