2009/09/05 | 0 | 2478
سيد البطحــــــــــــاء
لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) منذ أول يوم من بعثته الشريفة يحرص على نشر الدعوة بشكل كبير وملحوظ، وسعى جاهداً أن يرشد الناس إلى الطريق المستقيم، وبذل قصارى جهده في ذلك المجتمع القرشي المكي الذي كان هو أحد أفراده، وعاش في وسطه، وقد دعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان يتمنى أن يسلك الجميع طريق الهداية، لكنه فوجئ بذلك المجتمع، فقد كان أشد الناس في الوقوف في وجهه لصده عن السبيل، ولم يتوانوا في محاربته وأذاه، بل إنهم حرضوا كل من أتى إلى مكة، على أن يقف معهم في وجه النبي (صلى الله عليه وآله). وقد كانوا قبل البعثة يفتخرون برسول الله (صلى الله عليه وآله) وينعتونه بالصادق الأمين.
كانت مكة المكرمة منطقة تجارية مهمة، وكان الكثيرون يتوجهون إليها بهذا اللحاظ، صحيح أن فيها البيت الحرام، لكن الكثير كان يأتي بلحاظ الحركة التجارية، فهي أكبر مركز تجاري قبل الإسلام، وكانت ملتقى القبائل العربية، فكانت قريش تتفاخر برسول الله (صلى الله عليه وآله) وتتباهى بأنه الصادق الأمين، ومن حقهم أن يتفاخروا، لكنه ما إن جاء بالدعوة إلى الإسلام حتى وقفوا في وجهه، واجتهدوا في صد دعوته، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتمنى من هذا المجتمع، الذي قدّر صفة الصدق، وثَمّن الأخلاق، أن يكون أول من يلتحق بهذه الدعوة وينصرها، ولكن الأمور جرت خلاف ذلك، ووقفوا أمام دعوته وحاربوه.
ولكن الكثير من القبائل كانت تتناقل أخبار رسول الله قبل الدعوة، وتُعجب بصفاته الشخصية ومنزلته عند قومه، وقد فوجئوا بعد البعثة بموقفهم منه بعد ظهور الدعوة، وكانت قريش بنفسها تتزعم المواجهة وتحارب هذه الشخصية العظيمة، فكانت الصورة لدى القبائل القادمة إلى مكة غير واضحة، فقد كانت قريش بالأمس القريب تنعته بالصادق الأمين، واليوم تصفه بالساحر الكاهن! سرعان ما انقلبت هذه الأوضاع وتغيرت الأوصاف.
وكان رسول (الله صلى الله عليه وآله) يتألم ويتأذى من هذه المواقف المتناقضة، لا لسبب شخصي ذاتي، إنما لشدة حرصه على مجتمعه وأبناء قومه، فالدعوة كانت واضحة، وهي رسالة خير ونور، فلمَ لا يتقبل المجتمع ذلك الخير والصلاح والرشد؟! كان يتمنى لهم ذلك، إلا أنه اصطدم بأقطاب قريش تعارض الدعوة وتحاربها.
لقد أحببت بهذه المقدمة أن أبين أن الآية الكريمة التي ذكرتها أولاً، جاءت بهذا الصدد ومن يراجع التاريخ الإسلامي منذ الصدر الأول للإسلام، يلاحظ ما كان يعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما كان يتمنى لمجتمعه وأبناء قومه، وهذه مسألة طبيعية عقلية، لأن أي إنسان يتمنى لمجتمعه الخير، وأن يكون متميزاً متصدراً في كل النواحي القيمية. فنحن مثلاً نعيش في هذه القرية، وكلنا يتمنى أن يكون من فيها متفوقاً في كل شيء، في الوظائف والدراسة والتجارة وفي كل شيء، فكيف بالنبي (صلى الله عليه وآله) وهو الرحمة التي بعثها الله للعالمين؟! لقد كان يتألم ويتأذى لذلك كثيراً، فهو يحب قومه ويريد لهم الخير، لكنهم يقابلونه بالحرب والمواجهة. حتى بلغ به الحال أن يقول: «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»( ).
ومع ذلك كله كان يحبهم ويستغفر لهم، فيقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»( ).
فهذه الآية جاءت لتعرض أمام النبي (صلى الله عليه وآله) هذه الحقيقة، وهي أنك وإن كنت تحبهم وتحرص على هدايتهم، لكن الأمر ليس بيدك، فإن القاسم المشترك بين جميع الأنبياء هو السعي لهداية الناس، وقد كانوا جميعاً يريدون الهداية لمجتمعاتهم وأقوامهم أولاً، ليكونوا المنطلق لدعوتهم ورسالتهم، لكن المتتبع لحياة الأنبياء والرسل يرى أنهم كانوا يعانون كثيراً من مجتمعاتهم، ويقاسون الكثير من أقوامهم وأممهم، إلا أنهم لم يهنوا، ولم يتوقفوا عن هداية الناس وإرشادهم.
إننا نلاحظ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى بعد انتصاره في فتح مكة، كان لا يدخل في أية معركة إلا أن يرشد الطرف المقابل ويعظه وينصحه ويحاول هدايته، لأنه رحمة للعالمين.
وكذلك نلاحظ هذا الأمر بوضوح في حياة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ففي حرب صفين، لما خرج صلوات الله عليه لحرب أهل الشام، نجد أنه لم يبدأهم بقتال، حتى أن الكثير ممن كان معه كان يقول له: هل جئنا من الكوفة لكي نسكن هنا؟
لقد كان علي (عليه السلام) نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكل تحركاته تحركات رسول الله، فالهدف واحد والغاية واحدة، ومعركة بدر وصفين تتجهان في ذات الاتجاه، وتسيران في نفس الخط، وهكذا الأحزاب والجمل، والخندق والنهروان، لا تختلف إحداهما عن الأخرى في الأهداف والغايات.
انظروا إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) لما توجه إلى اليمن، بم كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوصيه؟! كان يوصيه بأن يهدي القوم ويرشدهم إلى طريق الصواب.
هكذا كان الحال مع النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) وكان أكثر وضوحاً مع الإمام الحسن (عليه السلام) فإن الكثير خرج معه لمصالح شخصية، ولو أنه واصل السير في طريق القتال لسلموه إلى معاوية، لكنه صبر وتحمل وحاول هدايتهم والحفاظ عليهم.
سيد البطحاء
ومما يتعلق بهذه الآية الشريفة والمباركة، أنها وضعت في غير موضعها، وفسرها البعض على غير حقيقتها كما سيأتي.
وفي هذه الأيام تمر علينا ذكرى وفاة أحد أوصياء الأنبياء والرسل، ألا وهو أبو طالب عليه الرحمة والرضوان، هذه الشخصية الكبيرة التي بذلت كل ما تملك لأجل هذا الدين.
تمر علينا في السابع من شهر رمضان المبارك ذكرى وفاة هذه الشخصية العظيمة، إنه مؤمن قريش، الذي كتم إيمانه كما كان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه. لكننا نرى
ـ مع شديد الأسف ـ أن الكثير من خطبائنا قد لا يلتفت لمثل هذه المناسبة، فأرجو أن لا يصل بنا الحال إلى هذا الحد، بحيث نهمل المناسبات المهمة والحيوية في تأريخنا. لا سيما أن المنبر الحسيني يمثل لنا مدرسة مهمة، فأتمنى أن يركز على هذه المناسبات بالخصوص، لأن لها اليد الطولى في استمرار الدعوة، وديمومة الرسالة.
لقد حاول الكثير من المفسرين من مدرسة الصحابة، أن يربط هذه الآية بمؤمن قريش أبي طالب عليه الرحمة والرضوان، ولكن هناك من علماء هذه المدرسة من خالف هذا الرأي، وهو الفخر الرازي، حيث لم يذهب إلى ذلك، لأن الآيات التي قبلها ليست في صدد الحديث عن شخصية معينة، إنما كانت تشير إلى المجتمع الذي كان يعيشه رسول الله صلى الله عليه وآله.
نعم، حاول الكثير من المفسرين في مدرسة الصحابة أن يفسروا الآية بأنها تعني أبا طالب، وأنه مات مشركاً، والحال أن إيمان أبي طالب لا يحتاج إلى دليل وإثبات، إنما كان واضحاً جلياً منذ الصدر الأول للإسلام، فأقواله وأشعاره ومواقفه تؤكد ذلك وتشير إليه، لذا كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) والعلماء من بعدهم يوصون أتباعهم بتعليم الأولاد شعر أبي طالب (عليه السلام)( ) وقد كان له حوالي ثلاثة آلاف بيت من الشعر، الكثير منها حول نبوة النبي (صلى الله عليه وآله).
وهناك بعض الروايات، تشير إلى أنه كان وصياً من الأوصياء( )، ولعله آخر وصي قبل بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فلم يكن أبو طالب عليه الرحمة شخصية اعتيادية حتى تذكر بهذا الاستصغار، إنما هو شخصية فذة فريدة، كانت أحد الأسباب الأساسية في ثبات واستمرار الدعوة الإسلامية.
يقول رضوان الله عليه في بعض أشعاره:
ألم تعلموا أنّا وجدنا محمداً رسولاً كموسى خُطّ في أول الكتب
ولعل هذا البيت لا يفوقه غيره من الأبيات في تجسيد شخصية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد كانت مسألة إيمانه واضحة وجلية، ومن أوضح الدلائل عليها:
1 ـ أشعاره الكثيرة في الإقرار بالنبوة ومدح النبي (صلى الله عليه وآله)( ).
2 ـ مواقفه في نصرة النبي (صلى الله عليه وآله). ففي بداية الدعوة كانت مواقفه واضحة وصريحة في نصرة الدعوة، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) لما تأذى من صناديد قريش جاء إلى عمه العباس، وكان حصيف الرأي، فقال له العباس: ائت عمك أبا طالب، فادعه، ففعل، فاستبشر أبو طالب وفرح، وقال له: اخرج يا ابن أخي، فإنك الرفيع كعباً، والمنيع حرزاً والأعلى أباً. فكانت أول كلمة من أبي طالب عليه الرحمة بعد ما أنبأه رسول الله بالدعوة.
3 ـ إجماع أهل البيت (عليهم السلام) على إيمان أبي طالب، وهذا يكفينا في الاطمئنان بإيمانه، فلماذا يصد الآخرون عن أقوال أهل البيت (عليهم السلام)، وفيهم الحسن والحسين (عليهما السلام)، وهما من الصحابة عندهم؟
4 ـ هناك مسألة شرعية فقهية لها علاقة وثيقة في الاستدلال على إيمانه رضوان الله عليه، فالجميع يعلم أن الله تعالى، وفي أول الدعوة الإسلامية، أمر نبيه أن لا يجتمع مسلم مع مشركة، ولا مشرك مع مسلمة، فمن أسلم وكانت زوجته مشركة وجب عليه أن ينفصل عنها، ومن أسلمت وكان زوجها مشركاً، وجب عليها أن تنفصل عنه. وقد كانت فاطمة بنت أسد ـ بإجماع المؤرخين ـ من السابقات للإسلام، وكانت زوجة أبي طالب، فهل يمكن أن يترك النبي (صلى الله عليه وآله) هذه المسلمة تحت رجل مشرك كما يدعى؟
لعل قائلاً يقول: إن رسول الله لم يأمر بانفصالهما؛ لأن أبا طالب كان عمه، ولم يشأ أن يغضبه، فهل يمكن لأحد أن يتصور أن النبي (صلى الله عليه وآله) يعطل حكماً شرعياً من أجل قرابة؟ إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم تكن تأخذه في الله لومة لائم. فليس هناك من تبرير لذلك سوى أن أبا طالب كان مؤمناً، بل من خيار المؤمنين.
ومن المؤسف أن أصحاب المدرسة الأخرى لم يتطرقوا لهذا الموضوع أصلاً، مع أنهم ذكروا بعض الأمور المتعلقة بأبي طالب، مثل حماية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالوا: إن دعوة النبي كان فيها وجاهة ومكاسب أخرى، لذا عاضد أبو طالب ابن أخيه وأيده؛ لكي ينال منصباً أو وجاهة.
هذا ما أحببت أن أبينه في هذه الجمعة المباركة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.
جديد الموقع
- 2024-04-23 كل ما تملكه ليس لك
- 2024-04-23 الملتقى الثاني للتعريف بالماعز القزم بالمطيرفي
- 2024-04-22 بعد أن تتعرض للإهانة، اكتب مشاعرك على قصاصة ورق ثم تخلص منها وهذا من شأنه أن يحد من مستوى شعورك بالغضب
- 2024-04-22 مراعاة الزمن مع الأسئلة في اختبارات أعمال السنة
- 2024-04-22 نظرية أثر الفراشة في 80 لوحة تشكيلية
- 2024-04-22 احتفالية توقيع كتاب تنتهي بتوصية استثمار جبال الأحساء
- 2024-04-22 المريحل تحتفي بعقد قران نجليها ( حسين وحسن )
- 2024-04-22 رشفة من الإبداع ونور الحياة في النورس الثقافي بالاحساء
- 2024-04-22 أمير المنطقة الشرقية يزف 7784 خريج وخريجة من جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل من الدفعة الخامسة والأربعون
- 2024-04-22 وزير التعليم يهنئ القيادة بمناسبة فوز طلبة المملكة بـ 138 جائزة وميدالية عالمية في معرض جنيف الدولي للاختراعات