2023/04/27 | 0 | 909
التحفة والإذعان الميتافيزيقي
ذات مساء سقطت من يدي تحفة جميلة ، كنت قد استعرتها للتو من أحد أصدقائي ، ليس من الصعب عليك عزيزي القارئ أن تتخيل كيف استحال كل ذلك الجمال والكمال إلى شظايا وانشطافات لا تسر الناظرين .
حاولت التهرب من ذلك الواقع المُحرج ، فدخلت مكتبي ، متجهاً لحاسوبي ، محدّقا في شاشة الأسهم ، علني أظفر بربح ، أكفّر به عن غير المقصود من خطأي بشرائي لصاحبي بديلاً لما أتلفته .
لم يطل الأمر كثيراً قبل أن أعي بأن مصيبةً أخرى حطّت بوزرها على سابق مصيبتي حينما وجدت أسهمي قد هبط سعرها من 6000 إلى 2500 ريال .
الآن دعوني أتوقف عن سرد التفاصيل لكي أرحل معكم عبر هذا المقال إلى داخل ذهني فأشارككم مادار واعتمل هناك من تساؤلات وأفكار وكيف قادني التأمل في مصير التحفة إلى الإذعان ، والإيمان بضرورة الماوراء .
بمجرد أن تحررت من سطوة مشاعري البائسة رحت أحادث نفسي : لاشك بأني تألمت لما آل إليه جمال التحفة الشكلي وكمالها المعنوي حينما تحولت إلى شظايا غير متجانسة ، ولكن ترى أين فرّ كل ذلك الجمال والكمال إذا كانا يسكنا في مادة التحفة ، وسنخهما من سنخ المادة ذاتها ؟ فهل فقدت التحفة بعد أن تحطمت إلى أجزاء طبيعتها المادية ؟
أم أن الكمال والجمال لم يكن لهما وجود إلا في ذهني فقط ، وفي فكرة وشكل التحفة ذاتها بعيداً عن مادتها ؟
في تلك اللحظة ، اعترتني دهشة عظيمة ، لأنه حتى أرقام الشاشة بدت لي كحقيقة مغايرة . في لحظتها تنبهت إلى أن تلك الأرقام ليست أكثر من إشعاعات ضوئية أو موجات كهرومغناطيسية ، وليس لطبيعتها البريئة أدنى صلة بمعاني أي من الربح والخسارة والاستثمار ، والتي قد لا تسكن كوجودات ولا تثوي إلا في بنيات وعيي الذاتي .
وحتى عندما أعدت التأمل في عملية وعييي على أنها حاصل عمليات كيميائية تتم في مكونات دماغي فقط ، فإني لم أجد في ميكانيزماتها المادية مايفسر كيف تتشكل مفاهيم من قبيل : الجمال والكمال والربح والخسارة والتواصل والوجاهة والانتهاز … ، فضلاً عن تصنيفها مابين قِيم ارتقاء وانحطاط !!
فهل عسانا نقول ، ودون أن يرّف لنا جفن بأن المادة هي المسؤولة عن ذلك كله فحسب !! مثلاً ، هل سيكفينا أن نقول بأن المادة هي المسؤول الأول والأخير عن إدراك المادة لماهيتها المادية ، ثم تسميتها لنفسها بالمادة تمييزاً لذاتها عما سواها .
هل يمكن أن نقبل بهذا المستوى من السخف في التفسير بعدما قطعنا كل هذا المشوار من التأمل !!
ربما من الأجدى لنا أن نقبل بأن وجود القِيم بحَسنها وسيئها وجود مُستبطَن في تكويننا الإنساني ، دون أن نفتي بطبيعة ذلك الوجود . كل مانعرفه بهذا الخصوص أننا إزاء وجودات محايثة لوجودنا لا نستطيع أن نتجاهلها ، أو نختزلها في بعد مادي كما أسلفنا .
ولعلّنا نذهب إلى ماهو أكثر فنقول : بأن تلكم القيم على اختلاف مستوياتها ودرجاتها هي مايفسر دافعية الإنسان ، ومصدر إلهامه مؤمناً كان أو ملحداً ، لكي يتلو ترانيمه ، أو ينهض من مهجعه لإطعام أطفاله ، أو لكي يعاني الأمريّن في سبيل غاية ما ، شريفةً كانت أو خسيسة ، فيضفي على وجوده القيمة والمعنى .
وإذ نتكلم بكل هذه الثقة ؛ فلأن المنطق يساعدنا على ذلك ، حيث أنه ليس من المنطق أن يحرص عبثي أو عدمي على وجود لا يحمل أي قيم .
وآية ذلك أنه حتى لو اصطففنا مع بعض الاتجاهات الفكرية المتطرفة والتي تنزع أي قيمة أو معنى عن الوجود فإن نزوعنا القِيمي سوف يفضحنا ويعرينا .
فهل نستطيع مثلاً أن نساير فلاسفة الفوضى في موقفهم العدمي من المعرفة ، ثم نبذل من الجهود مايؤسس لولادة كتاب "ضد المنهج" كما وأن فعل بول فايرباند !!
أو هل نستطيع أن نمشي في حذاء أساتذة اليأس وموقفهم العبثي من الوجود ، ثم نبذل من الجهود مايهدف إلى إيصال مضامين مسرحية " في انتظار قودو " كما وأن حدث مع صمويل بيكيت !!
وهل يمكن أن نتبنى موقف أصحاب المذهب المادي في نظرتهم الميكانيكية للكون ثم ندافع عن الداروينية الاجتماعية كما حدث مع هربرت سبنسر في العصر الفيكتوري الوسيط ، ونحن نتجاوز احتمالية أن يكون الوجود المادي في ذاته شيء ، وتفسيره ومايحمله التفسير من قيمة شيء آخر مختلف تماماً ، مهما بدى بينهما من وثاقة صلة .
إن صحّ تأويلي والله أعلم ، فإن صعوبة تصورنا لوجود من دون قِيم هو التفسير الكانطي للاستدلال على الميتافيزيقا من نافذة الأخلاق والقِيم ، فالميل والإذعان والتسليم بوجود الله سبحانه لديه لم يأت من فراغ أو من حسابات عقلية رياضية ؛ بقدر ما هو منبعث من أزمة أنطولوجية ، وهي انطولوجيا القِيم .
في تلك الأزمة نذعن في وجودنا لوجودات ذات طبيعة متفردة ( القِيم ) ، في الوقت الذي يستعصي علينا فهمها أو استكناه ماهيتها ، خاصةً عندما يرفع العلم أمامها رايته البيضاء ، ويعلن العقل بلوغ حدوده ، هناك ، وللتمسك بوجود قِيمي ، لامخرج من الأزمة سوى الإذعان الميتافيزيقي .
جديد الموقع
- 2024-07-21 الأسس البيولوجية للجاذبية والعلاقات الرومانسية
- 2024-07-21 اختتام حملة بر النجاح بحصاد 395 كيس دم وتكريم والدة إعلامي وأصغر مصور
- 2024-07-21 سمو الأمير سعود بن طلال بن بدر يطلع على الخطة التنفيذية لموسم صرام تمور الأحساء 2024م
- 2024-07-21 مجلس الجمعيات الأهلية يدشن " ديم للمنح التنموي"
- 2024-07-21 بقوام متين يستند على رؤية 2030: السعودية: سوق منافسة وتدفقات لا تعرف التوقف
- 2024-07-21 أمير الشرقية يستقبل منسوبي فرع وزارة الاستثمار بالمنطقة
- 2024-07-21 نائب أمير الشرقية يستقبل منسوبي فرع وزارة الاستثمار بالمنطقة
- 2024-07-21 النيابة العامة تطالب بعقوبات مشددة على وافدين لغشهم في منتجات غذائية
- 2024-07-21 جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تبدأ استقبال طلبات الالتحاق الإلكتروني غدٍ الإثنين عبر بوابة القبول الإلكترونية والأجهزة الذكية
- 2024-07-20 الفتيات ومحرم الحرام