2020/04/17 | 0 | 4079
إشارة تأمل أخري
تلقيت بعد الإشارة السابقة اتصالات حولها، منها ما يؤمن عليها، ومنها ما يتمنى لو كنت قد تناولت خلالها تلك المصطلحات التي كانت إحدى خلفياتها، ومنها ما يشير إلى تجارب ومشاريع كتابية في هذا الصدد، مما أجد تقييمه والاستفادة من كل منه بحسبه من دواعي التطوير، مع كوني لا أزال أجد اختصرها مناسبا لسياقاتها. وأجد اليوم إلحاق تلك الإشارة بإشارة أخرى لأمر ذي علاقة بموضوعها بل بكل اختلاف ذا جدوى، وهو أمر نفسي له تأثير أساسي على نجاح أو عدم نجاح حواراتنا، بل إن تأثيره يمتد إلى أوضاع اجتماعية تتأثر بتلك الحوارات، وتؤثر في مسيرتها. وقد رأيت أن مما يسهل علي الاختصار الذي انتهجته في الإشارة الأولى أن ألجأ للتقديم بالتمثيل، فاخترت أمثلة ثلاثة، اثنان منها من سيرة الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، والثالث تعمدت اختياره من سيرة قامة أحسائية معاصرة، مساهمة مني في بث روح الأمل في مجتمع ينتمي لثقافة تألق خلاقة، ويشتمل واقعه على واقع جلال فيما نحن بصدده، فضلا عن مجالات أخرى غيره: المثال الأول:
نقل عن محمّد بن سنان، عن المفضّل بن عمر أنّه قال: كنتُ ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة بين القبر والمنـبر، إلي أن قال: فقـال ابن أبـي العـوجـاء لصاحـبه: دَعْ ذِكْـرَ مُحَمَّدٍ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فَقَدْ تَحَيَّرَ فِيهِ عَقْلِي، وَضَلَّ فِي أَمْرِهِ فِكْرِي، وَحَدِّثْنَا فِي ذِكْرِ الاصْلِ الَّذِي يُمْشَي بِهِ !
ثُمَّ ذَكَرَ ابتِدَاءَ الاَشْيَاءِ وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ بِإهْمَالٍ لاَ صَنْعَةَ فِيهِ وَلاَ تَقْدِيرَ، وَلاَ صَانِعَ لَهُ وَلاَ مُدَبِّرَ، بَلِ الاَشْيَاءُ تَتَكَوَّنُ مِنْ ذَاتِهَا بِلاَ مُدَبِّرٍ، وَعَلَي هَذَا كَانَتِ الدُّنْيَا لَمْ تَزَلْ وَلاَ تَزَالُ !
قال المفضّـل: فلـم أملـك نفسـي غضـباً وغيظـاً وحنـقاً، فقـلتُ: يا عدوّ الله ! ألحدتَ في دين الله، وأنكرتَ الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم، وصوّرك في أتمّ صورة، ونقلك في أحوالك حتّي بلغ بك إلي حيث انتهيت. فلو تفكّرت في نفسك وصدّقك لطيف حِسّك، لوجدتَ دلائل الربوبيّة وآثار الصنعة فيك قائمةً، وشواهده جلّ وتقدّس في خلقك واضحة، وبراهينه لك لائحة.
فقال: يَا هَذَا ! إنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الكَلاَمِ كَلَّمْنَاكَ، فَإنْ ثَبَتَ لَكَ حُجَّةٌ تَبِعْنَاكَ. وَإنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ فَلاَ كَلاَمَ لَكَ !
وَإنْ كُنْتَ مِنْ أَصْحَابِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ فَمَا هَكَذَا يُخَاطِبُنَا، وَلاَ بِمِثْلِ دَلِيلِكَ يُجَادِلُنَا. وَلَقَدْ سَمِعَ مِنْ كَلاَمِنَا أَكْثَرَ مِمَّا سَمِعْتَ، فَمَا أَفْحَشَ فِي خِطَابِنَا، وَلاَ تَعَدَّي فِي جَوَابِنَا.
وَإنَّهُ لَلْحَلِيمُ الرَّزِينُ العَاقِلُ الرَّصِينُ، لاَ يَعْتَرِيهِ خُرْقٌ وَلاَ طَيْشٌ وَلاَ نَزْقٌ. وَيَسْمَعُ كَلاَمَنَا وَيُصْغِي إلَيْنَا وَيَسْتَعْرِفُ حُجَّتَنَا حَتَّي إذا اسْتَفْرَغْنَا مَا عِنْدَنَا وَظَنَنَّا أَنَّا قَدْ قَطَعْنَاهُ أَدْحَضَ حُجَّتَنَا بِكَلاَمٍ يَسِيرٍ وَخِطَابٍ قَصِيرٍ يُلْزِمُنَا بِهِ الحُجَّةَ، وَيَقْطَعُ العُذْرَ، وَلاَ نَسْتَطِيعُ لِجَوابِهِ رَدَّاً. فَإنْ كُنْتَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَخَاطِبْنَا بِمِثْلِ خِطَابِهِ.
المثال الثاني: جاء في "إعلام الورى" عن رواية في" الإرشاد" ما سأجمله بتصرف: أن رجلا من ولد أحد الخلفاء السابقين كان بالمدينة يؤذي الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) ويسبه ... فالتمس بعض حاشية الإمام منه الأذن لهم بإيذائه و...، فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم، وسأل (عليه السلام) عن الرجل فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب إليه، فوجده في مزرعة له، فدخل المزرعة براحلته فصاح به الرجل مستنكرا مروره على زرعه، وواصل الإمام السير حتى وصل إليه، ونزل وجلس عنده، وباسطه وضاحكه، وقال له: كم غرمت على زرعك هذا؟ قال:
مائة دينار، قال: فكم ترجو أن تصيب؟ قال: لست أعلم الغيب قال له: إنما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه؟ قال: أرجو أن يجئ مائتا دينار. قال: فأخرج له أبو الحسن (عليه السلام) صرة فيها ثلاثمائة دينار، وقال هذا زرعك على حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو، فقام الرجل فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبو الحسن وانصرف، وراح إلى المسجد فوجد الرجل جالسا، فلما نظر إليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالاته المثال الثالث: كنت جالسا يوما عند سماحة السيد محمد علي العلي (رضوان الله عليه)، وقد أثير أمامه خبر حادثة خلافية، كان لوقوعها صدى في حينه، وكم كانت ردة فعله على ذلك - (بعد صمت ناطق بأمور، منها أحد الخطوط الحمراء في مسيرته، وهو الإساءة إلى أحد بمحضره) - رائدة فيما نحن بصدده، فقد أشار إشارة جميلة وقد بدت على محياه ابتسامة المستاء من تلك الصيرورة وما تشير إليه، قرأت فيهما - (كوني عليما بهذه القامة الوطنية الإسلامية كما أزعم) -: "أن أي موضوع خلافي أو اختلافي طارئ سينتهي ولو بفعل الزمن، وتبقى الحقوق الثابتة التي يفرضها الدين والخلق لأحدنا على الآخر قائمة، فلنلتزم بها على مستوى النفس والخطاب والفعل"، كما قرأت في فعله إزاء من اختلف معه التسامح والحب إلى درجة بذل الجاه خفية لدفع المكروه عنه. وبغض النظر عن حيثيات الأمثلة الثلاثة، التي قد يقرأ أحد فيها تخالف في جهة أو أخرى، إلا أنني أجدها بليغة فيما يتعلق بما هو أعمق من الحوار، وأعني بذلك ثقافة الحب الكفيلة بصناعة بيئة حوار منتج وغيرها من الرائعات على المستوى الثقافي والاجتماعي وغيرهما، الحب الذي جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله فيه: (وهل الدين إلا الحب)، ثقافة الحب التي ربما تفتقدها جملة من حوارات شبابنا من خلال برامج التواصل فيما يختلفون فيه، على مستويات عدة ومنها لغة الخطاب من غير تعميم، رغم انتمائهم إلى مجتمع واحد بما ينطوي عليه ذلك الانتماء من مشتركات ممتدة عمقا وسعة. والملفت أن تلك الظاهرة تكاد تشكل بين جملة ممن اطلعت على حواراتهم - (في مقابل جملة من شبابنا اللذين تتميز حواراتهم بالحميمية والرحمة) - مشتركا بين عدد لا يستهان به ممن يرى في نفسه صاحب رؤية تجديدية نقدية فيما يتعلق بقراءة الدين، ممن يطيل الشكوى من الإلغاء وفرض الرأي الواحد، لينتقل على مستوى ممارسة جديدة من دور الضحية إلى ما يقابله، الحالة التي كان يشكو منها قبيل التلبس بها، وغاب عنه أن المثقف الذي ربما وجد نفسه مصداقا له مشروع رائد سلام، وبين عدد لا يستهان به ممن يرى في نفسه مدافعا عن الدين في قبال أولئك، اختلط عليه فهم أن الإسلام العزيز إنما ينتهج الحزم والتشدد مع من يعتدي ويظلم، في مقابل الرحمة والبر والسلام (الحب) التي تمثل الأصل في النص الإسلامي فيما نحن فيه، وغاب عنه أن من شروط فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدم ترتب الضرر أو المفسدة، وأي مفسدة أم أي ضرر أقسى من تأزيم المجتمع وفك عراه وزرع تأجيج الكراهية فيه، وهنا قد يلفت النظر ابتعادي عن استخدام عناوين أصبحت متداولة هي أيسر في الدلالة على هؤلاء وهؤلاء، ك "حداثويون"،"ليبراليون" "تقليديون" "محافظون"...، كونها عناوين وليدة تجارب وسياقات ثقافية أو سياسية معينة أخرى. وبغض النظر عن أن لمسببات هذه الظاهرة عوامل معقدة، منها التربوي وغيره، إلا أن ما نصبوا إليه على مستوى الدين والثقافة يجعل كل ذلك جديرا بالمراجعة. ولعل إمكانيتا التفرغ والخلوة اللتا هيأهما الحجر المنزلي الذي نواجه به الجائحة التي تهدد الأنسان على مستوى العالم - حمى الله الجميع منها -تمثل بيئة وفرصة مناسبتين لمثل تلك المراجعة، فلنراجع ولنستحضر خلال ذلك ما يعين، من تجارب، ربما كانت عبارة تنسب لإفلاطون تعبيرا مناسبا عن بعضها، وهي قوله : "الحب هو المخرج من اللاوجود الى الوجود" ، ولمن يجد أن وصوله إلى ساحة الأصل وهو السلام والحب يتطلب جهدا ووقتا نقول: أوقف الحوار المؤدي إلى التخاصم وتباعد القلوب وقسوتها، فإذا كان الحوار قيمة، فإن في القيم ما هو حاكم عليه، كالرحمة والحب والسلام .
جديد الموقع
- 2024-04-19 البدر توقع كتابها سُمُّكِ ترياقي
- 2024-04-19 مكتبات من بشر
- 2024-04-19 المدة والملكية والترجمة وسائل لاستغلال مؤلفي الكتب
- 2024-04-19 أفراح البخيتان بالمطيرفي تهانينا
- 2024-04-18 مكتبات ليست للقراءة فقط
- 2024-04-18 الخميس: رغبتنا صعود لدوري الكبار
- 2024-04-18 "ختام ملتقى موعود مع انطلوجيا القصة القصيرة السعودية"
- 2024-04-18 بر الفيصلية يقيم حفل معايدة لمنسوبيه .
- 2024-04-18 مختارات من الرسائل
- 2024-04-18 الأمير سعود بن طلال يرعى توقيع عقد إنشاء بوابة الأحساء