2017/07/12 | 0 | 2276
السَّبُّ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ
تَمْهِيدٌ
انتشر مقطع فيديو للشيخ علي الدهنين –هدانا الله وإياه- من كلمة له في ذكرى ميلاد الإمام المهدي المنتظر (ع) لهذا العام 1438هـ، تحدث فيه عن تكريس القرآن الكريم لثقافة السبّ تجاه المنحرفين، وذلك من خلال ممارسته عملياً في بعض آياته، كما في قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾، وقوله تعالى: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ﴾. وكان كلامه في سياق تحريضي واضح ضد من وصفهم بالمنحرفين، حيث قال بعدها مخاطباً الجمهور بصوت عالٍ وهو منزعج: "أين الأمر بالمعروف؟ أين النهي عن المنكر؟ أين الوقفة الصارمة تجاه الانحرافات؟" أين ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾؟".
ورداً على من يستنكر كلامه حول ممارسة السبّ بحجة أنَّ ذلك منافٍ للأخلاق قال الشيخ الدهنين: "نعم، الأخلاق لها موضع، لها حدود، لها ضوابط..."[1]. أي، أنَّ الأخلاق لا تستعمل في كل الحالات وعلى كل الأحوال.
ولقد أثار كلامه هذا ردود أفعال واسعة، وقد شايعه على ذلك البعض منهم الشيخ حيدر السندي الذي أكد هو الآخر على تكريس القرآن الكريم لهذه الثقافة (السَبٌّ)[2]، بل إِنَّهُ توسع كثيراً في بيان المسألة تبريراً لكلام الشيخ الدهنين، رغم أنَّ بعض ما جاء في كلامه لا ينسجم أبداً مع ما طرحه الشيخ الدهنين في المقطع المنشور، وسوف يتضح ذلك جلياً بإذن الله في طيات هذا المقال.
تنبيهات عامة
من المهم الاطلاع على ما طرحه الشيخان الدهنين والسندي حول مسألة السبّ في القرآن الكريم قبل قراءة هذا المقال، لأني لم أنقل كل ما طرحوه في هذا الشأن.
سوف يكون كلامي مخصصاً بمسألة السبّ في القرآن الكريم وما يتعلق بها، ولذا لن أتطرق لمناقشة المسألة في الأحاديث الواردة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته (ع) إلا بقدر الضرورة التي تدعم البحث القرآني في بعض الموارد.
لن أحاول نفي وجود السبّ في القرآن الكريم مطلقاً على كل الآراء والتوجهات، فهذه المسألة كغيرها من المسائل الدينية التي يوجد حولها خلاف، وإنما كل ما سأفعله هو إبراز وجهة نظر الاتجاه الرافض لتكريس القرآن الكريم لهذه الثقافة، وذلك لأنَّ هذا الاتجاه تم تجاهله أو التقليل من شأنه أو تأويل كلامه بخلاف ظاهره من قبل بعض المخالفين له كالشيخين الدهنين والسندي.
لا بد من التأكيد أنَّهُ حتى مع فرض وجود السبّ في القرآن الكريم على بعض الآراء، فإِنَّ هذا شيء واتخاذه منهجاً والدعوة لممارسته كثقافة عامة تجاه المنحرفين شيء آخر، ولذا لا ينبغي الخلط بين الأمرين.
السَبٌّ عند الشيخين الدهنين والسندي
قبل أنَّ نناقش الأدلة التي استدل بها الشيخ الدهنين لتكريس القرآن الكريم لثقافة السبّ والشتم؛ من المهم أنَّ نتعرف على ما هو مراده من مفردة السبّ؟ وذلك لكي لا يقول لنا قائل بأننا قد أخطئنا في فهم كلامه، كما هي العادة المتبعة لدى الشيخ الدهنين وأنصاره بعد كل إثارة وبلبلة يُحدثوها في المجتمع.
والحقيقة أنَّ الشيخ الدهنين لم يتطرق لبيان مراده من السبّ بشكل مباشر، ولكن يُفهم من سياق كلامه أَنَّهُ كان يقصد به الكلام الذي يتنافى مع حدود الأخلاق، وذلك لأَنَّهُ بعد أنَّ دعى لممارسة السبّ تجاه المنحرفين زاعماً أنَّ القرآن الكريم قد استعمله في قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾، وقوله تعالى: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيم﴾ٍ، ذكر رداً على من يستنكر ذلك لمنافاته مع الأخلاق والأدب أنَّ الأخلاق لها موضعها وحدودها وضوابطها[3]. وهذا الكلام يُوحي -كما هو واضح- أَنَّهُ يرى أنَّ السبّ يقع في قبال الأخلاق.
غير أنَّ الشيخ حيدر السندي –وهو ممن شايعه على هذا القول- أراد أنَّ يُوجه كلام الشيخ الدهنين توجيهاً آخر، وذلك بالقول بأَنَّهُ ليس المقصود بالسبّ الذي أراده الشيخ الدهنين خصوص ما يتنافى مع حدود الأخلاق، وإنما هو كل ما يُفيد النقص والازدراء، ولقد حاول الشيخ السندي الاستفادة من اللغة لإثبات ذلك من خلال إيراد ما ذكره الطريحي في مجمع البحرين لبيان المراد من مفردة (الشتم)، حيث نقل عنه قوله: "الشتم: السبّ، بأنَّ تصف الشيء بما هو ازدراء ونقص"[4]. وذلك ليقول بعدها بأنَّ أي وصف في القرآن الكريم يفيد النقص فهو يدخل في إطار السبّ والشتم، وهذا مما يدلّ على وجود السبّ في القرآن الكريم، بل ويدلّ على تكريسه لهذه الثقافة أيضاً، ولكن هذا التوجيه جاء بخلاف الظاهر من كلام الشيخ الدهنين، حيث يُفهم من سياقه أَنَّهُ أراد بالسبّ ما يُقابل الأخلاق بالضرورة كما بينا آنفاً. ورغم معرفتنا لهذا الأمر إلا أننا سوف نبحث المراد بالسبّ والشتم في كلمات اللغويين لما لذلك من أهمية كبرى[5].
السبّ والشتم في كلمات اللغويين (جولة في قواميس اللغة)
من الخطأ اختزال جميع آراء اللغويين بما ذكره الطريحي في مجمع البحرين كما حاول الشيخ السندي، فهناك آراء أخرى ذكرها اللغويون بخصوص هاتين المفردتين (السبّ والشتم)، ولذا سنقوم بإيراد ما يتعلق بهما في القواميس اللغوية، وسيكون ذلك بحسبّ الأقدمية الزمانية في التالي[6]:
أولاً: كتاب (العين) للخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى (170هـ):
السبّ: "والسِّبُّ: الكثير السِّباب... والسَّبّابَةٌ: الإصبَع بعد الإِبهام. والسُّبَّةُ: العارُ"[7].
الشتم: "شتم: شَتَمَ فلانٌ فلاناً شتماً. وأسدٌ شَتِيمٌ وحمارٌ شَتِيمٌ، أي: كريهُ الوجه"[8].
ثانياً: كتاب (تهذيب اللغة) للأزهري المتوفى (370هـ):
السبّ: "سب: الحرّاني عن ابن السكّيت قال: السَّبُ: مصدَرُ سَبَبْتُه سَبّاً. والسِّبُ: الخِمارُ. قال: وسِبُّك: الّذي يُسابُّك وأَنشَد:
لا تَسُبَّنَّنِي فَلسْتَ بسبِّي إنَّ سِبِّي من الرّجال الكَرِيمُ
أبو العبّاس عن ابن الأعرابي : السِّبُ: الطِّبِّيجات. قلت: جعل السّبُ جمع السّبّة وهي الدُّبر.
وقال الفراء: السَّبّ القَطَع وأَنشَد:
وما كان ذنبُ بني مالكٍ بأنَّ سُبّ منهمْ غُلامٌ فسَبْ
عرَاقيبَ كُومٍ طِوالِ الذُّرَى تخرُّ بَوائكُها للرُّكَبْ
قال: أراد بقوله: «سُبَ»، أي: عُيِّر بالبُخْل فسَبَ عَراقبَ إبلِه أَنَفةً ممّا عُيِّر به. والسَّيفُ يسمَّى سَبّابَ العَراقيبِ لأَنَّهُ يقطعُها"[9].
الشتم: "شتم: قال الليث: شَتَمَ فلان فلاناً شَتْماً. وأسَدٌ شَتِيمٌ، وحمارٌ شتيم، وهو الكريهُ الوجه القبيح. ثعلب، عن ابن الأعرابي: الشَّتْمُ: قبيحُ الكلام، وليس فيه قَذف، وقال: هو يشْتِمُهُ ويَشْتُمُه، قال: والمشتَمةُ والشَّتِيمَةُ: الشَّتْم"[10].
ثالثاً: كتاب (جمهرة اللغة) لابن دريد المتوفى (321 هـ):
السبّ: "سبّ يسب سبا. وأصل السب الْقطع ثمَّ صَار السب شتماً لِأنَّ السب خرق الْأَعْرَاض. قَالَ الشَّاعِر// (مُتَقَارب)//:
فَمَا كَان ذَنْب بني مَالك بِأنَّ سبّ مِنْهُم غُلَام فسب
أَي شتم فَقطع"[11].
الشتم: "[شتم] وشتمت الرجل أشتمه شتماً وَالِاسْم الشتيمة والمشتمة أَيْضاً. وَرجل شتامة: كثير الشتم كَمَا قَالُوا عَلامَة ونسابة. وَرجل شتيم وشتام: كريه المنظر وَبِه سمي الْأسد شتيما. والشتامة الْمصدر. وَقد سمت الْعَرَب شتيما وَهُوَ أَبُو بطن مِنْهُم ومشتما"[12].
رابعاً: كتاب (المحيط في اللغة) للصاحب إسماعيل بن عباد (385هـ):
السبّ: "السَّبُّ: الشَّتْمُ، والسِّبَابُ: المُشَاتَمَةُ، والسِّبُّ: الذي يُسَابُّكَ. والمَرْأةُ سِبٌّ- أيضاً-. والسَّبُّ: القَطْعُ. ويُقال للسَّيْفِ: سَبّابُ العَرَاقِيْبِ. وأصْلُ السَّبِّ: العَيْبُ. وبَيْنَهم أُسْبُوْبَةٌ: يَتَسَابُّوْنَ. ورَجُلٌ سُبَبَةٌ: يَسُبُّ النّاسَ، وسُبَّةٌ: يَسُبُّه الناسُ. والسَّبّابَةُ: الإصْبَعُ المُشِيْرَةُ، وهي المِسَبَّةُ أيضاً"[13].
الشتم: "شتم: شَتَمَ فلأنَّ[فلاناً] شَتْماً، ومَثَلٌ: «شَتَمَكَ مَنْ بَلَّغَكَ». وأسَدٌ شَتِيْمٌ، وحِمَارٌ شَتِيْمٌ: كَرِيْهُ الوَجْهِ"[14].
خامساً: كتاب (معجم مقاييس اللغة) لابن فارس المتوفى (395 هـ):
السبّ: "سب السين والباء حَدّهُ بعضُ أهل اللغة- وأظنُّه ابنَ دريد- أنَّ أصل هذا الباب القَطع، ثم اشتقّ منه الشَّتم. وهذا الذى قاله صحيح. وأكثر الباب موضوعٌ عليه. من ذلك السِّبّ: الخِمار، لأَنَّهُ مقطوع من مِنْسَجه. فأمّا الأصل فالسَّبّ العَقْر؛ يقال سبَبْت الناقة، إِذا عقرتَها. قال الشاعر:
فما كان ذنبُ بنى مالكٍ * * * بأنَّ سُبّ منهم غلامٌ فَسبّ
يريد معافرة غالب بن صعصعة وسُحيم. وقوله سُبَّ أى شُتِمَ. وقوله سَبّ أى عَقَر. والسَّبّ: الشتم، ولا قطيعة أقطع من الشَّتِم. ويقال للذي يُسابّ سِبّ. قال الشاعر:
لا تَسُبَّنَّنِى فلستَ بِسبّى * * * إنَّ سَبِّى من الرجال الكريمُ
ويقال رجل سُبَبَة، إذا كان يسُبُّ الناسَ كثيراً. ورجل سُبَّة، إذا كان يُسَبُّ كثيراً. ويقال بين القوم أُسْبُوبة يتسابُّون بها. ويقال مضت سَبَّة من الدهر، يريد مضت قطعة منه..."[15].
الشتم: "شتم الشين والتاء والميم يدلُّ على كراهةٍ وبِغضة. من ذلك الأسد الشتيم، وهو الكريه الوَجه. وكذلك الحِمار الشتيم. واشتقاقُ الشتم منه، لأَنَّهُ كلامٌ كريه"[16].
سادساً: تاج اللغة وصحاح العربية (صحاح الجواهري) المتوفي (393هـ):
السبّ: "السَّبُّ: الشَتمُ؛ وقد سَبَّهُ يَسُبُّهُ. وسَبَّهُ أيضاً بمعنى قَطَعَهُ. وقولهم: ما رأيته منذ سَبَّةٍ، أى مُنذ زمنٍ من الدهر، كقولك منذ سنةٍ. ومَضَتْ سَبَّةٌ من الدهرِ. والسَّبَّةُ الاسْتُ: وسَبَّهُ يَسُبُّهُ، إذا طعنه فى السَّبَّةِ. وقال: فما كان ذَنْبُ بنى مَالِكٍ * * * بأنَّ سُبَّ منهم غُلَامٌ
فَسَبّ يعنى معاقرةَ غالب وسُحَيمٍ، فقوله سُبَّ شُتِمَ، وسَبَّ عَقَرَ: والتَّسَابُّ: التشاتم. والتَّسَابُّ: التقاطُعُ. ورجلٌ مِسَبٌّ بكسر الميم: كثيرُ السِّبَابِ. ويقال: صار هذا الأمر سُبَّةً عليه، بالضم، أى عاراً يُسَبُّ به. ورجل سُبَّةٌ، أى يَسُبُّهُ الناس. وسُبَبَةٌ، أى يَسُبُّ الناسَ"[17].
الشتم: "الشَّتْمُ: السبُّ، والاسم الشَّتِيمَةُ. والتَّشَاتُمُ: التسابُّ. والمُشَاتَمَةُ: المُسَابَّةُ. والشَّتِيمُ: الرجل الكريه الوجه، وكذلك الأسد. يقال: رجلٌ شَتِيمُ المحيا. وقد شَتُمَ بالضم شَتَامَةً"[18].
سابعاً: كتاب (أسفار الفصيح) لأبي سهل الهروي المتوفى (433 هـ):
الشتم: "(وشتم يشتم) ويشتم شتما، فهو شاتم، والمفعول مشتوم: إذا سب إنسانا، أي إذا قال فيه مكروها، وذكره بقبيح. ومنه قول الشاعر:
إن من بلغ حرا شتمه فهو الشاتم لا من شتمه "[19].
ثامناً: كتاب (شمس العلوم) للحميري (573 هـ):
السبّ: "السَّبُ: الشتم، قال الله تعالى : ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ﴾، وفي الحديث: «لا تَسُبُّوا الإِبلِ، فإنَّ فيها رقوء الدم». والسَّبُ: العقر. سببت الناقَةَ: إِذا عقرتهاوقيل: أنَّ أصل السب القطع، ثم صار الشَّتم، قال أبو الخِرق الطهوي:
فما كان ذنب بني مالك بأنَّ سُبَ منهم غلامٌ فَسَبّ
سُبّ: أي شُتم. فَسَبَ: أي عقر. والسَّبُ: الطعن في السَّبَّة. عن الجوهري"[20].
الشتم: ": الشَّتْمُ : السَّبُّ"[21].
تاسعاً: كتاب (لسان العرب) لابن منظور المتوفى (711 هـ):
السبّ: "سبب: السَّبُّ: القَطْعُ. سَبَّه سَبّاً: قَطَعه؛ قَالَ ذُو الخِرَقِ الطُّهَوِيُّ:
فَمَا كَانَّ ذَنْبُ بَني مالِكٍ، ... بأنَّ سُبَّ مِنْهُمْ غُلامٌ، فَسَبْ"[22].
الشتم: "شتم: الشَّتْمُ: قَبِيحُ الْكَلَامِ وَلَيْسَ فِيهِ قَذْفٌ. والشَّتْمُ: السَّبُّ ... والتَّشاتُمُ: التَّسابُّ. والمُشاتَمةُ: المُسابَّةُ؛ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا جَرى مَجْرى المَثَل: كلُّ شَيءٍ وَلَا شَتِيمةُ حُرٍّ"[23].
عاشراً: كتاب (القاموس المحيط) للفيروزآبادي المتوفي (817 هـ):
الشتم: "شتمه يشتمه ويشتمه شتما ومشتمة ومشتمة فهو مشتوم وهي مشتومة وشتيم: سبه والاسم: الشتيمة. وشاتما وتشاتما: تسابا. والشتيم: الكريه الوجه وقد شتم ككرم والأسد العابس كالمشتم كمعظم والشتامة"[24].
الحادي عشر: كتاب (مجمع البحرين) للطريحي المتوفي (1085هـ):
السبّ: "والسب الشتم، ومثله "السباب" بالكسر وخفة الموحدة. ومنه "سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر" أي شتمه وقطيعته فسوق واستحلال مقاتلته وحربه كفر، أو محمول على التغليظ لا الحقيقة. ومنه حديث معاوية لرجل: "ما منعك أنَّ تسب أبا تراب؟" يعني علياً عليه السلام. وفي حديث علي (ع) في مرون بن الحكم: "لو بايعني بيده لغدر بسبته" السبة: الاست، وذكرها تفظيعا له وطعنا عليه، والمعنى انه منافق. وامرأة سبت جاريتها: شتمتها. والتساب: التشاتم. وسبه يسبه: قطعه والتساب: التقاطع. و"رجل مسب" بكسر الميم: كثير السباب"[25].
الشتم: "الشتم: السب، بأنَّ تصف الشئ بما هو إزراء ونقص، يقال: شتمه شتما من باب ضرب، والاسم: الشتيمة"[26].
مما سبق يتضح:
أنَّ أصل السبّ هو القطع، فسبّه بمعنى قطعه، ولذا يُقال: ما رأيته منذ سبّة أي منذ زمن من الدهر، ومضت سبّة من الدهر. والسَّيفُ يسمَّى سَبّابَ العَراقيبِ لأنّه يقطعُها، وجاء في الحديث: "سبّاب المؤمن فسوق وقتاله كفر" أي شتمه وقطيعته كما ذكر الطريحي.
السبّ هو العقر، يُقال: سبّبت الناقة إذا عقرتها (ابن فارس).
السبّ هو الشتم، ولا قطيعة أقطع من الشتم (ابن فارس). والشتيم، وهو الكريه الوَجه وتم اشتقاقُ الشتم منه، لأنّه كلامٌ كريه (ابن فارس). ولذا ذهب العديد من اللغويين للقول أنَّ المراد من الشتم هو: قبيح الكلام، وليس فيه قذف (كالأزهري وابن منظور)، وهذا المعنى ينسجم مع ما جاء في معاني السبّ الأخرى كالقطع والعقر أكثر من المعنى الذي ذكره الطريحي حول مفردة (الشتم)، علماً بأنَّ الطريحي نفسه ذكر أيضاً ما ينسجم مع ما تناولناه سابقاً في حديثه حول مفردة (السبّ)، حيث قال: "السبّ: والسبّ الشتم، ومثله "السبّاب" بالكسر وخفة الموحدة. ومنه"سبّاب المؤمن فسوق وقتاله كفر" أي شتمه وقطيعته فسوق واستحلال مقاتلته وحربه كفر، أو محمول على التغليظ لا الحقيقة ... والتساب: التشاتم. وسبّه يسبّه: قطعه والتساب: التقاطع. و"رجل مسبّ" بكسر الميم: كثير السبّاب"[27].
والغريب أنَّ الشيخ السندي نقل ما ذكره الطريحي حول مفردة (الشتم)، ولكنه لم ينقل ما ذكره حول مفردة (السبّ)، ولعل ذلك يعود لكون ما ذكره حول مفردة (الشتم) يتناسب أكثر مع ما يروم إليه!
لا يصح الاكتفاء باللغة لفهم المراد الجدي
حتى لو افترضنا صحة كلام الشيخ السندي من أنَّ السبّ لغوياً يشمل كل وصف يشتمل على تنقيص على إطلاقه، إلا أَنَّهُ لا يصح الاكتفاء بما ورد في المعاجم اللغوية وتطبيق ذلك مباشرة على القرآن الكريم دون الاستناد إلى قرائن أخرى تؤكد المعنى، لأنَّ المعنى اللغوي ليس بالضرورة يوافق المراد الجدي للمتكلم، خصوصاً وأنَّ الأساليب اللغوية فيها من الكناية والاستعارة وغيرها من الفنون الأدبية الأخرى، ولذا لابد من الاعتماد على شواهد وقرائن أخرى تؤكد المعنى المراد وتُدلل عليه، فمثلاً من غير الصحيح الاكتفاء بما ورد في كتب اللغة لمعرفة المراد من (أهل البيت) الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم في آية التطهير أو الاكتفاء بما ورد في اللغة لمعرفة المراد من (المولى) في آية الولاية، وكذلك الأمر بالنسبة للمراد بـ (أولوا الأمر) وغيرها من الموارد الأخرى، بل لابد من توفر قرائن وشواهد أخرى معها تؤكد المراد الجدي، إذ لا يصح أبداً الاعتماد كلياً على ما ورد في المعاجم اللغوية لمعرفة المراد الجدي رغم أهمية الرجوع إليها وضرورته.
السبّ والشتم في كلمات المفسرين وعلماء القرآن
بعد أنَّ انتهينا من بحث المراد من (السبّ) في كلمات الشيخ الدهنين، وكذلك بعد أنَّ تعرفنا على المراد منها في كلمات اللغويين؛ من المهم بيان ما استفاده المفسرون وعلماء القرآن من معناها اللغوي، وذلك لأنَّ كلام الشيخ الدهنين كان حول (السبّ في القرآن الكريم)، ولذا من غير الصحيح الاكتفاء أو التركيز على ما ذكره الفقهاء في هذا الشأن أكثر مما ذكره علماء التفسير وعلوم القرآن كما فعل الشيخ السندي[28].
والغريب أنَّ الشيخ السندي نقل كلاماً مُرسلاً ومجهولاً عن بعض من أسماه بالمحققين، وذلك رداً على سؤال يتعلق بحقيقة وقوع السبّ في القرآن الكريم، حيث قال: "... حتى أنَّ بعض المحققين العظامقال معلقاً على من أنكر وقوع السبّ في القرآن وصدوره من الأئمة (عليهم السلام) وورود جوازه بل الأمر به بأَنَّهُ يعتمد في ثقافته على التلفاز أو الجرائد والمجلات دون أنَّ يعطي التحقيق حقه والتدقيق مجاله ويكلف نفسه مراجعة الأدلة الشرعية المقررة. وطبعاً يقول هذا بعد حمل كلام من نفى السبّ على إرادة خصوص القبيح منه وأَنَّهُ إطلاق غير مقصود"[29].
لذا سوف ننقل بعض آراء علماء التفسير وعلوم القرآن ممن أنكروا وقوع السبّ في القرآن الكريم أو ذهبوا إلى كونه منافٍ للأخلاق، علماً بأنَّ هذا المعنى هو المعنى نفسه الذي يُفهم من كلمات الشيخ الدهنين، ومن البحث اللغوي على بعض الآراء، وهذا ما سيثبت لنا وبكل وضوح بطلان ما نقله الشيخ السندي عن من أسماه ببعض المحققين، وسوف نقوم بنقل آراء هؤلاء العلماء بحسب الأقدمية الزمانية أيضاً في التالي:
أولاً: الشيخ الطوسي المتوفى (460هـ) في التبيان، حيث يقول: "والسبّ الذكر بالقبيح ومثله الشتم والذم وهو الطعن فيه بمعنى قبيح، كما يطعن فيه بالسنان، وأصله السبب، فهو تسبب إلى ذكره بالعيب"[30].
ثانياً: الرغب الاصفهاني المتوفى (502 هـ) في المفردات في غريب القرآن[31]: "والسب الشتم الوجيع قال (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) وسبهم لله ليس على أنهم يسبونه صريحا ولكن يخوضون في ذكره فيذكرونه بما لا يليق به ويتمادون في ذلك بالمجادلة فيزدادون في ذكره بما تنزه تعالى عنه..."[32].
ثالثاً: الشيخ الطبرسي المتوفى (548هـ) في مجمع البيان، حيث يقول: "السب: الذكر بالقبيح، ومنه الشتم والذم، وأصله السبب، كأَنَّهُ يتسبب إلى ذكره بالقبيح، وسبك الذي يسابك، وقال: لا تسبنني فلست بسبي إنَّ سبي من الرجال الكريم وقيل: أصل، السبّ القطع"[33].
رابعاً: الفيض الكاشاني المتوفى (1091هـ) في تفسير الصافي والمصفى، حيث يقول في الصافي حول الآية ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: "ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح"[34]. وفي تفسير الأصفى يقول أيضاً: "ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدون، بما فيها من القبايح (فيسبوا الله عدوا): تجاوزا عن الحق إلى الباطل (بغير علم): على جهالة بالله وبما يجب أنَّ يذكر به"[35].
خامساً: الآلوسي في روح المعاني (1270هـ): "﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي لا تشتموهم ولا تذكروهم بالقبيح ..."[36].
سادساً: محمد رشيد رضا في تفسير المنار (1354هـ): "الذَّمُّ: الْوَصْفُ بِالْقَبِيحِ، وَالسَّبُّ وَالشَّتْمُ: مَا يُقْصَدُ بِهِ التَّعْيِيرُ وَالتَّشَفِّي مِنَ الذَّمِّ، سَوَاءٌ كان مَعْنَاهُ صَحِيحًا وَاقِعًا أَوْ إِفْكًا مُفْتَرًى. وَالْقُرْآنُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾"[37].
سابعاً: الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير (1393هـ): "والسبّ: كلام يدلّ على تحقير أحد أو نسبته إلى نقيصة أو معرّة، بالباطل أو بالحقّ، وهو مرادف الشّتم. وليس من السبّ النسبةُ إلى خطإ في الرّأي أو العملِ، ولا النّسبة إلى ضلال في الدّين. والمخاطب بهذا النّهي المسلمون لا الرّسول صلى الله عليه وسلم لأنَّ الرّسول لم يكن فحّاشاً ولا سبّاباً لأنَّ خُلقه العظيم حائل بينه وبين ذلك، ولأَنَّهُ يدعوهم بما ينزل عليه من القرآن فإذا شاء الله تركه من وحيه الّذي ينزله، وإنّما كان المسلمون لغيرتهم على الإسلام ربّما تجاوزوا الحدّ ففرطت منهم فرطات سبّوا فيها أصنام المشركين"[38].
تعليق: إنَّ كلام ابن عاشور هنا قد يقترب من كلام الطريحي نوعاً ما، خصوصاً في قوله أنَّ السبّ: "كلام يدلّ على تحقير أحد أو نسبته إلى نقيصة أو معرة"، ولكن مع ذلك لا يمكن الاستفادة منه لإثبات وقوع السبّ في القرآن الكريم، وذلك لأمرين:
- الأول: أَنَّهُ ذكر أَنَّهُ ليس من السبّ النسبة إلى خطأ في الرأي أو العمل، ولا النسبة إلى ضلال في الدين، وبعض الأمثلة التي ذكرها الشيخ السندي لإثبات وقوع السبّ في القرآن الكريم تدخل في هذا الإطار.
- الثاني: وهو الأهم، قوله أنَّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن فحاشاً ولا سباباً، حيث اعتبر ذلك أمور سلبية يقف خلق الرسول حائل بينه وبينها، مما يعني أنَّ السبّ عند ابن عاشور يأتي مقابلاً للأخلاق، وهذا المعنى يأتي خلافاً للمعنى الذي أراده الشيخ السندي كما هو واضح.
ثامناً: الشيخ الشعراوي المتوفى (1419هـ) في تفسيره، حيث يقول: "والسبّ هو ذكر القبيح، والشتم، والذم، والهجاء ..."[39].
تاسعاً: العلامة الطباطبائي المتوفى (1402هـ) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[40] "والآية تذكر أدباً دينياً تصان به كرامة مقدسات المجتمع الديني وتتوقى ساحتها أن يتلوث بدرن الإهانة والإزدراء بشنيع القول والسبّ والشتم والسخرية ونحوها فإن الإنسان مغروز على الدفاع عن كرامة ما يقدسه، والمقابلة في التعدي على من يحسبه متعدياً إلى نفسه، وربما حمله الغضب على الهجر والسبّ لما له عنده أعلى منزلة العزة والكرامة فلو سبّ المؤمنون آلة المشركين حملتهم عصبية الجاهلية أن يعارضوا المؤمنين بسبّ ما له عندهم كرامة الألوهية وهو الله عز اسمه ففي سبّ آلهتهم نوع تسبيب إلى ذكره تعالى بما لا يليق بساحة قدسه وكبريائه. وعموم التعليل المفهوم من قوله: ﴿كذلك زينا لكل أمة عملهم﴾ يفيد عموم النهي لكل قول سيء إلى ذكر شيء من المقدسات الدينية بالسوء بأي وجه أدى"[41].
يُفهم من كلام السيد الطباطبائي هنا أَنَّهُ اعتبر السبّ من القول السيء، بل إِنَّهُ يصرح بهذا بعد ذلك بقوله: "على أن وقار النبوة وعظيم الخلق الذي كان في عشرته صلى الله عليه وآله كان يمنعه من التفوه بالشتم الذي هو من لغو القول، والذي ورد من لعنه بعض صناديد قريش بقوله: اللهم العن فلاناً وفلاناً، وكذا ما ورد في كلامه تعالى من قبيل قوله: ﴿لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ﴾: (النساء:٤٦) وقوله: ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾: (المدثر:١٩) وقوله: ﴿قُتِلَ الْإِنْسانُ﴾: (عبس:١٧) وقوله: ﴿أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾: (الأنبياء:٦٧) ونظائر ذلك فإنما هي من الدعاء دون الشتم الذي هو الذكر بالقبيح الشنيع للإهانة تخييلاً، والذي ورد من قبيل قوله تعالى: ﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ﴾: (القلم:١٣) فإنما هو من قبيل بيان الحقيقة. فالظاهر أنَّ العامة من المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله ربما أداهم المشاجرة والجدال مع المشركين إلى ذكر آلهتهم بالسوء كما يقع كثيراً بين عامة الناس في مجادلاتهم فنهاهم الله عن ذلك"[42].
تعليق: في المقطع الأخير يتضح جلياً أنَّ العلامة الطباطبائي يرى أنَّ السبّ والشتم منافٍ للأخلاق، حيث ذكر أنَّ الشتم من لغو القول، وهو "الذكر بالقبيح الشنيع للإهانة تخييلاً"[43].
عاشراً: السيد محمد باقر الحكيم في كتابه (علوم القرآن)، حيث يقول: "إِنَّهُ ليس في القرآن الكريم سبّاب وشتم كيف وقد نهى القرآن نفسه في القسم المكي عن السبّ والشتم، حيث قال تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ...﴾. وليس في سورة (المسد) أو (التكاثر) سبّ أو بذاءة -كما يحاول المستشرقون أنَّ يقولوا ذلك- وانما فيهما تحذير ووعيد بالمصير الذي ينتهي إليه أبو لهب والكافرون بالله. نعم، يوجد في القرآن الكريم تقريع وتأنيب عنيف، وهو موجود في المدني كما هو في المكي –وإنَّ كان يكثر وجوده في المكي- بالنظر لمراعاة ظروف الاضطهاد والقسوة التي كانت تمر بها الدعوة، الامر الذي اقتضى أنَّ يواجه القرآن ذلك بالعنف والتقريع -أحياناً- لتقوية معنويات المسلمين من جانب، وتحطيم معنويات الكافرين من جانب آخر"[44].
الحادي عشر: السيد فضل الله في كتابه من وحي القرآن، حيث يقول: "{تَسُبُّواْ}: تشتموا، والسبّ: الذكر بالقبيح، ومنه: الشتم والذم، وأصله: السبب، كأَنَّهُ يتسّبب إلى ذكره بالقبيح، وقيل: أصل السبّ القطع"[45]. الثاني عشر: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير الأمثل: "يروى أنَّ بعض المؤمنين كانوا يتألمون عند رؤيتهم عبادة الأصنام، فيشتمون أحياناً الأصنام أمام المشركين، وقد نهى القرآن نهياً قاطعاً عن ذلك، وأكد إلتزام قواعد الأدب واللياقة حتى في التعامل مع أكثر المذاهب بطلاناً وخرافة. أنَّ السبب واضح، فالسبّ والشتم لا يمنع أنَّ أحداً من المضي في طريق السبب، مدفوعين بوسوسة الشيطان (تأمل بدقة)"[46].
تعليق: يُفهم من كلام الشيخ مكارم شيرازي هنا أنَّ الأدب واللياقة تقع في قبال السبّ والشتم[47].
بعد كل ما نقلناه آنفاً؛ من الغريب أنَّ ينسب الشيخ السندي لعلماء التفسير وعلوم القرآن نفس ما ذهب إليه في مسألة السبّ في القرآن الكريم، وذلك في قوله: "وأنَّ من أعظم أساليب الهداية والتربية القرآنيّة تأصيل مبدأ الولاية لكل من يرتبط بالله وتعظيم ما يمت إليه بصلة، وتأصيل مبدأ البراءة من أعداء الله المرتبطين بحزم الشيطان فكراً وسلوكاً، ومن مظاهر البراءة اللعن والسبّ، وهذا أمر جلي وواضح، يظهر بما ذكرناه سابقاً وبما ذكره المتخصصون في علوم القرآن والحديث"[48].
والأغرب من ذلك أيضاً أنَّ ينسب إنكار وجود السبّ في القرآن الكريم لبعض المثقفين والمتثيفون بالشعارات الغربية البراقة بحسب تعبيره، وليس لبعض علماء التفسير وعلوم القرآن[49]، والأنكى من ذلك كله؛ أنَّ يصف السبّ بكونه ثقافة قرآنيّة وأنَّ من يقف ضده هو ممن يريد "استبدال الثقافة القرآنيّة بثقافة الغرب"[50]، رغم أننا نقلنا آنفاً العديد من آراء العلماء المتخصصون في التفسير وعلوم القرآن الذين يرفضون ما ذهب إليه في هذه المسألة.
ومما لا يكاد ينقضي منه العجب أيضاً أنَّ الشيخ السندي نفسه بعد كل هذه الأقوال يقر ويعترف بوجود علماء كالسيد الطباطبائي يُفهم من ظاهر كلامهم نفي السبّ عن القرآن الكريم، ولكنه مع ذلك يُصر على موقفه، ويحاول توجيه كلامهم بخلاف ظاهره، وذلك بالقول بأنهم لم يكونوا يقصدون الظاهر من كلامهم، حيث يقول تحت عنوان (توجيه كلام من أنكر وقوع السبّ): "غير أنَّ وضوح وقوع السبّ في الكتاب والسنة، ووضوح جوازه وعدم قبحه، يجعلنا نوجه كلام من نفى السبّ مطلقاً من علمائنا بأنه لا يريد نفي كل سبّ، وفي كلامه اطلاق غير مقصود، فهو يريد نفي خصوص السبّ القبيح، ولكن حيث أنَّ السبّ ينصرف إلى خصوص السبّ القبيح في ذهنه أطلق العبارة..."[51].
ورغم محاولة الشيخ السندي توجيه كلام من نفى السبّ عن القرآن كالسيد الطباطبائي بخلاف ظاهره إلا أنه لم يستطع إثبات ذلك. نعم، صحيح أن الشيخ السندي ناقش السيد الطباطبائي في الكلام الذي نقلناه عنه سابقاً حول السبّ[52]، وبعدها حاول توجيه كلامه بأَنَّهُ لم يكن يقصد ما يتبادر من ظاهره، ولكن فات الشيخ السندي أنَّ السيد الطباطبائي لم يؤكد هذا الرأي في هذا المورد فحسب، وإنما هناك موارد أخرى أيضاً، منها ما ذكره في ذيل قوله تعالى: ﴿إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾[53]بقوله: "وبسط الأيدي بالسوء كناية عن القتل والسبي وسائر أنحاء التعذيب وبسط الألسن بالسوء كناية عن السبّ والشتم"[54].
لاحظوا هنا أنَّ السيد الطباطبائي ذكر أنَّ (بسط الألسن بالسوء) هو كناية عن السبّ والشتم، وهذا ما ينسجم مع ما ذكره في المورد الذي نقلناه عنه سابقاً، فكيف يكون غير قاصداً لهذا المعنى، وهو يكرر مضمونه في أكثر من مورد ومناسبة.
الشيخ التبريزي وكلامه حول السبّ
تحت عنوان (مناقشة من حكم بقبح السبّ مطلقاً استناداً إلى (إني أكره أنَّ تكونوا سبابين) وكلام المرجع الكبير الشيخ التبريزي في عدم حرمة كل سبّ) نقل الشيخ السندي قول الشيخ التبريزي في زيارة عاشوراء فوق الشبهات، ومما جاء فيما نقله ما يلي: "وخامساً: أنَّ هناك فرقاً لغوياً وعرفياً واضحاً بين السبّ واللعن، فالسبّ هو التعريض بالشرف والعرض بينما اللعن دعاء بطلب الطرد من رحمة الله، فالنهي عن الأول لا يستلزم النهي عن الثاني، وبذلك يتضح عدم صحة الاستدلال على مرجوحية اللعن بما ورد في المنصوص من ذم الفحاش البذيء اللسان فإن الفحش والبذاءة وسوء القول من مصاديق السبّ، والنهي عن السبّ بتمام مصاديقه لا يستلزم النهي عن اللعن"[55].
تعليق: نلاحظ هنا أنَّ كلام الشيخ التبريزي يتناسب أكثر مع ما ذكرناه حول كون السبّ يتنافى مع الأخلاق أو (الذكر بالقبيح)، وبالخصوص في قوله: "فالسبّ هو التعريض بالشرف والعرض"، ولكن الشيخ السندي أورد هذا في مناقشة الاستدلال برواية (إني أكره لكم أنَّ تكونوا سبابين)، وذلك لرفض الاستدلال بها على النهي عن ممارسة السبّ واللعن، غير أَنَّهُ غفل عن أنَّ في هذا النص عبارات تتضمن الطعن في المعنى الذي أراده من كون السبّ والشتم ليس كلاماً قبيحاً ويتنافى مع حدود الأخلاق بالضرورة.
جديد الموقع
- 2024-11-22 عادات قرائية مفيدة
- 2024-11-22 مع أن الأديان تتحدث عن قيمة التواضع الفكري، لكن قد يصعب على رجال الدين بشكل خاص تطبيق ما يدعون إليه الناس
- 2024-11-22 يرجع الفضل في استمرارك في تذكر كيف تركب دراجتك الهوائية إلى منطقة المخيخ في دماغك.
- 2024-11-22 نظرة على البنوك في المملكة.
- 2024-11-22 المخرج الشاب مجتبى زكي الحجي يفوز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان غالاكسي السينمائي الدولي35
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد