2017/07/28 | 0 | 3106
أزمة النقد لدى أ.هاني العيد (أبوالحسن الهجري)
تمهيد
عندما اطلعت على الجزء الأول مما سطره الأستاذ هاني حجي العيد (أبو الحسن الهجري) والذي عُنونه بـ(أزمة التوثيقات في مؤلفات السيد الحيدري) أعجبت به كثيراً، لأني رأيت أنه وثق ملاحظاته بذكر أرقام الصفحات التي استند إليها، ورغم احترامي الكبير للأستاذ السيد كمال الحيدري إلا أن موقفي من نقده له كان إيجابياً، وذلك لإيماني بأن النقد أمر مشروع إذا كان مستند على أسس متينة، ولقد ذكرت لبعض الأخوة الأعزاء حينها أن كل النقد الذي وجه للسيد الحيدري في جهة، ونقد الأستاذ هاني العيد لوحده في جهة أخرى.
ومن أجل ذلك كنت أدافع عن الأستاذ هاني العيد أمام من يستنكر عليه نقده للسيد الحيدري في العديد من المجالس التي أحضرها، وفي بعض مجموعات الواتساب أيضاً، وحتى عندما سُألت عن رأيي فيما سطره في الجزء الأول مما نشره أجبت بالتالي:
"وأما بالنسبة لما ذكره الأخ العزيز الأستاذ هاني العيد (أبو الحسن الهجري) –وفقنا الله وإياه لكل خير-، فإني أجد أن الملاحظات التي أوردها في مقاله المُعنون بـ (أزمة عدم توثيق النصوص في مؤلفات السيد الحيدري) موضوعية وفي محلها ولا يوجد لدي أي إشكال حولها. أقول هذا رغم اعتقادي بأن الأستاذ السيد الحيدري هو من أبرز من ساهم في نشر واعتماد ثقافة الإحالة للمصادر بدقة في الأوساط الدينية، وذلك من خلال طريقته المميزة في استعراض الكتب وذكر الطبعة والصفحة بشكل مباشر أمام المشاهدين له، ولقد رأينا انتشار هذه الطريقة نفسها والاعتماد عليها في الآونة الأخيرة لدى غيره أيضاً.
علماً بأن مسألة التوثيق ونسبة النصوص إلى أصحابها رغم أهميتها أزمة عامة لدى المؤسسة الدينية، فلقد وقع فيها فقهاء كبار، ودونكم الموسوعات الفقهية لكبار العلماء كشاهد على هذا الأمر، فمن يرجع إليها ويدقق فيها يرى أنهم ينقلون آراءً ولا ينسبونها لأصحابها... نعم، كنت أفضل أن يكون العنوان بشكل آخر يحكي عن موضوع المقال بدقة أكثر، لأن الملاحظات التي ذكرها مستلة من كتابين من كتب السيد الحيدري الذين تم نشرهما قبل انطلاق مشروعه الإصلاحي وهما: كتاب (علم الإمام) و(اللباب في تفسير الكتاب)، واعتقد أنه تلافى هذا الأمر في كتبه الأخيرة، فحبذا لو تمت الإشارة إلى هذا الأمر وتوضيحه"[1].
فهكذا كان موقفي من نقد الأستاذ هاني العيد عندما قرأت الجزء الأول مما كتبه في نقد السيد الحيدري، ولكن بعد أن نشر جميع الأجزاء ثم أعاد نشرها في كتاب تحت عنوان (أزمة التوثيقات في مؤلفات السيد الحيدري "النسخة الإلكترونية") بدأت بمراجعة ملاحظاته والتدقيق في المصادر مرة أخرى، فصدمت من هول ما رأيت، حيث اكتشفت أمراً في غاية الخطورة، مما جعلني أغير موقفي من نقده، لأن هذا الأمر وللأسف الشديد وضع مصداقيته على المحك، حيث وجدت بعض ملاحظاته غير دقيقة، بل غير صحيحة إطلاقاً، إذ فيها من التجني على السيد الحيدري الشيء الكثير، وهذا ما سوف يتضح للقارئ العزيز من خلال هذا المقال.
ولا يقول لي قائل: لماذا تنشر هذا النقد للأستاذ هاني العيد على الملأ؟ لأن موقفي بعد الذي اكتشفته هو موقف الأستاذ هاني نفسه عندما برر نشر نقده للسيد الحيدري بقوله: "فصار في ذمتي وجوب توضيح ذلك للناس، وإيقافهم على ما وقفت عليه، ونقل الكثير منهم من مقام السماع لمقام المعاينة الحقة"[2].
نعم، هكذا أرى بأنه لابد من إطلاع الناس على ما وقفت عليه من أخطاء وقع فيها الأستاذ هاني لأن ذلك صار في ذمتي، خصوصاً وأنني كنت مدافعاً عنه وعن نقده، علماً بأني سأنقل لكم نموذجاً واحداً لهذا الأمر فقط، ولا يظن البعض بأن الخلل موجود فقط في هذا المورد فحسب، بل في العديد من الموارد الأخرى، ولكني سأكتفي بنموذج واحد فقط لكفايته ووضوحه في كشف أزمة النقد التي يُعاني منها الأستاذ هاني العيد –هدانا الله وإياه-.
نموذج يوضح بطلان ما نسبه الأستاذ هاني العيد للسيد الحيدري
تحدث الأستاذ هاني العيد عن كتاب التقوى في القرآن الكريم (دراسة في الآثار الإجتماعية) للسيد كمال الحيدري، ومما قاله: "وبلغت عدد النصوص التي نقلها السيد في هذا الكتاب دون أن يشير لمصدرها ستة نصوص بحسب تتبعي، وكلها من تفسير الميزان..."[3]. وهنا سأنقل فقط ما ذكره كملاحظات على النص الثاني الذي أورده من هذا الكتاب، حيث تحدث الأستاذ هاني العيد[4] في هذا النص تحت عنوان (في كون المؤمن الحقيقي ولياً لله)، ونقل ما ذكره السيد الحيدري في كتاب التقوى ص38 في التالي:
"والمؤمن حقا ولي ربه، لأنه يلي منه إطاعته في أمره ونهيه، ويلي منه عامة البركات المعنوية من هداية وتوفيق وتأييد وتسديد وما يعقبها من الإكرام بالجنة والرضوان، فأولياء الله –على أي حال- هم المؤمنون، فإن الله يعد نفسه وليا لهم في حياتهم المعنوية حيث يقول: (والله ولي المؤمنين)".
وبعد ذلك علق الأستاذ هاني بقوله: "وسماحة السيد كمال لم يتجاوز في هذا النص حدود (النسخ واللصق) إذا صح التعبير، فهو نقله عن العلامة الطباطبائي دون الإشارة إليه ولا الإحالة على الميزان[5]، فقد قال العلامة الطباطبائي في الميزان (ج10، ص84).
"والمؤمن حقا ولي ربه، لأنه يلي منه إطاعته في أمره ونهيه، ويلي منه عامة البركات المعنوية من هداية وتوفيق وتأييد وتسديد وما يعقبها من الإكرام بالجنة والرضوان، فأولياء الله –على أي حال- هم المؤمنون، فإن الله يعد نفسه وليا لهم في حياتهم المعنوية حيث يقول: (والله ولي المؤمنين).
ملاحظات وتقييم
بعد الرجوع إلى كتاب التقوى للسيد كمال الحيدري ص38 وجدت هذا النص موجود بتمامه في نفس الصفحة كما ذكر الأستاذ هاني العيد بالضبط، وعند البحث عن هذا النص في كتاب الميزان للسيد الطباطبائي وجدت هذا النص بنفسه أيضاً، فأخذت هذا دليلاً على صحة كلام الأستاذ هاني من أن السيد الحيدري "نقله عن العلامة الطباطبائي دون الإشارة إليه ولا الإحالة على الميزان"، خصوصاً أن السيد الحيدري بعد النص في نفس الصفحة لم يقم بالإحالة للمصدر ولم يذكر شيئاً يتعلق بهذا الخصوص في هوامشها.
لذا كان موقفي في البداية مع الأستاذ هاني العيد تماماً، ولكن بعد التتبع والتدقيق أكثر اتضح لي عدم صحة ما صوره الأستاذ هاني –هدانا الله وإياه- حيث أنه نقل جزء بسيط من اقتباس طويل اقتبسه السيد الحيدري من كتاب الميزان للسيد الطباطبائي وتجاهل البقية، لذا فإن الإحالة للمصدر لم تكن في نفس الصفحة التي أخذ منها هذا الجزء من الكلام، وإنما بعد أن انتهى من الاقتباس بكامله، وهذا أمر طبيعي جداً، حيث ابتدأ السيد الحيدري اقتباسه قبل هذه الفقرة في ص38 وبالتحديد من عبارة "والولاية وإن ذكر لها معان كثيرة، لكن الأصل في معناها...." وانتهى من الاقتباس في ص42 وبالتحديد عند هذه العبارة "يحذروا منه أو يحزنوا عليه". وبعد انتهاءه من النص المقتبس بكامله أحال للمصدر مباشرة، وذكر في هامش الصفحة (ص42) أنه أخذ هذا الكلام من كتاب الميزان في تفسير القرآن ج10، ص88.
ومن هنا يتضح لنا أن السيد الحيدري لم ينقل كلام السيد الطباطبائي دون الإشارة للمصدر، ولكن الأستاذ هاني وللأسف الشديد تجاهل الكلام الذي قبله والكلام الذي بعده، وصور أن السيد الحيدري أخذ فقط وفقط الكلام الذي أورده في ص38 وبالتحديد في العبارة التالية:
"والمؤمن حقا ولي ربه، لأنه يلي منه إطاعته في أمره ونهيه، ويلي منه عامة البركات المعنوية من هداية وتوفيق وتأييد وتسديد وما يعقبها من الإكرام بالجنة والرضوان، فأولياء الله –على أي حال- هم المؤمنون، فإن الله يعد نفسه وليا لهم في حياتهم المعنوية حيث يقول: (والله ولي المؤمنين)".
ولا أدري كيف فات الأستاذ هاني -إذا كان قد قرأ الكتاب بكامله بالفعل- أن العبارات التي قبلها والعبارات التي بعدها هي للعلامة الطباطبائي أيضاً، وهو الذي أكثر الأستاذ علي عساكر من الإطراء عليه وعلى جهوده ووصفه ببعض الصفات المميزة، وذلك في قوله: "وربما أستطيع إضافة صفة أخرى للأستاذ هاني، هي تركيزه القوي، ومتابعته الدقيقة، حتى أصبح لديه شيء من القدرة على معرفة الكاتب من خلال نفسه في الكتابة، ولا أقل من الترجيح الذي إن أخطأ مرة، أصاب في مرات كثيرة.
ولعل قوة تركيزه، ودقة متابعته، إضافة إلى ما يملكه من حافظة ممتازة، وذاكرة قوية، وقدرة على تشخيص نفس الكاتب من خلال المكتوب.. من أهم العوامل التي ساعدته على اكتشاف أن الكثير من النصوص المبثوثة في بعض مؤلفات السيد الحيدري، سواء التي كتبها بقلمه، أو الكتب التي ألفها تلامذته تقريراً لبحوثه ودروسه، هي ليست لسماحته واقعاً، وإنما هي نصوص لعلماء آخرين، نقلها سماحته حرفياً دون أن ينسبها إلى أصحابها، أو يشير إلى مصادرها، مما يجعل القارئ يعتقد أنها لسماحة السيد نفسه"[6].
ولذا يحق لنا أن نتساءل: أين قوة التركيز والدقة في المتابعة والحافظة الممتازة والذاكرة القوية التي تمكن الأستاذ هاني من "تشخيص نفس الكاتب من خلال المكتوب" كما قال الأستاذ علي عساكر؟ أين هذه القدرات في هذا المورد ولماذا لم نجد لها أي أثر؟! وكيف خانته هذه القدرات القابليات المميزة ولم تسعفه هذه المرة في أن يُشخص أن النص التي قبله والنصوص التي بعدها هي للعلامة الطباطبائي أيضاً وأن السيد الحيدري أحال للمصدر بعد انتهاء اقتباسه بالكامل في ص42؟!
ولكي تتضح الأمور أكثر؛ من المهم التدقيق في الصورتين التاليتين التي تم تصويرهما من كتاب التقوى للسيد كمال الحيدري:
- صورة الصفحة الأولى من الاقتباس ص38، ويظهر فيها وضع علامة الاقتباس (") عند بداية الاقتباس.
- صورة الصفحة الأخير من الاقتباس ص42، وفيها يظهر نهاية الاقتباس وإشارة السيد الحيدري مباشرة للمصدر بخلاف ما صوره الأستاذ هاني.
كلمات الأستاذ هاني العيد المسيئة للسيد الحيدري
بعد كل ما عرفناه من تصرف الأستاذ هاني، فإنه يحق لنا أن نتعجب من بعض كلماته التي ينسب فيها للسيد الحيدري أنه اقتبس كلام السيد الطباطبائي دون الإحالة للمصدر، كما في قوله: "وكلما تمادت الأيام في طيها لأعمارنا تتكاثر النصوص التي أجدها في الميزان ثم أجدها في كتب السيد كمال حرفاً بحرف ولفظاً بلفظ... والذي أذهلني حقاً أن عشرات النصوص يكتبها السيد كمال في كتبه وهي للسيد العلامة الطباطبائي، واللافت للنظر أن السيد كمال لا يشير للعلامة ولا يحيل للميزان"[7].
فعلاً إنه أمر عجيب وغريب، فهل السيد الحيدري لم يشر للمصدر في المقطع الذي أوردناه أم أن الأستاذ هاني اقتطع جزءاً صغيراً من اقتباس طويل ثم نسب عدم الإحالة للمصدر؟! فلقد بينا سابقاً أنه لم ينقل ما جاء من كلام قبله ولا ما جاء من كلام بعده، كما أنه تجاهل وضع علامة الاقتباس (القوسين)، وتجاهل أيضاً أن السيد الحيدري في نهاية الإقتباس أحال للمصدر وهو كتاب الميزان للسيد الطباطبائي.
وكل هذا مارسه الأستاذ هاني العيد للأسف الشديد، والأعجب أنه يتخذ هذا ذريعة للإساءة للسيد الحيدري بالتشكيك في أمانته في النقل بل وفي مقدرته العلمية، كما ستجدون ذلك في النصوص التالية:
- يقول: "وهذا النص كالكثير من النصوص، نقله السيد من الميزان على طريقة (النسخ واللصق)، العارف بأسلوب السيد كمال والعلامة الطباطبائي يعلم يقينا أن هذا الكلام لا يأتي من السيد كمال، ولا الصياغة مما يقدر عليه سماحة السيد كمال، فلا يشك العارفون بالعلامة الطباطبائي ومفرداته وصياغته أن هذا الكلام إما له أو لعالم آخر متشابه معه في الصياغة لحد كبير"[8].
- يقول: "ومن يعرف السيد كمال ويعرف صياغته وأسلوبه يجزم يقينا أن هذا النص ليس له، فهذه صياغة لا تأتي من السيد كمال، فالسيد (غفر الله لي وله ولكم) ينقل نصوصاً كثيرة جداً عن الميزان دون توثيق"[9].
- يقول: "ولاشك أن السيد كمال (حفظه الله) قد أوهم القراء- بقصد أو بغير قصد- بكونه قد أعمل عقله واستفرغ جهد حتى استنبط هذا المعنى من جملة تلك المعاني المنقولة عن الكتب السابقة الذكر..."[10].
- يقول: "وهذه الصياغة لا تأتي من السيد كمال، ولا يهتدي لمثلها إلا أن يستعين بغيره..."[11].
- يقول: "وقد كنت أقرا في كتب السيد فتفاجئني الدهشة الغامرة من قدرته في اللغة والتفسير وفروعهما، ثم أصاب بالصدمة الهائلة عندما أكتشف أن هناك خديعة ما، حتى أصبحت إذا ما قرأت في كتب السيد كمال (حفظه الله) لا أعتبر النصوص المبثوثة في كتبه إلا نصوصاً "مجهولة المالك" حتى يثبت العكس"[12].
والأنكى من هذه العبارات التي تشكك في مقدرة السيد الحيدري العلمية هو قيامه في بعض الموارد بالتشكيك في إيمانه وتقواه، كما في قوله: "وهذا النص ليس للسيد كمال الحيدري (حفظه الله) بل هو للعلامة الطباطبائي، مع أن السيد كمال نقل هذا النص في كتاب يتكلم فيه عن التقوى، ولا أدري !! هل صنيع السيد هذا يتوافق مع التقوى أو يتعارض؟"[13].
وبعد كل هذه العبارات المسيئة للسيد الحيدري التي سطرها الأستاذ هاني العيد في كتابه نجده يزعم أنه يحترم السيد الحيدري ولا يقبل الإساءة له، حيث يقول: "حفظت للسيد كامل الاحترام والتقدير، ولا أقبل من نفسي ولا من غيري الإساءة إليه، والمطلوب هو النقد العلمي الصحيح، والمطلوب من أحبائي الرافضين لقولي ومقالي وأوراقي عدم الانفعال أو التوتر فما هذه الأوراق إلا ثمرة من ثمار منهج السيد الذي حث عليه مرارًا"[14]. ولا أقول إلا لا حول ولا قوة إلا بالله !
ملحق: النص المقتبس من كتاب العلامة الطباطبائي بكامله
اقتبس السيد الحيدري هذا النص الطويل من العلامة الطباطبائي[15] ووضعه بكامله بين قوسين للدلالة على ذلك، وهو يبدأ من ج10، ص88 -89، وسوف نورد النص كاملاً لكي تتضح الصورة للقارئ أكثر، وذلك فيما يلي:
"والولاية وإن ذكروا لها معاني كثيرة لكن الأصل في معناها ارتفاع الواسطة الحائلة بين الشيئين بحيث لا يكون بينهما ما ليس منهما ، ثم استعيرت لقرب الشيء من الشيء بوجه من وجوه القرب كالقرب نسبا أو مكانا أو منزلة أو بصداقة أو غير ذلك ولذلك يطلق الولي على كل من طرفي الولاية ، وخاصة بالنظر إلى أن كلا منهما يلي من الآخر ما لا يليه غيره فالله سبحانه ولي عبده المؤمن لأنه يلي أمره ويدبر شأنه فيهديه إلى صراطه المستقيم ويأمره وينهاه فيما ينبغي له أو لا ينبغي وينصره في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
والمؤمن حقا ولي ربه لأنه يلي منه إطاعته في أمره ونهيه ويلي منه عامة البركات المعنوية من هداية وتوفيق وتأييد وتسديد وما يعقبها من الإكرام بالجنة والرضوان.
فأولياء الله ـ على أي حال ـ هم المؤمنون فإن الله يعد نفسه وليا لهم في حياتهم المعنوية حيث يقول : « وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ » آل عمران : ـ ٦٨.
غير أن الآية التالية لهذه الآية المفسرة للكلمة تأبى أن تكون الولاية شاملة لجميع المؤمنين وفيهم أمثال الذين يقول الله سبحانه فيهم : « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ » يوسف : ـ ١٠٦ فإن قوله في الآية التالية : « الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ » يعرفهم بالإيمان والتقوى مع الدلالة على كونهم على تقوى مستمر سابق على إيمانهم من حيث الزمان حيث قيل : « آمَنُوا » ثم قيل عطفا عليه : « وَكانُوا يَتَّقُونَ » فدل على أنهم كانوا يستمرون على التقوى قبل تحقق هذا الإيمان منهم ومن المعلوم أن الإيمان الابتدائي غير مسبوق بالتقوى بل هما متقاربان أو هو قبل التقوى وخاصة التقوى المستمر.
فالمراد بهذه الإيمان مرتبة أخرى من مراتب الإيمان غير المرتبة الأولى منه. فقد تقدم في الجزء الأول من الكتاب آية ١٣٠ من البقرة أن لكل من الإيمان والإسلام وكذا الشرك والكفر مراتب مختلفة بعضها فوق بعض فالمرتبة الأولى من الإسلام إجراء الشهادتين لسانا والتسليم ظاهرا ، وتليه المرتبة الأولى من الإيمان وهو الإذعان بمؤدى الشهادتين قلبا إجمالا وإن لم يسر إلى جميع ما يعتقد في الدين من الاعتقاد الحق ، ولذا كان من الجائز أن يجتمع مع الشرك من بعض الجهات ، قال تعالى : « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ » يوسف : ـ ١٠٦.
ولا يزال إسلام العبد يصفو وينمو حتى يستوعب تسليمه لله سبحانه في كل ما يرجع إليه وإليه مصير كل أمر ، وكلما ارتفع الإسلام درجة ورقي مرتبة كان الإيمان المناسب له الإذعان بلوازم تلك المرتبة حتى يسلم العبد لربه حقيقة معنى ألوهيته وينقطع عنه السخط والاعتراض فلا يسخط لشيء من أمره من قضاء وقدر وحكم ، ولا يعترض على شيء من إرادته ، وبإزاء ذلك الإيمان باليقين بالله وجميع ما يرجع إليه من أمر ، وهو الإيمان الكامل الذي تتم به للعبد عبوديته.
قال تعالى : « فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً » النساء : ـ ٦٥ ، والأشبه أن تكون هذه المرتبة من الإيمان أو ما يقرب منه هو المراد بالآية أعني قوله : « الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ » فإنه الإيمان المسبوق بتقوى مستمر دون الإيمان بمرتبته الأولى كما تقدم.
على أن توصيفه أهل هذا الإيمان بأنهم « لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ » يدل على أن المراد منه الدرجة العالية من الإيمان الذي يتم معه معنى العبودية والمملوكية المحضة للعبد الذي يرى معه أن الملك لله وحده لا شريك له ، وأن ليس إليه من الأمر شيء حتى يخاف فوته أو يحزن لفقده.
وذلك أن الخوف إنما يعرض للنفس عن توقع ضرر يعود إليها ، والحزن إنما يطرأ عليها لفقد ما تحبه أو تحقق ما تكرهه مما يعود إليها نفعه أو ضرره ، ولا يستقيم تحقق ذلك إلا فيما يرى الإنسان لنفسه ملكا أو حقا متعلقا بما يخاف عليه أو يحزن لفقده من ولد أو مال أو جاه أو غير ذلك. وأما ما لا علقة للإنسان به بوجه من الوجوه أصلا فلا يخاف الإنسان عليه ولا يحزن لفقده البتة.
والذي يرى كل شيء ملكا طلقا لله سبحانه لا يشاركه في ملكه أحد لا يرى لنفسه ملكا أو حقا بالنسبة إلى شيء حتى يخاف في أمره أو يحزن ، وهذا هو الذي يصفه الله من أوليائه إذ يقول : « أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ » فهؤلاء لا يخافون شيئا ولا يحزنون لشيء لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا أن يشاء الله وقد شاء أن يخافوا من ربهم وأن يحزنوا لما فاتهم من كرامته إن فاتهم وهذا كله من التسليم لله فافهم ذلك.
فإطلاق الآية يفيد اتصافهم بهذين الوصفين : عدم الخوف وعدم الحزن في النشأتين الدنيا والآخرة ، وأما مثل قوله تعالى : « إِلَّا الْمُتَّقِينَ يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ » الزخرف : ـ ٧٠ فإن ظاهر الآيات وإن كان هو أنها تريد الأولياء بالمعنى الذي تصفه الآية التي نحن فيها إلا أن إثبات عدم الخوف والحزن لهم يوم القيامة لا ينفي ذلك عنهم في غيره. نعم هناك فرق من جهة أخرى وهو خلوص النعمة والكرامة وبلوغ صفائها يوم القيامة وكونها مشوبة غير خالصة في غيره.
ونظيرها قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ » فصلت : ـ ٣١ فإن الآيات وإن كانت ظاهرة في كون هذا التنزل والقول والبشارة يوم الموت لمكان قوله : « كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » وقوله : « أَبْشِرُوا » غير أن الإثبات في وقت لا يكفي للنفي في وقت آخر كما عرفت.
هذا ما يدل عليه الآية بحسب إطلاق لفظها وتأييد سائر الآيات لها ، وقد قيد أكثر المفسرين قوله : « لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ » ـ بالاستناد إلى آيات الآخرة ـ بيوم الموت والقيامة ، وأهملوا ما تفيده خصوصية اللفظ في قوله : « الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ » وأخذوا الإيمان والتقوى أمرين متقارنين فرجع المعنى إلى أن أولياء الله هم المتقون من أهل الإيمان ولا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون وهذا ـ كما عرفت ـ من التقييد من غير مقيد.
وعمم بعضهم نفي الخوف والحزن فذكر أنهم متصفون به في الدنيا والآخرة غير أنه أفسد المعنى من جهة أخرى فقال : إن المراد بالأولياء على ما تفسرهم به الآية الثانية جميع المتقين من المؤمنين ، والمراد بعدم خوفهم وحزنهم أنهم لا يخافون في الآخرة مما يخاف منه الكافرون والفاسقون والظالمون من أهوال الموقف وعذاب الموقف وعذاب الآخرة ولا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم وأنهم لا يخافون في الدنيا كخوف الكفار ولا يحزنون كحزنهم.
قال : وأما أصل الخوف والحزن فهو من الأعراض البشرية التي لا يسلم منها أحد في الدنيا ، وإنما يكون المؤمنون الصالحون أصبر الناس وأرضاهم بسنن الله اعتقادا وعلما بأنه إذا ابتلاهم بشيء مما يخيف أو يحزن فإنما يربيهم بذلك لتكميل نفوسهم وتمحيصها بالجهاد في سبيله الذي يزداد به أجرهم كما صرحت بذلك الآيات الكثيرة. انتهى.
أما تقييده الآية بأن المنفي عن الأولياء هو الخوف والحزن اللذين يعرضان للكفار دون ما يعرض لعامة المؤمنين بحسب الطبع البشري واستناده في ذلك إلى الآيات الكثيرة فهو من التقييد من غير مقيد ، وأما قوله إن أصل الخوف والحزن مما لا يسلم منه أحد أصلا فهو من عدم تحصيل المراد بالكلام لعدم تعمقه في البحث عن الأخلاق العالية والمقامات المعنوية الإنسانية فحمله ذلك على أن يقيس حال المكرمين من عباد الله المقربين من الأنبياء والأولياء إلى ما يجده من حال المتوسطين من عامة الناس فزعم أن ما يغشى العامة من الأعراض التي سماها أحوالا طبيعية يغشى الخاصة لا محالة ، وأن ما يتعذر أو يتعسر على المتوسطين من الأحوال فهو كذلك عند الكاملين ، ولا يبقى حينئذ للمقامات المعنوية والدرجات الحقيقية إلا أنها أسماء ليس وراءها حقيقة ، واعتبارات وضعية اصطلح عليها نظير المقامات الوهمية والدرجات الرسمية الاجتماعية التي نتداولها في مجتمعاتنا لمصلحة الاجتماع.
فلا وفى حق البحث العلمي حتى يهديه إلى حق النتيجة فيتبين أن التوحيد الكامل يقصر حقيقة الملك في الله سبحانه فلا يبقى لغيره شيء من الاستقلال في التأثير حتى يتعلق به لنفسه حب أو بغض أو خوف أو حزن ولا فرح ولا أسى ولا غير ذلك ، وإنما يخاف هذا الذي غشيه التوحيد ويحزن أو يحب أو يكره بالله سبحانه ، ويرتفع التناقض حينئذ بين قولنا : إنه لا يخاف شيئا إلا الله وبين قولنا : إنه يخاف كثيرا مما يضره ويحذر أمورا يكرهها فافهم ذلك.
ولا البحث القرآني أتقن واستفرغ فيه الوسع حتى يظهر له أن قوله تعالى: «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ » أطلق فيه نفي الخوف والحزن من غير تقييد بشيء أو حال إلا ما صرح به آيات من وجوب مخافة الله فهؤلاء لا يخافون من شيء في دنيا ولا آخرة إلا من الله سبحانه ولا يحزنون.
وأما الآيات الكثيرة التي تصف المؤمنين بعدم الخوف والحزن عند الموت أو يوم القيامة فهي إنما تصف أحوالهم في ظرف ولا يستوجب نفي شيء أو إثباته في مورد خلافه في غيره وهو ظاهر.
والآية مع ذلك تدل على أن هذا الوصف إنما هو لطائفة خاصة من المؤمنين يمتازون عن غيرهم بمرتبة خاصة من الإيمان تخصهم دون غيرهم من عامة المؤمنين وذلك بما يفسرها من قوله : « الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ » بما تقدم من تقرير دلالته.
وبالجملة ارتفاع الخوف من غير الله والحزن عن الأولياء ليس معناه أن الخير والشر والنفع والضرر والنجاة والهلاك والراحة والعناء واللذة والألم والنعمة والبلاء متساوية عندهم ومتشابهة في إدراكهم فإن العقل الإنساني بل الشعور العام الحيواني لا يقبل ذلك.
بل معناه أنهم لا يرون لغيره تعالى استقلالا في التأثير أصلا ، ويقصرون الملك والحكم فيه تعالى فلا يخافون إلا إياه أو ما يحب الله ويريد أن يحذروا منه أو يحزنوا عليه"[16].
تعليق
هذا هو النص بكامله، ولكن الأستاذ هاني العيد –هدانا الله وإياه- اكتفى فقط بنقل جزء بسيط من اقتباس السيد الحيدري، وهو ما نقلناه باللون الأصفر وتحته خط، وصور بعدها أن السيد الحيدري لم يشير للمصدر ونسب العبارات لنفسه، وهذا مجانب للصواب كما هو واضح.
للقراءة والتحميل هـــــــــــــنا
جديد الموقع
- 2024-11-22 عادات قرائية مفيدة
- 2024-11-22 مع أن الأديان تتحدث عن قيمة التواضع الفكري، لكن قد يصعب على رجال الدين بشكل خاص تطبيق ما يدعون إليه الناس
- 2024-11-22 يرجع الفضل في استمرارك في تذكر كيف تركب دراجتك الهوائية إلى منطقة المخيخ في دماغك.
- 2024-11-22 نظرة على البنوك في المملكة.
- 2024-11-22 المخرج الشاب مجتبى زكي الحجي يفوز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان غالاكسي السينمائي الدولي35
- 2024-11-21 توقبع اتفاقية شراكة بين جمعية أدباء بالاحساء وجمعية هجر التاريخية
- 2024-11-21 أمانة الاحساء تُكرّم الفائزين بــ ( جائزة الأمين للتميز )
- 2024-11-21 سمو محافظ الأحساء يبحث مع معالي وزير التعليم خطط ومشاريع تطوير التعليم في المحافظة
- 2024-11-21 «الغربة باستشعار اللون».
- 2024-11-21 البيت السعيد