2016/06/08 | 0 | 3319
انتوني فلو ومغالطات الملحدين.. بسام البغدادي نموذجاً
- تمهيد
عندما يُعلن أحد المؤمنين بوجود الخالق إلحاده؛ فيضج البعض من المؤمنين من هول هذا الخبر، وربما تكون لهم تجاهه ردود أفعال سلبية غير متزنة؛ فإننا نجد على الجانب الآخر استنكاراً واسعاً من قبل الملاحدة، إذ يصرخون وبأعلى أصواتهم احتجاجاً على ما يُواجهونه من اتهامات جائرة وظلم غير مبرر، وقد يقومون بالعديد من التحليلات لتفسير هذه الحالة التي يشتكون منها، إلا أنهم كثيراً ما يعزونها لضعف ما يقدمه الفكر الديني من أدلة وبراهين تثبت أحقيته بشكل عام، وتثبت وجود الإله الذي يدعيه أتباعه بشكل خاص، وإلا لو كان هذا الفكر يمتلك القوة الكافية التي تؤهله لمقارعة الحجة بالحجة لالتزم أتباعه بهذا الأمر، ولما تأثروا بحالات الردة عن دينهم -سواءً بالإلحاد أو باتباع دين آخر- بهذه الصورة التي أفقدتهم السيطرة على هدوئهم واتزانهم.
هذه الأسئلة هي التي أريد الإجابة عنها في هذا المقال، ولكن لا أريد أن تكون إجابتي نظرية وبشكل مباشر، وإنما أريد أن تتضح ضمناً من خلال استعراض وتحليل إحدى الحالات العملية، حيث اخترت ما وقع فيه بعض الملحدين من مغالطات وردود أفعال سلبية بسبب إيمان الفيلسوف البريطاني الملحد أنتوني فلو Sir Antony flew بوجود الخالق، ولم يكن ذلك من قبل عموم الملحدين فحسب، بل من أبرز رموزهم في العالم كصاحب كتاب (وهم الإله) ريتشارد دوكنز وغيره.
يقول أبراهام فارجيس Roy Abraham Vargeese في مقدمة كتاب أنتوني فلو (هناك إله): "يمكننا القول، دون أن نجترئ على الدقة العلمية، أن سير أنتونى فلو Sir Antony flew أستاذ الفلسفة البريطاني الشهير قد تزعم حركة الإلحاد في العالم لما يزيد عن نصف قرن. فقد ألف أكثر من ثلاثين كتاباً وبحثاً فلسفياً كانت بمثابة جدول أعمال الفكر الإلحادي طوال النصف الثاني من القرن العشرين. لذلك نزل خبر إقراره بأن "هناك إله" على الفلاسفة والمفكرين الملحدين كالصاعقة، فانبروا للدفاع عن إيمانهم المقدس بالإلحاد! وعبروا عن سخطهم وازدرائهم لهذا التحول، وكالوا للرجل كل ما لا يليق من التهم والنقائص".
ويردف قائلاً: "إن عقول الفلاسفة التي عانت كثيراً من محاكم التفتيش، ومن الحجر على حرية الفكر في العصور الوسطى في أوروبا، قد أصبحت تتلذذ بأن يأكل بعضها بعضاً. يبدو أن التعصب والفظاظة والغطرسة وادعاء الاستئثار بالمعرفة، لم تعد حكراً على المتعصبين الدينيين وحدهم"[1].
يتضح لنا من كلمات أبراهام فارجيس بأن ردود أفعال الملحدين لم تكن أحسن حالاً من ردود أفعال المتدينين المتعصبين على حد قوله، لأنها كانت غير متزنة ولم تسلم من المغالطات وتوجيه الاتهامات الجائرة، فنجد مثلاً ريتشارد دوكنز يعلق على خبر إيمان أنتوني فلو بقوله: "إن فلو قد أعلن ارتداده عن الإلحاد بعد أن كبر في السن، وإنه أعلن "أن هناك إلهاً" حتى يملأ الإعلام ضجيجاً حوله"[2]!
وعلى خطى دوكنز نجد الكاتب بسام البغدادي مترجم كتابه (وهم الإله) للعربية في مقاله له بعنوان: (لماذا أشهر انتوني فلو اسلامهُ؟)، حيث يُقلل من أهمية هذا الحدث، بل ومن القيمة العلمية له ولآرائه، فنجده مثلاً يقول بأن أنتوني فلو يتحدث في غير تخصصه، فهو فيلسوف وليس متخصص في علم البيولوجيا!![3] وغيرها من ردود الأفعال والمغالطات التي وقع فيها دوكنز والبغدادي وغيرهما، والتي تدل على مقدار ما شعر به هؤلاء من ذعر واضطراب وخيبة أمل.
لقد تلاشت واختفت لغة العلم والمنطق في ردود أفعال هؤلاء الملاحدة، وذلك نتيجة لهول صدمتهم من إيمان ملحد شهير بحجم أنتوني فلو Sir Antony flew، وإلا أين هي الأدلة والبراهين القوية التي يمتلكونها ويدعون بأنها تدحض كل ما يقدمه الله من أنبياء وكتب كما عبر بذلك البغدادي نفسه في مقدمته لترجمته لكتاب (وهم الإله) للعربية، إذ يقول: "عندما يتناول ريتشارد دوكنز نقد الاديان في كتابه (وهم الإله) فأن الله بكل عظمته وجلاله يقف وجهاً لوجه أمام عالم الطبيعة والفلسفة دوكنز على خط المواجهة. الله يقدم ما عنده من انبياء وكتب ودوكنز يقدم ما عنده من أدلة وبراهين علمية في دراما عقلية رائعة تتخطى كل ما قرأته سابقاً من كتب تناولت نقد الأديان"[4]. حقيقةً لا أدري أين ذهبت هذه الأدلة والبراهين بعد إعلان إيمان أنتوني فلو؟!! ولماذا لم نجد لها عيناً ولا أثر؟!!
ومما لا يكاد ينقضي منه عجبي أن البغدادي نفسه؛ ولكي يقلل من قيمة إيمان المؤمنين بوجود الخالق (الله) ذكر بأن الإيمان بوجود الخالق ليس بالضرورة أن يكون نتيجة لوجود أدلة حقيقية لذلك، إذ "ربما شعر (المؤمن) بالرغبة في الإيمان لأسباب اجتماعية أو سياسية أو دينية لا نعرف"، فهناك عدة أسباب للتحول للإيمان، ولكن هذا لا يعني وجود دليل حقيقي يدل عليه بحسب قوله[5].
لقد غفل البغدادي أن ما ذكره ينطبق على الملحدين أيضاً، فالكثير منهم يتبع الفكر الإلحادي ليس من أجل قناعته الفكرية به أو نتيجة لتوفر أدلة حقيقية تدل عليه وتجعله يحرص على التمسك به، وإنما نتيجة لظروف وعوامل أخرى كوضع اجتماعي معين أو ديني أو سياسي أو غيره، فالأمر قد يعود لدوافع وعوامل نفسية، ومن الأمثلة على هذه الدوافع النفسية للإلحاد هو (الإحساس بالنقص)، "حيث يكره الإنسان نفسه بسبب عيب ما في خلقته، فيكون إلحاده بمثابة اعتراض على خالقه. ومثل ذلك (الاضطهاد الذي تعانيه المرأة باسم الدين)، فهو شرارة البداية التي جعلت كثيرات من النساء يتركن الدين، ويتساءلن عن مدى صحته أو ملاءمته ويشككون في عدل الإله. وهناك أيضاً (الغرور المعرفي والثقافي)، الذي قد يقود الإنسان إلى الانحراف الفكري والإلحاد"[6]، وهناك غيرها من العوامل والدوافع الأخرى أيضاً، فالبعض من الملحدين نجده مثلاً ناقماً على الواقع الاجتماعي الذي يعيشه ويريد أن ينتفض عليه بأي طريقة كانت، فيعلن إلحاده لتحقيق هذه الغاية، وبعض آخر نجده مثلاً يريد الفرار من المشاكل والتعقيدات التي يعيشها في البلدان العربية والإسلامية، فيسافر إلى أمريكا أو إلى أوروبا ويعلن إلحاده من هناك لكي يتمكن من الحصول على لجوء ديني فيها، وهكذا توجد العديد من الحالات التي يعود سبب الإلحاد فيها إلى عوامل ودوافع نفسية وليست فكرية وعلمية.
على أي حال، سأقوم في هذا المقال بتحليل ما كتبه الكاتب بسام البغدادي في مقاله (لماذا أشهر انتوني فلو يشهر اسلامهُ؟) ومقارنته بما جاء في كتاب أنتوني فلو (هناك إله)، وذلك من خلال عدة وقفات سنناقشه فيها، وسوف أعتمد في ذلك على ترجمة الدكتور عمرو شريف[7]، وهدفي من ذلك كله هو تقديم نموذج يكشف عن بعض ردود الأفعال والمغالطات التي يقع فيها بعض الملاحدة عندما يُعلن أحدهم الإيمان بوجود الخالق.
وقبل البدء في استعراض كلام البغدادي أرى من المهم أن نذكر نبذة مختصرة لكل من: أنتوني فلو وبسام البغدادي.
- أنتوني فلو Sir Antony flew في سطور
أنتوني جيرارد نيوتن فلو (11 فبراير1923م–8 أبريل 2010م) فيلسوف بريطاني، اشتهر بكتاباته في فلسفة الأديان.
كان فلو طوال حياته ملحداً وألف العديد من الكتب التي تدحض فكرة الإله، غير أنه وفي آخر حياته ألف كتاباً نسخ كل كتبه السابقة وقد تجاوزت ثلاثين كتاباً تدور حول فكرة الإلحاد، بعنوان: هنالك إله.
قد تعرض لحملة تشهير ضخمة من المواقع الإلحادية في العالم، وذلك لأنه ولخمسين عاماً كان يُعتبر من أهم منظري الإلحاد في العالم.
تميز فلو بعلميته في الطرح واستشهاده بقوانين الطبيعة لاثبات آرائه، وقد بدأ يتخلى عن الإلحاد بعد تفحص عميق للأدلة، ثم أعلن ما اعتبر صدمة قوية في وسط الفكر الإلحادي في العالم تحوله إلى الفكر الربوبي[8].
بسام البغدادي في سطور[9]
مخرج وكاتب وناقد أديان ومنظر ملحد عراقي ولد في سنة 1977م في مدينة بغداد عاصمة العراق.
دخل إلى كلية الفنون الجميلة جامعة بغداد في سنة 1995م، منع فلمه (المواطن عباس) من النشر في سنة 1998م لأسباب سياسية.
هاجر إلى السويد سنة 1999م, وأكمل دراسته في فن كتابة السيناريو السينمائي في معهد ستوكهولم, استمر في دراسة الإنتاج السينمائي في معهد فورسا شمال السويد.
قام بترجمة كتاب وهم الإله لعالم البيولوجيا البريطاني ريتشارد دوكينز إلى العربية, والكتاب صدر في بغداد في تاريخ 14 شباط 2012م[10].
مهتم بكتابة الشعر والقصة القصيرة ومقالات متعددة في نقد الاديان والفكر والفلسفة الإنسانية.
ناشط ميداني في منظمة الصليب الأحمر الدولي, ناشط ميداني في منظمة العفو الدولية آمنستي.
- اطروحات بسام البغدادي عرض ونقد
في مقاله المُعنون بـ(لماذا أشهر انتوني فلو يشهر اسلامهُ؟[11]) وقع بسام البغدادي في العديد من المغالطات والأخطاء، ولهذا سوف ستكون لنا عدة وقفات معه نستعرض من خلالها كلماته وبعدها نقوم بمراجعتها ومناقشتها، وذلك فيما يلي:
- الوقفة الأولى: الخلط بين إيمان أنتوني فلو والدليل على وجود الخالق
يقول بسام البغدادي في بداية مقاله: "أحد الاسئلة المتكررة في الفترة الاخيرة والتي تهطل في صندوقي البريدي كما يهطل المطر في صيف دول الشمال هو أستفسار من العديد من المؤمنين حول حقيقة إشهار أشرس ملحد في العالم وشيخ الملاحدة وكبير الفلاسفة!!! الفيلسوف البريطاني آنتوني فلو إسلامهُ في كتابهِ (هناك إله). والسؤآل عادة يتبعهُ التالي, لو كان الله غير موجود, فلماذا أشرس ملحد في القرن الماضي, والذي جعل نصف العالم يترك الاديان ويلجأ للألحاد, لماذا يترك الالحاد وينقذ نفسهُ بنطقهِ الشهادتين؟ اليس هذا دليل على أن الله موجود وبأن الإسلام هو الدين الحق؟"[12].
- المناقشة
حاول البغدادي أن يصور مسألة استشهاد المؤمنين بإيمان أنتوني فلو بوجود الخالق على أنه بحد ذاته دليل كافٍ على وجوده سبحانه وتعالى، كما حاول أن يجعل من ذلك أيضاً–أي الاستشهاد بإيمان أنتوني فلو- دليل عند المستشهدين به على كون الإسلام هو الدين الحق عندهم، وهذا الكلام مجانب للصواب كما لا يخفى، لأن من يستشهدون بأنتوني فلو فإنهم يستشهدون به للتدليل على وجود ملحدين قد آمنوا بوجود الخالق أولاً، ويستشهدون بالأدلة والبراهين التي قدمها للوصول إلى هذه النتيجة ثانياً، إذ أنهم لا يستشهدون به ليجعلوا من ذلك دليلاً قائماً بحد ذاته على وجود الخالق كما صور ذلك البغدادي، فينبغي عدم الخلط بين الأمرين، علماً بأني لم أجد أي أحداً قد استشهد بإيمان أنتوني فلو بهذه الكيفية للتدليل على كون الإسلام هو الدين الحق، فلا أدري من أين جاء البغدادي بمثل هذا الكلام !!
- الوقفة الثانية: التقليل من شأن الحدث وقيمته
حاول البغدادي التقليل من شأن حدث مهم وكبير جداً كإيمان أنتوني فلو على الرغم من أهميته البالغة، وذلك في قوله: "في الحقيقة, هناك سوء فهم كبير في قصة آنتوني فلو, لدرجة أن الكثير من المؤمنين, والذين في الحقيقة لم يسمعوا يوماً بأسم هذا الفيلسوف يعتقدون حقيقة بأنهُ الحجر الاساس في علم الفلسفة الحديثة. في الواقع أنا بنفسي لم أسمع بأسمهِ يوماً رغم أهتمامي العميق بالفلسفة في المرحلة الجامعية, بل أول مرة سمعت عنه كان تماماً في نفس صيغة السؤآل أعلاه, لماذا أشرس ملحد يعود للإيمان!! وإذا كنت تقول في نفسك الآن بأنك أنتَ أيضاً لم تسمع بهِ قبل أن يتحدث المؤمنين عن عودتهِ لحضيرة الإيمان, فلا تقلق, لأنهُ لا أحد يعرفهُ في الشرق الاوسط قبل أن يصدر كتابه (هناك إله) فيتلقفهُ المؤمنين كالجائع الذي ينتظر الطعام. ولو سألت أي شخص يسألك هذا السؤآل, ماهي كتب آنتوني فلو الأخرى سيأتيك الرد كصمت القبور, أبو بحث على جوجل"[13].
- المناقشة
نلاحظ أن بسام البغدادي في النص السابق يحاول التقليل من أهمية أنتوني فلو، وذلك بتصويره وكأنه نكرة ليس له القيمة والهالة التي أعطيت له بعد إيمانه، وكل ذلك من خلال عبارات إنشائية لا تستند إلى أي دليل علمي أو برهان منطقي، فتارة نجده يقول: "لا أحد يعرفهُ في الشرق الاوسط قبل أن يصدر كتابه (هناك إله) فيتلقفهُ المؤمنين كالجائع الذي ينتظر الطعام"، وتارة يقول: "أنا بنفسي لم أسمع بأسمهِ يوماً رغم أهتمامي العميق بالفلسفة في المرحلة الجامعية"، وكأن أهمية المسألة متوقفة على سمعه به أو لا، أو على أن أحداً سمع به في الشرق الأوسط قبل إيمانه أو لا. وهذا الأمر لا يقدم ولا يؤخر في الموضوع شيئاً، بل ولا يرفع من قيمة أنتوني فلو ولا يحط منها شيئاً، فما يهمنا هو تاريخ الرجل وأفكاره ومكانته العلمية، وهذا ما سوف نبينه من خلال النقاط التالية[14]:
§ أولاً: كتبه ومؤلفاته: كانت لأنتوني ثلاث دراسات تُعتبر علامات بارزة في مسار الفلسفة الإلحادية، وهي كالتالي:
1. كتاب زيف علم اللاهوت Theology and falsification: وهو بحث قدمه أنتوني فلو عام 1950م، حاول فيه نسف قضية الإيمان من أساسها بأن أكد خواء المقولات الدينية من أي مفاهيم وأفكار ذات معنى. ودعى في الوقت نفسه إلى فتح باب الحوار بين الملاحدة والمتدينين. وقد صار هذا البحث من أكثر الدراسات الفلسفية انتشاراً في القرن العشرين.
2. كتاب الإله والفلسفة God and Philosophy: طبع لأول مرة في عام 1966م، وفيه يؤكد أنتوني فلو أنه لا ينبغي إصدار الحكم في قضية "هل هناك إله؟" قبل أن يطرح المتدينون تصوراً واضحاً لصفات هذا الإله ويطرح هذا السؤال: ما معنى أن يصف المتدينون الخالق بأنه الروح، كلي الوجود، كلي العلم؟!
3. كتاب فرضية الإلحاد The Presumption of Atheism: طبع لأول مرة في عام 1976م، وفيه يدير أنتوني فلو الدفة تماماً ليجعل الكرة في ملعب المتدينين، فيضع على عاتقهم مهمة إثبات وجود الإله، بعد أن كان التناول الفلسفي السابق يطالب الملاحدة بإثبات عدم وجود الإله.
ثانياً: حواراته ومناظراته: تحدث أنتوني فلو عن مناظراته في كتابه (هناك إله)، حيث ذكر عدة مناظرات خاضعها للترويج للفكر الإلحادي، وفيما يلي نستعرض هذه المناظرات[15]:
1. مناظرة جامعة ولاية تكساس الشمالية في عام 1976م، وكانت مع الفيلسوف الديني الكبير د.توماس وارين، واستمرت أربع ليال بدأت في العشرين من سبتمبر، وحضرها ما بين 5-7 آلاف شخص كل ليلة.
2. مناظرة أخرى في ولاية تكساس أيضاً في عام 1998م، وحضرها زهاء أربعة آلاف شخص، وكانت عبارة عن أربعة من الملاحدة في مواجهة أربعة من كبار الفلاسفة الدينيين.
3. مناظرة مهمة على صفحات المجلات الفلسفية مع الفيلسوف الديني الكبير تيري ميث Terry Miethe.
4. مناظرة في ثمانينيات القرن العشرين مع ريتشارد سوينبرن أستاذ فلسفة الأديان بأكسفورد (أفضل مدافع عن الإبمان في العالم الناطق بالإنجليزية).
5. مناظرة مع وليم لين كريج في عام 1998م.
6. مناظرة حاسمة عقدت في جامعة نيويورك عام 2004م، وفيها أعلن أنتوني فلو بأنه صار يقبل فكرة "الوجود الإلهي"! وفسر ذلك بأن ما أثبته العلم الحديث من تعقيد مذهل في بنية الكون يشير إلى وجود مصمم ذكي.
فكل هذه المناظرات مع هذه الشخصيات الكبيرة والمهمة تدل على مكانة الرجل ونشاطه الكبير وقيمته في الفكر الإلحادي، وهذا هو ما يهمنا في الموضوع، فحتى لو لم يكن البغدادي أو غيره على علم به، فهذا لا يقلل من مكانة الرجل وأهمية حدث إعلانه لإيمانه.
ثالثاً: ردود الأفعال: هناك عدة ردود أفعال حصلت بعد إعلان أنتوني فلو للإيمان وتخلي عن الفكر الإلحادي، وهذه الردود ليست مقتصرة فقط على المؤمنون الذي استبشروا بذلك كما يصور البغدادي، وإنما من قبل غيرهم أيضاً، بل لقد اهتمت وسائل الإعلام العالمية به، فقد أذاعت وكالة أنباء الأسوشيتد برس الخبر بعنوان: "ملحد شهير يؤمن بالإله، بدافع من الشواهد العلمية"[16]، وكذلك حول الكتاب قالت مجلة تايم Time الأمريكية "على رأس الاكتشافات العلمية المبهرة في القرن العشرين، يأتي اكتشاف أن هناك إلهاً"[17]. كذلك نلاحظ ردود أفعال الملحدين مثل ريتشارد دوكنز وغيره، وسوف ننقل بعضاً من كلماته في موارد أخرى.
بناءً على ما سبق، سواءً عرف الملحدون كالبغدادي وغيره أنتوني فلو أو لم يعرفوه، فهذا لن يغير من الأمر شيئاً، فالرجل معروف في الأوساط العلمية والفكرية بكونه من أشهر الملحدين، ولذلك كان هناك اهتمام كبير وملحوظ بموضوع إعلانه بوجود إله.
- الوقفة الثالثة: ما يهمنا هو الأدلة وليس الكاتب
يقول البغدادي: "كي نعود لقصة كتابهِ (هناك إله) فهو كتابه الاخير والذي نشر عام 2007, أي ثلاثة أعوام قبل موتهِ عن عمر قارب التسعين سنة. البعض أتهم مساعد الكاتب (فارغاسي) المتدين بالتأثير على العجوز آنتوني فلو وصياغة أفكاره في الكتاب. البعض قال بأن آنتوني فلو كان مريضاً لدرجة يعجز فيها عن الكتابةِ. أنا شخصياً أعتقد أن هذه حجة هشة, لان ما يهمني هو ما يوجد في الكتاب, وليس كاتبهُ. وآنتوني بنفسهُ نفى هذا الاتهام وأشار الى أنهُ مسؤول على كل مافي الكتاب. فماذا يوجد في هذا الكتاب من أدلة تثبت وجود هذا الإله الذي يفترضهُ آنتوني فلو والمؤمنين وجودهُ؟"[18].
- المناقشة
لعل من الغريب جداً أن يُطالب البغدادي بالاهتمام بما جاء في الكتاب وليس بالكاتب بحسب تعبيره، في حين أننا نجد أن هناك من الملحدين من لم يلتزموا بهذا الأمر، فنجد مثلاً أحد زعماء الإلحاد في العصر الحاضر، وهو ريتشارد دوكنز قد وقع في هذا الأمر. يقول أبراهام فارجيس: "يقارن دوكنز بين راسل باعتباره فيلسوفاً ملحداً يتحرى أمانة الفكر، وبين الفيلسوف أنتونى فلو. فيقول إن فلو قد أعلن ارتداده عن الإلحاد بعد أن كبر في السن، وإنه أعلن "أن هناك إلهاً" حتى يملأ الإعلام ضجيجاً حوله، بينما كان برتراند راسل فيلسوفاً كبيراً حصل على جائزة نوبل". ويعقب قائلاً: "هل لا حظت السخرية والمقابلة بين وصف فلو بأنه "كبر في السن" وبين وصف راسل بأنه "فيلسوف كبير"؟ لقد فات دوكنز أن المفكرين الحقيقيين يقيمون الحجج والبراهين دون النظر إلى عرق أو جنس أو عمر. كذلك فات دوكنز أن مثله الأعلى المدعى، برتراند راسل، قد وصف نفسه بأنه يتبنى (أو ينشئ) مذهباً فلسفياً جديداً كل بعضة سنوات، وهذا دأب معظم الفلاسفة الكبار"[19]. فهنا نلاحظ أن دوكنز لم يلتزم بكلام البغدادي من التركيز على الكتاب وليس على الكاتب !!
أتفق تماماً مع البغدادي في قوله: "ما يهمني هو ما يوجد في الكتاب, وليس كاتبهُ"، فهذا الأمر صحيح، ومن هنا أوجه اعتراضي على البغدادي في اتهامه للمؤمنين بوجود الإله بأنهم قد اهتموا بأنتوني فلو ولم يهتموا بالأدلة التي قدمها للإيمان بوجود الإله، فهذا الأمر غير صحيح، حيث جاء ذلك في حلقة له عبر اليوتيوب بعنوان (المغالطات المنطقية) خصصها للحديث عن ما أسماه بـ(التوسل بالمرجعية) تحدث فيها عن استضافته في إحدى القنوات الدينية في الشرق الأوسط مع طبيب جراح[20]حاول إثبات وجود الله من خلال استخدام مغالطة التوسل بالمرجعية، وذلك من خلال سرده –أي هذا الطبيب- لقائمة طويلة من أسماء العلماء الذين لم يسمع بهم المشاهد في الغالب. كما ذكر البغدادي بأن هذ الطبيب قد استشهد أيضاً بانشتاين وأنتوني فلو لإثبات وجود الله سبحانه وتعالى، وهذا كما يقول غير صحيح، لأن ذلك لا يعني بأن الله قد ثبت وجوده بالفعل، فالاستشهاد بإيمانهم بوجوه الإله لا يضيف جواباً للسؤال الذي نطرحه وهو: ما هو الدليل على وجود الله؟[21]. وكلام البغدادي هذا مجانب للصواب، لأن من يأتون بذكر أنتوني فلو من المؤمنين يستشهدون بالأدلة التي أوردها لإثبات وجود الخالق.
من المهم أن نذكر بعض الأدلة التي تحدث أنتوني فلو لإثبات وجود الخالق، وذلك لكي يكون اهتمامنا بما جاء في كتابه وليس به فقط كما ذكر البغدادي، ومن هذه الأدلة التي اعتمد عليها فلو برهان التناغم، حيث تحدث عنه تحت عنوان (كون أُعد لاستقبالنا!) بقوله: تصور أنك نزلت في إحدى رحلاتك بأحد الفنادق. وعندما دخلت غرفتك وجدت أن الصورة المعلقة فوق السرير نسخة مطابقة للصورة التي علقتها منذ سنوات فوق فراشك في بيتك، كذلك السجاد التي تغطي أرضية الغرفة، بل إنهم يضعون في المزهرية نوع الزهور نفسه التي تفضله.
وعلى المنضدة التي في ركن الغرفة، وجدت الطبعة الأخيرة من ديوان الشعر الذي تفضل القراءة فيه من حين لآخر، كما وجدت الصحيفة التي اعتدت قراءتها يومياً. وداخل الثلاجة، وجدت أنواع المشروبات والشيكولاته التي تحبها، كما أن زجاجة المياه المعدنية من نفس النوع الذي تستخدمه في وطنك.
وعندما شغلت جهاز التلفزيون، وجدت أن الإرسال الداخلي للفندق يعرض باستمرار الأفلام المفضلة عندك، كما تذيع الإذاعة الداخلية المقطوعات الموسيقية التي تحبها.
وفي الحمام، وجدت الحوائط قد غطيت بالقيشاني من نفس درجة اللون الفيروزي الذي تفضله، كما وجدت على أحد الأرفف نفس الشامبو والصابون اللذين اعتدت على استخدامهما.
وكلما جُلت ببصرك وجدت حولك تطابقاً بين ما تحبه واعتدت عليه، وبين ما وفرته لك إدارة الفندق. لا شك أن احتمال المصادفة يتناقص تدريجياً حتى يثبت في يقينك أن أحداً قد أطلع إدارة الفندق على تفاصيل حياتك ودقائق رغباتك"[22].
بعد سرده لهذه الحكاية المتصورة يتحدث أنتوني فلو تحت عنوان (نحن والوجود في تناغم) بقوله: "يسمى الفلاسفة المفاجآت التي قابلتك في الفندق، التي تؤكد أن هناك من يعرفك عن قرب ويعرف أنك قادم إلى الفندق، ببرهان التناغم Fine tuning argument. يصف الفيزيائي الكبير "فريمان ديسون Fremman Dyson" هذا البرهان بقوله:كلما ازدادت معارفنا التي تُظهر التطابق بين دقائق بنية الكون وبين احتياجاتنا، ازداد شعوري بأن الكون قد أُعد لاستقبالنا. ويُعرف المفهوم الذي يرى أن الكون قد تم بناؤه على هيئة تجعله ملائماً تماماً لنشأة البشر "بالمبدأ البشري The anthropic principle".
وبعدها يطرح هذا السؤال: "سؤال مهم يطرح نفسه، هل يرجع التوافق بين القوانين والثوابت الفيزيائية التي سمحت بظهور الحياة في كوننا، بين نشأة ووجود الكائنات الحية إلى الصدفة؟ لم يعد أحد من الفيزيائيين الكبار يقول بهذا الاحتمال، إذ إنهم لا يتصورون إمكان حدوث هذا التناغم بهذه الدقة الهائلة في كون واحد Universe عن طريق الصدفة"[23].
- الوقفة الرابعة: (أنتوني فلو يتحدث في غير تخصصه)
يقول البغدادي: "يقول انتوني فلو في كتابهِ (هناك إله) بأن التعقيد العالي والمثير للدهشة في شريط الدي آن أي في الخلية الحية لهُ الدور الاكبر في أقناعهِ بأن هناك مُصمم عظيم. يشير كذلك بأن أتساع معرفتنا عن علم الكون والفضاء لعبت دوراً هاماً في أقناعهِ بأن هناك مُصمم ذكي وراء كل هذا الكون. لاحظ معي بأن آنتوني فلو (فيلسوف في علم الكلام) يتحدث عن أدلة بيولوجية موجودة في (علم الحياة) مثل الدي أن أي أو أدلة فيزيائية موجودة في (علم الكون) مثل نشوء الكون. أي هو ببساطة يتحدث في موضوع ليس من أختصاصهِ أبداً. على سبيل المثال, نجار يتحدث عن طرق جديدة لجراحة القلب, أو عالم فيزياء عظيم يتحدث عن نظم أقتصادية حديثة!! بكل بساطة الموضوع ليس من أختصاصهم, وليس لخبراتهم أو شهاداتهم الخاصة في المجال الذي يبرعون فيه أي وزن في الموضوع الثاني الذي يتحدثون عنه. وهنا السؤآل الذي يطرح نفسهُ بشدة, ماهو مدى المام آنتوني فلو بعلم الحياة أو الفضاء؟"[24].
- المناقشة
يتم الاستشهاد بـ أنتوني فلو هو بصفته كان رمز كبيراً للإلحاد، وليس في كونه متخصص في البيولوجيا أو غيرها أو لا، والأمر الآخر أن المهم هو صحة استشهاداته بهذه العلوم وليس في كونه مجرد متخصص فيها، ولذا فإن كلام البغدادي مردود عليه، لأنه بحسب هذا المنطق فإن انتوني فلو كان في إلحاده وتنظيره للفكر الإلحادي يعتمد على أمور ليست من اختصاصه أيضاً، ومع ذلك كانت لآرائه وأفكاره تتداول بشكل كبير لدى الملحدين ولم يقل أحد حينها بأنه ليس متخصص.
§ تعرض أنتوني نفسه لهذه المسألة (مسألة التخصص)، وكأنه في كلامه يرد على البغدادي نفسه إذ يقول: "قد تسأل: كيف، وأنت الفيلسوف، تخوض في هذه القضايا العلمية؟ أجيب على هذا التساؤل بطرح سؤال: هل ما أطرحه عليكم في هذه الفصول علم أم فلسفة؟ عندما ندرس بناء الذرة من جسيمات تحت ذرية (إلكترونات وبروتوات ونيوتروات وكواركات) فنحن نتحدث في العلم. أما عندما نسأل كيف نشأت هذه الجسميات من عدم، ولماذا؟ فنحن نتحدث في الفلسفة. وعندما أعلنت عام 2004، أنه لا يمكن تفسير نشأة الحياة تلقائياً من المادة غير الحية، فلم يكون الشيء حياً، وعن علاقة ذلك بالحقائق الكيميائية والفيزيائية والوراثية. فالفيلسوف هو الذي يخرج من المعلومات العلمية باستنتاجات معرفية. وربما لا يعرف الكثيرون من البيولوجيين عن هذه الاستنتاجات أكثر مما يعرف بائع الآيس كريم عن القاعد التي تحكم البورصة وقوانين السوق الحرة. أنا لا أعترض على أن يخوض العلماء في الفلسفة، لكن عليهم أن يحصلوا الخلفية الفلسفية المناسبة. وعلى كل، فإن العلماء فلاسفة ضعاف، كما يقول أينشتين"[25].
ويردف قائلاً: "ولحسن الحظ، فإن علماء القرن العشرين البارزين، قد توصلوا إلى استنتاج فلسفي معرفي هائل، يفسر العديد من الظواهر الطبيعية المحيطة بنا، وهو أن هذا الكون بما فيه من حياة لا ينشئه إلا مصمم ذكي ومن ثم، توصل الكثيرون من العلماء والفلاسفة المعاصرين إلى أنه لا يمكن تفسير الأبعاد الخمسة المشار إليها سابقاً، إلا بالإقرار بوجود إله حكيم قادر"[26].
بناءً على ما سبق؛ قد يكون هؤلاء العلماء هم من دخلوا في مجال غير تخصصهم، ولذلك ينقد انتوني فلو هؤلاء العلماء بقوله:"من المشاكل التي تقابل الفلاسفة عند التعامل مع العلماء الماديين، قلة إدراكهم للانعكاسات المعرفية لتأويلاتهم المادية، وربما اعتبروا أننا كفلاسفة نخوض بحاراً لا طاقة لنا بها (البيولوجيا) بينما يرى الفلاسفة أن السؤال عن (كيف يستطيع كون من مادة غير حية غير عاقلة أن يخرج لنا الحياة العاقلة، والقادرة على التكاثر؟) سؤال فلسفي قبل أن يكون قضية علمية بيولوجية"[27].
§ أيضاً يتضح عدم صحة كلام البغدادي حول التخصص، إذا علمنا أن أتوني فلو قد استشهد في النتائج التي توصل إليها بوجود الخالق بآراء العديد من العلماء المتخصصين، فمثلاً في كلامه حول ما أسماه بـ (سمات الكائن الحي) ذكر ما يلي[28]:
السمة الأولى: الغائية: إذا تأملنا مفهوم الحياة بمنظور فلسفي، وجدنا أن السمة الأساسية المميزة لها أن للكائنات الحية غرضاً أو هدفاً متأصلاً في بنيتها (الغائية Telology)، هذا الهدف هو المحافظة على وجودها، وهو هدف لم يكن وجوداً في المادة غير الحية التي نشأت منها. وعندما لاحظ أرسطو الارتباط بين الحياة والغائية، عرف الحياة بأن يكون للشيء غاية في وجوده.
السمة الثانية: القدرة على التكاثر: بالرغم من أن جميع نظريات نشأة الحياة تنظر إلى التكاثر كأمر بديهي مصاحب للحياة، فإنه يعتبر التكاثر سمة مختلفة تماماً عن الحياة.
السمة الثالثة: نظام التشفير Coding System ومعالجة المعلومات Information Processing الموجود في جميع أشكال الكائنات الحية.
بعدها بدأ انتوني فلو بالاستشهاد بكلام العلماء لشرح المراد بنظام التشفير، منهم: ديفيد بييرلنسكي David Berlinski (عالم الرياضيات- أستاذ الرياضيات وحاصل على الدكتوراه في الفلسفة) وكذلك"كارل وويز Carl Woese (رائد دراسات أصل الحياة- يعمل أستاذاً للميكروبيولوجيا بجامعة ألينوس بالولايات المتحدة)[29].
وواصل أنتوني فلو حديثه واستشهاده بكلام العلماء المتخصصين تحت عنوان معضلة "التشكيل" Morphogenesis بقوله: "إن الحياة ليست مجرد تفاعلات كيميائية معقدة تنتهي ببناء البروتينات اللازمة للحياة وليست فقط اختزان المعلومات والصفات الوراثية ونقلها للأجيال التالية. إن مشكلة الأعقد التي تواجه الماديين بخصوص طبيعة الحياة هي مشكلة "التشكيل Morphogenesis".
يرى المفهوم السائد عند الماديين الاختزاليين Reductionists أن "الدنا DNA" (الذي تتكون منه جينات الخلية) مسئول عن كل صفات الكائن الجسمية والنفسية والسلوكية، ولا شك أن هذه النظرة الاختزالية مفجعة في قصورها؛ إذ ثبت للبيولوجيين أن الدنا، بالآليات التي تم التوصل إليها حتى الآن، يعجز تماماً عن تشكيل الكائن على هيئته الحقيقية morphogenesis (أي تحويله من مجرد معلومات إلى وجود حقيقي). يمكن أن نوضح مفهوم التشكيل بطرح مثال يقرب لنا الصورة: كيف يمكن أن تتحول كلمات نخطها على أوراق نصف فيها هيئة إنسان، مهما بلغت تفاصيلها ودقتها، إلى انسان حقيقي (من لحم ودم)! لقد أصبح من الضروري الإقرار بأن هناك نظاماً ما "مازال مجهولاً" هو المسئول عن هذا التشكيل. ولكن كيف؟ ما هو هذا النظام؟ ما زال مجهولاً مطلقاً"[30].
وبعدها يبين أنتوني فلو أن المشكلة التي يواجهها الماديون متعددة الجوانب بقوله: "يواجه البيولوجيون والفلاسفة الماديون مأزقاً علمياً فلسفياً لا يُحسدون عليه، وهو مأزق ذو جوانب متعددة لم يقدموا تفسيراً لأي منها:
أولاً: من أين اكتسبت المادة غير الحية الغائية (أي أن يكون لها هدف وتوجه) حتى تصبح كائناً حياً.
ثانياً: من أين اكتسبت المادة غير الحية (أو حتى المادة الحية الأولية) القدرة على التكاثر، هذه القدرة اللازمة لاستمرار الأنواع، كذلك لترقيها في سلم التطور؟
ثالثاً: من أين اكتسبت المادة غير الحية آلية التشفير ومعالجة المعلومات المميزة لجميع الكائنات الحية؟
رابعاً: كيف تتحول المعلومات المكتوبة بالحبر إلى كائنات حية، عملية "التشكيل Morphogenesis"[31].
وبعدها يستشهد أنتوني فلو بآراء عدد ممن وصفهم بأقطاب البيولوجيا في العالم وهم:
آندرو كنولAndrew Knoll (الأستاذ بجامعة هارفارد-أستاذ التاريخ الطبيعي والحفريات بجامعة هارفارد).
عالم الفيزياء النووية جيرالد شرويدر Geral Schroeder (حاصل على الدكتوراه في الفيزياء النووية والكونية ويعمل أستاذاً بالجامعة العبرية في القدس).
جون مادوكس John Maddox (رئيس التحرير الفخري لمجلة الطبيعة).
أنطونيو لازكانو Antonio Lazcano (أستاذ البيولوجيا المكسيكي).
عالم الفسيولوجيا الكبير جورج والد George Wald (الحائز على جائزة نوبل أمريكي عمل أستاذاً لوظائف الأعضاء بجامعة هارفارد حصل على جائزة نوبل عن أبحاثه في شبكية العين"[32].
فهؤلاء العلماء ما عدا الأخير لم يستطيعوا تفسير ذلك، وأما الأخير فيقربنا من الحقيقة حول أصل الحياة كما يقول أنتوني فلو، إذ يقول: "فيقول: بالرغم من أنها كانت صدمة لتفكيري العلمي في البداية، إلا أنه ينبغي أن أقر بوجود الذكاء والتصميم intelligence and design وراء بناء الكون، حتى يكون ملائماً لظهور الحياة وتطورها واستمراراها على كوكبنا. والأعقد من ذلك، نشأة الحياة نفسها، ثم خروج الكائنات الحية، التي تتدرج في الترقي حتى تصل إلى المخلوق العاقل القادر على التصل إلى الاكتشافات العلمية وابتكار الفن والتكنولوجيا وعلى طرح التساؤلات. أما إذا أنكرنا الذكاء والتصميم، وقلنا: إن الحياة قد نشأت بالصدفة، فقد اخترنا التفسير الأصعب"[33].
وبعدها يعقب أنتوني فلو على كلامه قائلاً: "وهذه هي أيضاً قاعتي: إن التفسير الوحيد المرضي عقلاً لوجود الحياة ذات الغاية، والقادرة على التكاثر والتي تحكمها آلية التشفير هو الإقرار بوجود الإله القديم الحكيم القادر"[34]. ومما سبق يلاحظ القارئ كم عدد العلماء الذين استشهد بهم أنتوني فلو في استدلالاته.
إن ريتشرد دوكنز صاحب كتاب (وهم الإله) نفسه ليس متخصصاً بالكون، فكيف يقبل البغدادي بكلامه، وهذا ليس كلامي وإنما هو كلام الفيزيائي الكبير جون بارو الذي وجه نقده اللاذع لمنهج دوكنز قائلاً له: إن ما تعانيه من مشاكل مع الدين يرجع إلى أنك لست عالماً حقيقياً، فأنت من البيولوجيين ولست من الفيزيائيين!، ولذلك فأنت تعجز عن تصور حجم ما في الوجود والحياة من تعقيد. ويضيف جون بارو موجهاً نقده الساخر لدوكنز: إنك ما زلت محكوماً بعقدة البيولوجيين التطوريين في القرن التاسع عشر، ورغبتهم في إثبات وجهة نظرهم بأي ثمن، ولو على حساب الحقيقة، ولا شك أن لي الحقائق لا يعين كثيراً أو قليلاً في فهم القوانين التي تحكم الكون"[35]. الآن هل يجرأ البغدادي أن يقول عن دوكنز نفس ما قاله عن أنتوني فلو؟!!
- الوقفة الخامسة: الإيمان بوجود الخالق لا يجعل الأمر حقيقة
يقول البغدادي: "ثانياً, لو أفترضنا جدلاً بأنك أستيقظت غداً ورأيت العالم كلهُ صار يهودياً أو هندوسياً, هل يعني هذا بأي شكل من الاشكال بأن الهندوسية أو اليهودية هي أديان حقيقية, هل يعني هذا بأن إله اليهود يهوة أو آلهة الهندوسية المتعددة مثل شيڤ-;- او كريشنا وبراهما موجودة حقاً وبأنهم جزء حقيقي من عالمنا الحقيقي؟ في الحقيقة لا, والدليل واضح جداً من تاريخ البشرية. على مر العصور, فأن أعتقاد البشرية بأن الارض مسطحة لم يجعل الارض مسطحة أبداً. وأعتقاد البشرية في كل العصور السالفة بأن الارض مركز الكون لم يغير موقع الارض في الكون, بل كانت ولازالت حتى اليوم ذلك الكوكب الذي يدور حول شمس صغيرة على أطراف مجرة صغيرة من بين مليارات المجرات العملاقة ومليارات المليارات من الشموس الآخرى. نفس الشيء ينطبق على أعتقاد آنتوني فلو, أو أي شخص ثاني في العالم بأي شيء دون دليل, أعتقادهم كان ولازال وسيبقى لاقيمة لهُ مادام لايملك من الادلة والبراهين ما يدعمهُ"[36].
- المناقشة
من قال للبغدادي بأنه إذا اعتقد الناس بأمر يعني بأنه أصبح أمراً حقيقياً، فهذا الكلام لا أظن بأن هناك من يختلف معه حوله، ولكن ينبغي العلم بأن هذا الأمر يشمل حتى البغدادي نفسه ومن سار على نهجه من الملحدين، إذ أن اعتقادهم بعدم وجوه خالق للكون لا يعني عدم وجوده بالفعل، لأن هذا بحاجة لتقديم دليل أيضاً.
حاول البغدادي الإيحاء بأن انتوني فلو آمن بوجود الإله دون دليل في قوله: "الشيء ينطبق على أعتقاد آنتوني فلو, أو أي شخص ثاني في العالم بأي شيء دون دليل, أعتقادهم كان ولازال وسيبقى لاقيمة لهُ مادام لايملك من الادلة والبراهين ما يدعمهُ" وتجاهل الأدلة التي ذكرها في كتابه.
بناءً على ما سبق، فإنني أحب أن أضيف دليلاً علمياً تجريباً ذكره انتوني فلو ليس من أجل إثبات كلامه وإنما لنقض ما يسمى بـ(برهان القردة) الذي يتمسك به الملحدون، حيث قال: "تقول القاعدة الفلسفية: إن البرهان الفلسفي يُعتبر متكاملاً إذا اجتمع فيه الدليل على صدق الرأي، مع الدليل على خطأ الرأي المقابل. لذلك أعجبني كثيراً تفنيد العالم "جيرالد شرويدرGerald Schroeder في كتابه "علم الإله Scienceof God للدليل الذي يسمونه "برهان القردة". يشبه القائلون بهذا الرأي إمكانية نشوء الحياة بالصدفة بمجموعة من القردة، تدق بإستمرار على لوحة مفاتيح الكمبيوتر Keyboard، ويرون أن القردة يمكن أن تكتب بالصدفة، في إحدى محاولاتها اللانهائية، قصيدة لشكسبير Sonnet.
يبدأ شرويدر تفنيده بعرض تجربة أجراها المجلس القومي البريطاني للفنون، وفيها وضع الباحثون ستة من القردة في قفص لمدة شهر، وتركوا معها لوحة مفاتيح كمبيوتر، بعد أن دربوهم على دق أزرارها.
كانت النتيجة 50 صفحة مكتوبة، دون كلمة واحدة صحيحة، حتى لو كانت هذه الكلمة من حرف واحد مثل A(لاحظ أنه لابد من وجود مسافة قبل حرف A ومسافة بعده حتى نعتبره كلمة). وإذا كانت لوحة المفاتيح تحوي ثلاثين مفتاحاً (26 حرفاً+4 رموز)، فإن إمكانية الحصول على كلمة من حرف واحد بالصدفة، عند كل محاولة، تصبح 1/30*30*30 أي 1/27000.
بعد ذلك طبق شرويدر هذه الاحتمالات على قصيدة (سوناتا) لشكسبير، فخرج بنتائج عرضها كالتالي:
اخترت لشكسبير السوناتا التي تبدأ ببيت Sall I compare thee to a sumer,s day، وأحصيت حروفها فوجدتها 488 حرفاً. ما هي احتمالية أن نحصل بالطرق على أزرار لوحة الكمبيوتر على هذه السوناتا بالصدفة (أي أن تترتب الـ488 حرفاً نفس ترتيبها في السوناتا)؟ إن الاحتمال هو واحد مقسوم على 26 مضروبة في نفسها 488 مرة، أي 26-488 هو ما يعادل 10-690.
وعندما أحصى العلماء عدد الجسيمات في الكون (إلكترونات، وبروتونات، ونيوترونات) فوجدوها 10 80 أي واد وعلى يمينه 80 صفراً. معنى ذلك أنه ليس هناك جسيمات تكفي لإجراء المحاولات، وسنحتاج إلى المزيد من الجسيمات بمقدار 10 600.
وإذا حولنا مادة الكون كلها إلى رقاقات كمبيوتر Computer Chips، تزن كل منها جزءاً من المليون من الجرام، وافترضنا أن كل رقاقة تستطيع أن تجري المحاولات، بدلاً من القردة، بسرعة مليون محاولة في الثانية، نحد أن عدد المحاولات التي تمت منذ نشأة الكون هي 10 90 محاولة. أي إنك ستحتاج مرة أخرى كوناً أكبر بمقدار 10 600! أو عمراً أطول للكون بفس المقدار!.
يقيناً لن نحصل على سوناتا بالصدفة، حتى لو كان الكاتب هو الكمبيوتر وليس القردة. إن للصدفة قانوناً، فالمتخصصون لم يتركوا كل مدع ينسب إليها ما يشاء، ليستر بها جهله وتهافت أدلتته. لقد حدد المتخصصون ما يُعرف "بمقدار الاحتمال الملزم Universal Probability Bound"، الذي يستحيل بعده تفسير حدوث أمر ما بالصدفة وحدها. ويبلغ هذا الاحتمال 1: 10 150، فهل يمكن أن يقع بالصدفة أمر احتماله يبلغ 1: 10 690 أخبرت شرويدر بأن طرحه هذا أثبت لي أن "برهان القردة" لا يعدو إلا أن يكون كومة من النفايات، بالرغم من جرأة من يعرضون هذا البرهان، ويدعون أن القردة يمكن أن تكتب رواية كاملة لشكسبير، مثل هاملت أو عطيل، أو حتى أعمال شكسبير كلها". وإذا كان هذا الرأي يعجز عن إثبات إمكانية كتابة سوناتا بالصدفة، فهل سينجح في تفسير نشأة الحياة بالصدفة من المادة غير الحية؟!
بهذا العرض لشرويدر –والكلام لـ أنتوني فلو- انهار تماماً البرهان العقلي الذي يستند إليه الملاحد. وإذا أضفنا إلى ذلك قوة البرهان الذي يقدمه التعقيد الهائل في بنية الكون وفي بنية وآلية عمل جزيء الدنا، اكتمل لدينا البرهان الفلسفي (الدليل على صدق الرأي مع الدليل على خطأ الرأي المقابل) على وجود الإله الحكيم القادر"[37].
- الوقفة السادسة: (اثبات وجود الله غير قابل للاختبار)
يقول البغدادي: "النقطة الثالثة والمحورية جداً هنا وهي أن افتراض وجود كيان ذكي خلف الاشياء التي تبدو لنا معقدة, فقط لأننا لانفهم أو لانعرف بعد كيف نشأت أو تطورت هذه الاشياء هو مغالطة منطقية معروفة ومرفوضة منذ قرون. هذه المغالطة قائمة على خداع النفس فقط والفرار من السؤآل الحقيقي بأفتراض وجود إجابة وهمية, وبما أننا نفترض هذه الاجابة, لذلك غالباً ماتكون هذه الاجابة شاملة وهلامية وغير قابلة للأختبار أو التفنيد, تماماً مثل أفتراض وجود الله لحل مشكلة التعقيد في الكون. لكن لو أفترضنا جدلاً وجود الله كحل لمشكلة التعقيد الغير قابل للأختزال, مثل شريط الدي أن أي, فمنطقياً أن يكون هذا الله أكثر تعقيداً من شريط الدي أن أي نفسهُ, وبهذا فنحن لم نحل المشكلة بل فقط جعلناها أكبر"[38].
- المنافسة
يبدو أن البغدادي يحصر الأدلة على وجود الله في الأدلة المادية التي تقبل الاختبار والفحص، وهو بهذا يسير على وفق الفلسفة الوضعية المنطقية، وهذا غير صحيح، فليس كل الأدلة على هذه الشاكلة، لأن الأدلة تختلف من علم لآخر، نظراً لاختلاف مناهج البحث في كل علم، وكلام البغدادي هذا يدحض حجة الملحدين في نظرية التطور، فهل خضعت نظرية التطور للفحص والتجربة حتى يؤمن بها؟! بمعنى هل أثبتوا لنا من خلال التجربة تطور الكائن الحي؟! بالتأكيد بأن هذا غير ممكن حتى ولو كانت النظرية صحيحة، لأن إثبات التطور بالتجربة يحتاج إلى مئات الآلاف من السنين إذا لم نقل ملايين السنين، وقصر حياة الإنسان لا تؤهله ليرى هذه التجربة.
بناءً على ما سبق، نفهم النقد الذي وجهه أنتوني فلو لهذه الفلسفة، حيث "ترى الفلسفة الوضعية المنطقية أن مفاهيم مثل الإله أو الروح أو التدين أو الإلحاد لا تعني شيئاً؛ إذ لا يمكن إثبات خطئها أو صحتها تجريباً أو رياضياً أو منطقياً. لذلك فإن مقولة مثل "الله موجود" لا معنى لها، ومن ثم يتساوى أمام العقل أن يكون الإنسان مؤمناً أو ملحداً" وأما أنتوني فلو بحسب ما ذكره أبراهام فارجيس فيرفض "هذا التعالي المتغطرس والازدراء الذي تمارسه الفلسفة الوضعية المنطقية تجاه المفاهيم الدينية"[39]، علماً بأن هذه الفلسفة قد وجه النقد لها حتى من قبل من قاما بتأسيسها وهم (ويتجنشتين وآير)، حيث قاما "بإعلان موتها والقيام بدفنها"[40]. ولكن البغدادي ومن يسير على نهجه ما زال متمسكاً بها أشد التمسك، فيا للعجب !! ويصف أبراهام فارجيس الإلحاد الجديد –الذي يتبعه أمثال البغدادي- بأنه الردة نحو الفلسفة الوضعية المنطقية ويصف أفعالهم بقوله: "وتهاجم هذه الكتابات جميع الديانات (السماوية وغير السماوية) باختلاف أماكنها وأزمانها. وبالرغم من ذلك فهي تتحدث بلهجة وعظية أصولية، يرتدي فيها المؤلفون ثياب الوعاظ الذين يصمون القراء بالجهل والسطحية، ويوجهون إليهم السُباب اللعين إذا لم يتوبوا عن إيمانهم الساذج بالألوهية والربوبية!". ويضيف قائلاً:" والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل أثرى كتاب هذه الموجة المناقشات الفلسفية التي استعرت طوال العقود السابقة حول قضية التدين؟ والإجابة بالنفي، وذلك لثلاث أسباب:
أولاً: لم يدل المتفلسفون الملاحدة الجدد برأي ذي قيمة في القضايا الفلسفية المتعلقة بمفهوم الربوبية بل نجد منهم تهرباً عجيباً من هذه القضايا. فهذا كبيرهم ريتشارد دوكنز يصف نشأة الحياة والعقل بأن ذلك كان "حدثاً عارضاً نتيجة لضربة حظ!". وهذا لويس ولبرت يقول: "لقد تعمدت تحاشي الخوض في نشأة العقل؛ إذ إننا ما زلنا لا نفهم عنه شيئاً!". بينما يحل الفيلسوف والبيولوجي الأمريكي الشهير دانييل دينيت معضلة نشأة العقل بسذاجة شديدة؛ إذ يقول: "ثم حدثت المعجزة!!".
ثانياً: لم يدرك الملاحدة الجدد نقاط الضعف الجذرية في بنية "الفلسفة الوضعية المنطقية" البائدة التي يسعون لإحيائها، ولا شك أن من يتجاهل الأخطاء المنهجية في القضية التي يتعامل معها سوف يقع فيها لا محالة، وقد حدث.
ثالثاً: لم يطلع الملاحدة الجدد على الكم الهائل من الدراسات الفلسفية الجديدة، ولا على البراهين القوية التي قدمها العلم، وصارت تخدم دراسات فلسفة الأديان.
لذلك ينتهي إلى النتيجة بقوله: "لذلك نقول بمنتهى الموضوعية، إن الإلحاد ما هو إلا ردة إلى الفلسفة الوضعية المنطقية التي تم رفضها ودفنها من قبل أشد المتحمسين لها"[41].
هناك حكاية رمزية جميلة يذكرها أنتوني فلو تحت عنوان (العلم والحكمة) أرى من المهم إيرادها فهي قد تفسر لنا تصرفات هذه الفئة من الملحدين وهي في قوله: تصور أن بعض رجال قبيلة بدائية وجدوا على شاطئ جزيرتهم المنعزلة هاتفاً محمولاً يعمل عن طريق الأقمار الصناعية، أخذ الرجال البدائيون يضغطون على مفاتيح أرقام الهاتف في تتابعات عشوائية، كانوا في كل مرة يسمعون ضوضاء مختلفة بأصوات مختلفة، كان تفسيرهم الأول أن هذه الأصوات تأتي من داخل الهاتف. بعد محاولات عديدة لاحظ بعضهم (علماء القبيلة) أنهم يحصلون على نفس الضوضاء وبنفس الصوت إذا ضغطوا على مفاتيح الهاتف بنفس التتابع، فتوصلوا إلى أن هذا الشيء المكون من الزجاج والمعدن، ذا الألوان الزاهية، الذي يُصدر ما يشبه الصوت الإنساني، يتجاوب مع ما نعطيه من تعليمات.
استدعى حكيم القبيلة علماءها للتشاور، وأخبرهم أنه قد فكر كثيراً فيما نقلوه إليه من أخبار، وتوصل إلى أن ما يسمعونه عن طريق الشيء إنما هي أصوات لبشر مثلهم، يعيشون في مكان بعيد ويتحدثون بلغة مختلفة، وأن هذا الشيء يقوم بالتواصل (بطريقة ما) مع هؤلاء البشر، وطالب الحكيم العلماء ببذل الجهد من أجل استكشاف وتحقيق فهم أفضل للعالم من حولهم.
ضحك العلماء ساخرين مما توصل إليه الحكيم، وقالوا: إنظر، عندما نحطم هذا الشيء سيختفي الصوت، مما يثبت أن هذه التركيبة من الزجاج والمعدن والألوان هي التي تصدر هذا الصوت، ولا شيء غير ذلك. وانهالوا على الهاتف المحمول بصخرة حطمته إلى أشلاء"[42].
بعد سرده لهذه الحكاية يؤكد أنتوني فلو على أمرين وهما[43]:
أولاً: تؤكد هذه الحكاية الرمزية أن مفاهيمنا المسبقة توجه تحليلنا للظواهر وللبراهين والحجج والصواب أن ندع للبراهين والحجج الجديدة الفرصة لأن تعيد تشكيل مفاهيمنا وآرائنا. إن تمسكنا بمفاهيمنا السابقة كثيراً ما يعيقنا عن التفكير في مفاهيم أرحب عن العالم.
ثانياً: تُظهر الحكاية أن للحقيقة مستويات معرفية متعددة. فهناك فهم العوام، وفهم العلماء، وفهم الحكماء. ويتوقف إدراكنا لهذه المستويات على قدرتنا على الانطلاق بفكرنا دون قيود من مقدمات ومسلمات خاطئة.
ويعقب أنتوني فلو على ذلك بقوله: "إن هذا نفس الحاجز العقلي الذي واجه زملائي (السابقين) الملاحدة عندما أعلنت قناعتي بوجود إله، بناءً على ما أظهره العلم الحديث من حقائق. فأخذوا يرددن في شبه هستيريا (خالية من المنطق والبرهان العلمي أو الفلسفي) مفاهيم تعيقهم عن التفكير الحر وتقف بهم عند مستوى ضحل من الإدراك، مثل:
- لا ينبغي أن نبحث عن تفسير لكيفية وجود الكون، وعلينا أن نقبل فقط أنه موجود.
- إذا كان من العسير علينا قبول فكرة وجود خالق للكون، فمن باب أولى لن نقبل فكرة وجود خالق للحياة. ولا مفر أمامنا من التسليم بأن الحياة قد نشأت ذاتياً بالصدفة من المادة غير الحية"[44].
ويختم تعليقه على هذه الحكاية بطرحه سؤالاً مهماً على الملاحدة وهو: "ما الذي تنتظرونه من حيثيات عقلية أو علمية حتى تقبلوا إعادة النظر في رفضكم لأن يكون هناك عقل ذكي وراء هذا الوجود؟"[45].
- الوقفة السابعة: (أنتوني يسخر من الحاجة للأنبياء والوحي)
يقول البغدادي: "أخيراً, فأنهُ من المهم الإشارة الى أن آنتوني فلو لم يشهر إسلامهُ أبداً بل هي كذبة يتداولها البعض لأسباب أنا شخصياً أجهلها, ومهما بحثت لم أجد مصدر حقيقي لهذه المعلومة. في الحقيقة أن آنتوني فلو في كتابهِ (هناك إله) لم يتطرق لله الإبراهيمي أساساً, بل لإله الربوبيين الذي لايتدخل في الكون الذي خلقهُ. والربوبية هي مذهب لا ديني لا تؤمن بالمعجزات والانبياء, بل ترفض كلياً فكرة الوحي وأن تسخر من فكرة أن خالق الكون سيحتاج لأنبياء وكتب ومعجزات كي يخاطب البشر. بعبارة أخرى, الربوبيين يكفرون بالاديان الابراهيمية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والاسلام). لذلك عندما سأل آنتوني فلو عن الله الابراهيمي وعن الاسلام بشكل خاص في مقابلة لهُ في ديسيمبر 2004 قال, (الإله الذي أتحدث عنه هو ليس إله المسيحية وبعيد كل البعد عن إله الإسلام, الاثنين لا يجسدون سوى ملامح الطاغية الشرقي, الله كأنهُ صدام حسين بحجم كوني)"[46].
- المناقشة
من المعروف بأن انتوني فلو لا يقر بالأديان والأنبياء والوحي، ومن يستشهد به يعرف ذلك أتم المعرفة، ولذلك فإنه يستشهد به من أجل إثبات وجود الخالق فقط وليس لأي أمر آخر، وأما إثبات هذه الأمور فهي تأتي في مرحلة لاحقة، وهذا ما بينه أنتوني فلو نفسه في كتابه (هناك إله) إذ يقول: "ومنذ أعلنت ذلك كثر في الإعلام القول بأن كبر سني وخوفي من الانتقال إلى الحياة الأخرى ولقاء الإله، يقف وراء تحولي عن الإلحاد إلى الإيمان. إن من يرددون هذا الكلام لم يتابعوا كتابي حول عدم إيماني، حتى الآن، بوجود حياة أخرى بعد الموت، بالرغم من إيماني بالإله الخالق للكون. وقد طرحت تصوري الأخير لهذا الأمر في كتابي "منطقية الموت The Logic of Mortality"[47]. إن هذا المفهوم، مع عدم تقبلي لفرة تجسد الإله على هيئة بشرية (المسيح) كما يؤمن المسيحيون، من الأمور التي لم أغير فيها رأيي"[48].
مع ذلك كل ما سبق، فإن أنتوني فلو لا يسخر من فكرة الرسل كما حاول أن يصور البغدادي في قوله بأن الربوبية التي يتبعها فلو "ترفض كلياً فكرة الوحي وأن تسخر من فكرة أن خالق الكون سيحتاج لأنبياء وكتب ومعجزات كي يخاطب البشر"، وذلك لأن أنتوني فلو يقول عن هذه المسألة: "إذا كانت رحلة الفلاسفة العقلية ورحلة العلماء البحثية قد توصلت إلى القول بالإله الحكيم القادر، فلا مانع عندي من تقبل فكرة أن يكتشف الإله عن نفسه لمخلوقاته من خلال الوحي وإرسال الرسل، إذا وجدت الدليل على ذلك. هناك من يقول: إنه قد نجح في التواصل مع الإله، بينما لم يحدث ذلك لي بعد، ربما يأتي اليوم الذي أسمع فيه من يناديني: "الآن هل تسمعني؟"!!"[49]. وهذا الكلام يؤكد عدم صحة ما صوره البغدادي.
- كلمة الختام
أحب أن أختم مقالي هذا بكلام لـ أنتوني فلو، حيث يقول: بأن اهتمامه بالإله ينبع من ثلاث كلمات[50]:
الأولى: اهتمام حكيم :Prudential إذ إنه إذا كان هناك إله يسيطر على مصير الإنسان، فمن الحمق ألا نتعرف إليه ونعمل على مرضاته.
الثانية: اهتمام أخلاقي moral: إذ لا شيء جدير باهتمام الإنسان، ويحقق له الخلود، قدر الوقوف إلى جانب الحقيقة.
الثالثة: اهتمام فضولي curious: إذ لا شيء يثير العقلية العلمية-الفلسفية قدر استكشاف الأمور العظيمة، ولا أعتقد أن هناك أعظم من اكتشاف أن هناك إلهاً.
لتحميل البحث كاملا اضغط هنــــــــــــــــا
جديد الموقع
- 2024-11-22 عادات قرائية مفيدة
- 2024-11-22 مع أن الأديان تتحدث عن قيمة التواضع الفكري، لكن قد يصعب على رجال الدين بشكل خاص تطبيق ما يدعون إليه الناس
- 2024-11-22 يرجع الفضل في استمرارك في تذكر كيف تركب دراجتك الهوائية إلى منطقة المخيخ في دماغك.
- 2024-11-22 نظرة على البنوك في المملكة.
- 2024-11-22 المخرج الشاب مجتبى زكي الحجي يفوز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان غالاكسي السينمائي الدولي35
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد