2021/06/06 | 0 | 4042
الظاهرة الطهرحمانية في الفلسفة
المتابع للمشهد الفكري في عالمنا العربي، خصوصاً في الشأن الفلسفي، يرى أن هناك قلة في الإبداع والإنتاج في مقابل التقليد والتبعية بسبب المثاقفة مع المشهد الفكري والفلسفي في العالم الغربي. وأن المشتغللين على الفلسفة هم في الواقع شُرّاح ومترجمين وليس فلاسفة او متفلسفين. حتى أننا نرى مفكراً مثل علي حرب يذكر إنه في عالمنا العربي لا يوجد فيه من يستحق لقب فيلسوف سوى اثنين وقد سماهما بالاسم.
في ظل هذا الركود الفلسفي يبرز لنا فيلسوف استطاع أن يسلك منهجه الخاص في الفلسفة والمنطق، وأن يجدد ويبدع بدلاً من أن يقلد ويتبع وأن يُكّون لغته الفلسفية والمنطقية الخاصة به ألا وهو طه عبد الرحمن الفيلسوف المغربي. حيث استطاع طه أن يوجد ويؤسس لغته الفلسفية الخاصة وأن يجدد منطقه الخاص، وكيف لا وهو أبرز المناطقة والمتفلسفين في وقتنا الحاضر. وإن المتتبع والقارئ لإنتاج هذا المفكر يرى أنه يكتب بلغة غير معتادة للقارئ. فلماذا؟
يجيب طه على هذا في عدة وجوه إحداها أن مستوى الإبداع الفلسفي ومستوى التنظير لهذا الإبداع مختلفان فليس من ينظر للشئ كمن يأتي بهذا الشئ نفسه. وعليه يبين طه إنه قد تكون لغته التي يضع بها نظرية في الإبداع الفلسفي في غاية الدقة المضمونة والتقنية الاصطلاحية، لكن لغته في وضع فلسفة مبدعة ليس فيها مثل هذه الدقة ولا فيها مثل هذه التقنية، بل قد تكون قريبة ومألوفة هذا ولو أن الفلسفة اشتهرت عموماً بكونها لغة خاصة وإنه لم يشتغل في مؤلفاته بوضع فلسفة خاصة بقدر ما اشتغل ببيان الطريق الموصل إلى وضعها متى أراد العربي أن يكون متفلسفاً اصيلاً، فإن لغته هي لغة علمية أقرب منها إلى اللغة الفلسفية، واللغة العلمية لغة خاصة.
كما وضح طه أنه لا ينفر من شئ مثل نفوره من الألفاظ والتعبيرات التي دارت على الألسن إلى أن صارت مبتذلة لا طرافة معها، وبسيطة لا جودة فيها، لا سيما تلك التي لا تكون من إبداع الأمة، وإنما هي تقليد لغيرها. لذا نجده لايفتأ يطلب من الكلمات والتراكيب، لا الغريب الذي ينفر منه الطبع أو يمجّه السمع، وإنما السليم الذي يبعث على الدهشة. كأنه يجري على عادة بعض الأدباء والفلاسفة في عشق الكلمات الأبكار التي لم تفضها ألسنة اللاسنين، ويرجع هذا إلى ممارسته في وقت مبكر للشعر واهتمامه بعجائب اللغة.
وفي أهم إجابة له في نظري إنه وجد أن اللغة الفلسفية في الكتب العربية الحديثة فقيرة جداً وسجينة للترجمات التعسفية التي لا تستخدم أي قدر من المجهود الفلسفي في وضع أو إيجاد المقابل العربي لها، والواجب في المقابل الفلسفي أن يوضع بفلسفة. لذا يقول "القول الفلسفي ليس خطاباً فحسب، بل هو أيضاً بياناً فالأصل في القول الفلسفي أن يوضع باللسان الذي يتكلمه المتلقي ولا يصار الى نقله من لسان غيره إلا بدليل"، وإلا فهو مقابل بلا جدوى من ورائه. حيث إنه يرى أن هذه الترجمات التعسفية شلّت المنطق الداخلي للغة الفلسفية العربية، وقطعت عنها كل دينامِيَّة تأتيها من ذاتها. لذلك عقد طه العزم في نفسه على أن يوسع هذه اللغة وأن يحرر منطقها الداخلي، وأن يجعل ديناميتها الذاتية تنبعث من جديد.
لذا نرى طه يوظف الامكانيات الاشتقاقية والدلالية في اللسان العربي من غير أن ينسج على منوال اللغة الأجنبية، أو تلك التي نسج عليها أغلب المتفلسفة في الساحة العربية. وعمد على استخراج صيغ تعبيرية واستدلالية من التراث ثبت عنده بالدليل أنه لايوجد مايضاهيها في اللغة الحديثة من حيث الاجرائية المنطقية والأداء للمعاني الفلسفية. كل هذا مع الالتزام بالشروط المعرفية التي يختص بها عصرنا المتجدد وايضاً مع استيفاء للمقتضيات البيانية التي يختص بها اللسان العربي. طه "لا يفهم لغتي الا من كف عن التوسط باللغة الاجنبية ودخل رأساً في جلدته العربية".
كما يمتاز طه بالكتابة الاستدلالية، التي هي ليست كتابة سردية أو تاريخية أو تقريرية، وإنما هي كتابة تنسيقية. ويُقصد بها الكتابة التي كانت وما زالت تأخذ بها الممارسة الفلسفية البنائية أو التركيبة. وقد تكون هذه الطريقة بسبب اهتمام طه بعلم الاصول لدى المسلمين. لذا نجده يؤكد أن الكتابة لا يباشرها صاحبها حتى يكون على علم عن الموضوع الذي يريد أن يكتب عنه، اذ ذاك ما ينبغي أن يقدمه من أصول وما ينبغي أن يأخره من فروع، وأن يقدم بالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضاً، وحتى يهتدي إلى طريقة توالد بعضه من بعض ويقف على الادلة التي برهن عليها انطلاقاً من مقدماته. والقارئ لطه يجد أن كتاباته مكتوبة بطريقة استدلالية كأن الواحدة منها نسق مستقل بنفسه.
بهذا يوضح طه إنه لا يدخل في الكتابة الا بعد أن يكون قد حصّل موضوعه تمام التحصيل، ولا يتبقى الا ان يقدمه عقلياً للقارئ أي على مقتضى العلم. أما طريقة اكتشافه لحقائق موضوعه كاهتدائه إلى هذه الحقيقة أو تلك أو لهذا السبب أو ذاك فيحتفظ بها لنفسه، لأن الذي يهمه بناء العلم وليس مرحلة الاكتشاف التي تهم تاريخه، أي العلم على الأكثر، والذي يهم هو الاستدلال.
ويَعيب طه على الكتابة الفلسفية المعاصرة، وهو اتباع طريقة الاكتشاف، لذا يقع أصحابها في التأريخ للأفكار بدل التأسيس لها، لأن الطريق الاستدلالي أجهد للنفس من الطريق الاكتشافي لأنه ثمرة عمل ثان من فوق عمل أول، وأجهد للعقل منه لأنه يحتاج إلى فهم ثان من قبله فهم أول. ويقول عن العرب نريد أن نكون أحراراً في فلسفتنا، وليس من سبيل إلى هذه الحرية إلا بأن نجتهد في إنشاء فلسفة خاصة بنا تختلف عن فلسفة أولئك الذين يسعون بشتى الدعاوي أن يَحُولوا بيننا وبين ممارستنا لحريتنا الفكرية.
ومما يشار إليه أن إبحار طه عبد الرحمن وتعمقه وسبره أغوار الفلسفة والمنطق والترجمة ولغته الخاصة في هذه الحقول المعرفية مكنته من تقديم وانتاج قراءات جديدة ومبتكرة. لذا قلة من يطمحون في إنتاج فلسفة عربية في عالمنا العربي المعاصر ممن هم أمثال طه عبدالرحمن.
جديد الموقع
- 2024-11-22 عادات قرائية مفيدة
- 2024-11-22 مع أن الأديان تتحدث عن قيمة التواضع الفكري، لكن قد يصعب على رجال الدين بشكل خاص تطبيق ما يدعون إليه الناس
- 2024-11-22 يرجع الفضل في استمرارك في تذكر كيف تركب دراجتك الهوائية إلى منطقة المخيخ في دماغك.
- 2024-11-22 نظرة على البنوك في المملكة.
- 2024-11-22 المخرج الشاب مجتبى زكي الحجي يفوز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان غالاكسي السينمائي الدولي35
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد