2013/01/12 | 2 | 6308
تنقية التراث ضرورة مُلحة
ولقد بدأ الكذب على الرسول الأكرم (ص) في حياته وقبل وفاته كما تشير إلى ذلك بعض الروايات حتى قام صلى الله عليه وآله خطيباً كما يروى عنه قائلاً: ((قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ الْكَذَّابَةُ ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))[2]، ولذلك ليس من المستبعد وقوع الكذب عليه بعد وفاته، خصوصاً وهناك الكثير من الشواهد التاريخية التي تدل على ذلك.
ولهذا كان من الطبيعي والحالة هذه أن يهتم العلماء بتنقية التراث من الأحاديث المكذوبة والموضوعة، ولقد بذل علماؤنا الأبرار ومن قبلهم أئمة أهل البيت (ع)جهوداً جبارة في هذا السبيل كما تفيد بعض المصادر، ولكن السؤال هنا: هل أن ما بُذل من جهود لتنقية التراث كافية وكفيلة في التوقف عن ممارسة هذا الدور الآن؟ بمعنى، هل قمنا بتنقية التراث وانتهينا منه أم أن هذا الأمر يحتاج منا لمواصلة الجهود في ذلك؟!
إن الملاحظ على بعض الأطروحات التي طُرحت مؤخراً ضد من يحمل مشروع تنقية التراث، ليس مخالفته في بعض النتائج التي توصل إليها فحسب، بل في أصل تبني هذا المشروع من أساسه، إذ يقول البعض: إن الأئمة (ع) وعلماؤنا المتقدمون كانوا حريصين على تنقية التراث، وما وصل إلينا من تراث هو منقى في مجمله، وإن وجد فيه بعض الشوائب، فهي معروفة ولا تستدعي منا القيام بهذا الدور، لأن الأئمة (ع) وضعوا لنا قواعد لمعرفة الحديث الصحيح من غيره[3].
ولكن المتأمل في هذا الكلام تدور في ذهنه بعض التساؤلات، وهي: إذا كان ما يقوله هؤلاء صحيح؛ فلماذا نجد علماؤنا مهتمون جداً ولهم جهود واضحة بالحديث في الجانب الفقهي؟! إذ لو كان التراث منقى ولا داعي لتنقيته كما يقول هؤلاء؛ فلماذا يبذل علماؤنا قصارى جهودهم في الأحاديث الفقهية قبل استنباط الحكم الفقهي؟! وإذا كان هذا الأمر مطلوب في الجوانب الفقهية كما هو واضح، فلماذا هو غير مطلوب في الجوانب الأخرى كالعقيدة والتفسير والأخلاق وغيرها؟ وبعبارة أخرى، لماذا لا يتطلب الأمر في العقيدة والتفسير والأخلاق وغيرها من بذل جهود مماثلة على الأقل للجهود التي تبذل في الأحاديث الفقهية؟! والأمر الآخر، ما الفرق بين هذا النهج وبين نهج الإخبارية؟! فهل هذا يعني بأننا لا نتبع طريقة الإخباريين في الجوانب الفقيهة فقط أما غيرها من الجوانب فمنهجنا هو نفس المنهج الإخباري أو هو يشابهه وقريب منه ؟! أم ماذا؟!
إن هذا الأمر ناقشه الشيخ حيدر حب الله في بحثه المسمى ((ظاهرة الوضع في الحديث الشريف.. دراسة في المفهوم، الحكم، الآثار، والمواجهة))[4]، ويمكننا الاستفادة منه هنا لمعالجته لهذا الموضوع، إذ طرح هذا السؤال: لماذا تُهمَل دراسات علم الحديث والدراية عند الشيعة، حتى أنّ أقدم مصنّف في ذلك يعود إلى القرن العاشر الهجري مع الشهيد الثاني وربما قبله بقليل؟ وبعدها ذكر عدة وجهات نظر في هذا الموضوع، وسوف نستعرضها فيا يلي[5]:
الأولى: ما يراه الدكتور عبد الهادي الفضلي، حيث يذهب إلى أنّ العامل السياسي الناتج عن دعم السلطة الأموية وغيرها للوضّاعين لم يكن موجوداً في الوسط الشيعي الإمامي، لهذا قلّ الحديث الموضوع عندهم جداً، الأمر الذي استتبع عدم وجود اهتمام عظيم بالموضوعات على غرار ما حصل عند الفرق الإسلامية الأخرى، وأنّ العنصر الأبرز للوضع عند الشيعة كان الغلوّ، من هنا حاربه أهل البيت وواجهوه وأضعفوه[6].
ورد الشيخ حيدر حب الله على هذا الكلام بقوله: ((لكنّ هذا التفسير غير دقيق من وجهة نظرنا؛ فإنّ العامل السياسي لا ينحصر في السلطة، وإنما تعرفه المعارضة أيضاً، وكما تشوّه السلطة صورةَ معارضيها يشوّه المعارضون فيما بينهم صورة السلطة أيضاً، علماً أنّ فترات تدوين الحديث بشكل مركّز عرف عند الشيعة الإمامية في القرن الرابع الهجري، وهو القرن الذي كانت السلطة فيه بيد الشيعة مع الدولة البويهية التي حكمت منذ عام 321هـ إلى عام 447هـ، إلى جانب دول مثل الدولة الفاطمية التي ظهرت على يد أبي عبد الله المهدي عام 297هـ، ودولة الأدارسة منذ نهايات القرن الثاني الهجري على يد إدريس بن عبد الله بن الحسن، لتستمرّ قرنين من الزمان، والدول الزيدية المتعدّدة في اليمن منذ القرن الثالث الهجري، والحمدانيين (317 ـ 394هـ)، وحركة أبي الحسن المادرائي في طبرستان (مازندران)، وغيرها من الحركات والقوى التي دعمت الشيعة أو سهّلت أمرهم أو رفع الجور عنهم ليصبحوا على مسافة جيدة من السلطة. لم تكن السلطة دائماً عدواً للشيعة، بل ظهرت الكثير من الدول والقوى المؤيّدة للعلويين أو المتعاطفة معهم، فلا يصحّ القول بأنّ العامل السياسي لم يعرفه الشيعة في شقّه السلطوي، فضلاً عن جانب المعارضة، إلا إذا أثبتنا عدم سعي كلّ هذه الدول للاستفادة من الحديث النبوي ونزهناها عن ذلك!!))[7].
الثانية: ما ذهب إليه الباحث المعاصر الشيخ رضا أستادي، من أنّ السبب في إحجام الشيعة عن مثل هذه التصنيفات يرجع إلى:
أولاً: إنّهم قاموا بتصفية كتبهم الحديثية مرّتين، مرّةً قبل عصر الكليني، حيث بالغوا في النقد والتمحيص، كما هي الحال مع مدرسة قم الشهيرة بمواقفها المتطرّفة والمتحفّظة من الرواة، وأخرى مع المحمّدين الثلاثة: الكليني، والصدوق، والطوسي، وهذا معناه أنّه لم تعد هناك حاجة لمزيدٍ من التصفية، من هنا يعتقد أستادي أنّ الشيعة وإن لم يؤلّفوا كتباً في الموضوعات، غير أنّهم سبقوا السنّة في هذا المجال، أي مجال نقد الحديث وتصفيته.
ثانياً: لم تكن عند الشيعة رغبة في التهاون، واتّهام الرواية بالكذب لمجرّد احتمال ذلك، فلذلك آثار خطيرة على مرجعية السنّة واعتبار الحديث[8].
وما نقله الشيح حيدر حب الله عن الشيخ رضا أستادي يشبه إلى حد كبير ما نقلناه من أقوال البعض حول تنقية التراث، حيث يقولون بأن تراثنا قد تمت تصفيته وتنقيته ولا حاجة للقيام بذلك.
الثالثة: ما رآه السيد هاشم معروف الحسني (1403هـ)، حيث ذهب إلى أنّ محدّثي أهل السنّة كانوا أكثر وعياً من الشيعة بالأخطار التي كانت تحدق بالسنّة النبويّة، فاهتمّوا بشكل أكبر بالنقد، وألّفوا في الموضوعات، أمّا الشيعة فقد تجاهلوا -بحسب رأي الحسني- المسألة، كأنّ الأمر لا يعنيهم، مع أنّ ما عندهم لا يقلّ خطراً عما هو مسطور في مصادر الحديث السنّية[9].
ويقول الشيخ حيدر حب الله: ((ويؤيّد معروفَ الحسني بعضُ حركات النقد الشيعي المعاصرة، مثل حركة التطهير العقدي، وحركة تهذيب الحديث و... كما يبدو أنّ التيار المدرسي في المؤسسّة الدينية الشيعية يميل إلى وجهة نظر الشيخ أستادي. والحكم في هذا الموضوع يتبع -فيما أظن- طبيعة قراءة الباحث للموروث الشيعي الحديثي، فإنّ الباحثين الواثقين من هذا الموروث، والمنسجمين عقدياً وثقافياً وفقهياً معه كأغلب التيارات المدرسية، لا يجدون ـ بل لا يشعرون ـ بعدد هام من الأحاديث الموضوعة، حتّى يرموا باللائمة على محدّثي الإمامية السابقين كيف لم يصنّفوا في الموضوعات، أما أولئك الذين يملكون قراءة نقدية لمضمون الكثير من الروايات، لاسيما العقدية، فهم يقرؤون الموروث الشيعي حافلاً بالنصوص الحديثية الباطلة غير المقبولة، ممّا يثير فيهم إحساس ضرورة التصنيف في الموضوعات، وتصفية الأحاديث، كما يثير حفيظتهم لنقد تجربة علماء الحديث السابقين))[10].
وبعد استعراضه السابق لوجهات النظر المختلفة في هذا الموضوع، ينتقل الشيخ حيدر حب الله لبيان رأيه في ما يخص الرأيين الأخيرين وذلك من خلال الوقفات التالية:
أولاً: لا نشك في وجود ظاهرة متشدّدة عموماً من الحديث كانت موجودة في القرنين الرابع والخامس، أمّا القول بأنّ الشيعة صفّوا أحاديثهم من الموضوعات على دفعتين، فلم تعد هناك حاجة للتصفية، فهو قول يحتاج إلى مزيد من التأمّل، إذ هل لدينا اطّلاع على ما كان عند الشيعة من روايات حتى نعرف هل أحسن الكليني بشكل كامل في الانتخاب أم لم يحسن؟ كيف يمكن غضّ الطرف عن موقف مثل الشيخ المفيد من الشيخ الصدوق وفريق المحدّثين آنذاك وهو يحمل عليهم بعدم التمييز والنقد المضموني للأحاديث؟! ـ.. ولسنا نقصد بذلك إبطال ما بأيدينا قدر ما نقصد مجموع ما بأيدينا وما حذفوه ولم يصل إلينا، فلعلّنا لو اطلعنا على ما حذف ـ مع ما اُبقي ـ لآخذناهم واختلفنا معهم في موازينهم، فأبقينا بعض ما حذفوه وحذفنا بعض ما أبقوه.
ثانياً: إذا كان الشيعة قلقين على انهيار مكانة السنّة بفتح ملفّ الموضوعات فهم مخطئون، وشاهدُنا على هذا الخطأ رصد الموقف السنّي، فقد صنّف السنّة في الموضوعات الكثير، لكن اعتقادهم بمصادرهم الحديثية ظلّ أقوى من اعتقاد الشيعة بتلك المصادر، حيث نجدهم صحّحوا بعض الكتب بطريقة مبالغ بها جداً كصحيحي البخاري ومسلم، إنّ هذه تجربة تاريخية حيّة تؤكّد أن فتح باب الموضوعات قديماً لن يؤدي إلى ما توجّس منه الشيخ أستادي، بل لقد وجدنا الشيعة أكثر نقداً لمصادرهم الحديثية من السنّة!!.
ثالثاً: إنّ الشيخ أستادي نفسه يَحتَمل أن تكون خطوة الشيخ حسن صاحب المعالم (1011هـ) في كتاب )منتقى الجمان) مشابهة في ذلك العصر لخطوة التستري في القرن الرابع عشر، ونحن نسأل: إذا كان الشيعة أقفلوا باب الموضوعات قلقاً على مكانة السنّة، فكيف نفسّر الجهود النقدية اللاذعة التي قامت بها مدرسة العلامة الحلّي؟! وكيف نفسّر كتاب (منتقى الجمان) والاتجاه الفكري الذي صاحبه مع المحقق الأردبيلي (993هـ) أو صاحب المدارك (1009هـ)؟! بل كيف نفسّر الموقف الأصولي المشكّك بالكتب الأربعة منذ عصر الوحيد البهبهاني.
رابعاً: لو سلّمنا أنّ الشيعة قد أخضعوا مصادرهم الحديثية لتصفيتين تاريخيتين، هل يعني ذلك عدم وجود أحاديث موضوعة؟ بل الصحيح أنّه إذا عنى شيئاً فإنه يعني قلّة هذه الأحاديث، ومن ثم فما المانع -مع قلّة الأحاديث- من فتح باب التصنيف في هذا المجال، ليكون الحسّ النقدي نشطاً دائماً إزاء دسّ الروايات واختلاق الأكاذيب؟!
خامساً: إنّ النزعة المفرطة للفريق المعتقد بوجود الموضوع في الحديث الشيعي، ونقصد بالموضوع المختلق من رأس، غير دقيقة، فقد أفرطت هذه الحركة في تضعيف الحديث على أساس فكرة الوضع[11].
وبعدها يخلص الشيخ حيدر حب الله إلى هذه النتيجة ويقول: ((المهم أننا نميل إلى رأي السيد هاشم معروف الحسني، ونرى أنّه آن الأوان لعلماء الحديث الشيعة أن يفتحوا هذا البحث، ويضبطوا قواعده. ولا يكتفوا بجهود السلف، مهما كانت الموضوعات قليلة، شرط أن لا يفرطوا في ذلك خارج إطار الدليل والحجّة)).
ويردف بقوله: ((وبهذا يمكن الجمع بين الأمور، فنقول: إنّ عدم تصنيف الشيعة في الموضوعات كان لأنهم بذلوا جهوداً مشكورة في القرون الخمسة الهجرية الأولى لمواجهة حركة الوضع والوضاعين، فضعّفوا الكثير من الروايات الفاسدة، وكانوا مقتنعين بأنّ عدد الروايات الموضوعة لم يكن كبيراً في موسوعاتهم الحديثية الكبرى، لكنّ هذا لا يمنع اليوم -نتيجة تعدّد مصادر الإمامية الحديثية- من فتح باب نقد المتن بذهنية متحرّرة من التقديس هنا واستراتيجية البحث عن العفريت هناك؛ لأننا إذا أخذنا كلّ مصادر الحديث والتفسير و.. الإمامية فستظهر روايات موضوعة، حتى لو لم تكن بحجم كتب الموضوعات التي صنّفها أهل السنّة))[12].
هذا هو ما ذكره الشيخ حيدر حب الله حول هذا الموضوع، وبهذا يكون مشروع تنقية التراث مطلوب ومهم لدى الشيخ حيدر حب الله وغيره ممن يتبنى هذا الاتجاه، وما يحاول البعض تصويره من أن الشيعة قد صفوا ونقوا تراثهم من خلال جهود الأئمة (ع) والعلماء المتقدمين، وهم الآن انتهوا من هذا الدور وليسوا بحاجة إليه، فهو أمر لن أقول بأنه غير صحيح، ولكن سأقول بأنه غير مجمع عليه لدى جميع الاتجاهات في الطائفة، إذ يرفضه بعضهم ويرد عليه، فلا يصح الاحتجاج به على من لا يراه، كما أن هذا القول يشبه نوعاً ما بعض أقوال علماء الإخبارية وآراءهم المخالفة لعلماء المدرسة الأصولية.
وبغض النظر عن صحة ما يطرحه من يتبنى مشروع تنقية التراث من عدمه، إلا التشكيك في صحة بعض النتائج التي يتوصل إليها من يتبنى هذا المشروع شيء، والتشكيك في صحة أصل تبنيه لهذا المشروع شيء آخر. وما يظهر من عبارات البعض أن خلافهم مع من يتبني هذا المشروع لا يقتصر فقط على النتائج التي توصلوا إليها، بل هو في مشروعية أصل تبنيهم له من أساسه، ومن هنا يظهر التقارب بين هؤلاء وبين المنهج الإخباري.
ولهذا ينبغي أن يكون الحوار بين الأطراف المتنازعة حول هذه النقطة بالتحديد، أي حول أصل مشروعية تبني مشروع تنقية التراث من عدمه، وهل يعُد هذا المشروع ضرورة أم لا؟، وليس حول النتائج المتوصل إليها، لأن الاختلاف حول النتائج قد يكون موجوداً وقائماً حتى لدى أنصار هذا الاتجاه، بل حتى بين من يتبنون بأنفسهم القيام بهذا المشروع.
جديد الموقع
- 2024-12-19 (قصة عجائبية من المخيال الاجتماعي الشعبي) (حلال المشاكل...القصة التي حفظتها أمهاتنا عن ظهر قلب)
- 2024-12-19 جمعية ابن المقرب تحتفي باللغة العربية في يومها
- 2024-12-19 سلطة النوع الأدبي وقراءة النص
- 2024-12-18 لماذا يتفوق الطلاب على الطالبات في مادة الرياضيات؟: وكيف يمكن تضييق الفجوة بينهم في هذه المادة
- 2024-12-18 الغذاء السيء لكل من الأم والأب قد يؤثّر سلبًا ويسبب ارتفاع الضغط وأمراض الكلى المزمنة في نسلهما إلى الجيل الرابع
- 2024-12-18 ورشة المرأة في اللوجستيات _ بمؤمر سلاسل الإمداد و الخدمات اللوجستية بالرياض
- 2024-12-18 جامعة الملك فيصل بالاحساء تحقق المركز الثالث في قياس التحول الرقمي لعام 2024 على مستوى قطاع التعليم والتدريب
- 2024-12-18 سمو محافظ الأحساء يدشن "برامج أكاديمية ريف السعودية"
- 2024-12-18 الأحساء.. وجهة سياحية تنبض بالتاريخ والطبيعة الخلّابة
- 2024-12-18 اللغة العربية في التعريب
تعليقات
ولد المطيرفي
2013-01-12هل هناك أساس لاتهام علماؤنا بالاخبارية أم أنها مجرد تكهنات؟؟؟
عبدالله القاسم
2013-01-12نحيي الكاتب سلمان عبدالأعلى على نقده الجريء ونشد على يده في مواصلة درب التوعية والتنوير