2024/10/13 | 0 | 856
قراءة في قصة فريد للكاتب عبدالجبار الخليوي
قصة "فريد" تنتمي إلى سرديات التجارب الجماعية التي تستكشف علاقات الصداقة وأسرار الطفولة المفعمة بالحيوية والمغامرة. في هذه القصة، يعتمد الكاتب على قوة التفاصيل اليومية والنقل الدقيق لأحاسيس الشخصيات في خوضهم لمغامرة استثنائية. لكنها ليست مجرد مغامرة اكتشاف خربة قديمة، بل هي انعكاس لقلق دفين، مشحون بين الطفولة والنضج، وبين الواقعية والخيال.
البنية السردية:
تبدأ القصة بوصف روتيني لحياة فريد ورفاقه، حيث تنقلنا إلى مشهد خيالي ولكن مألوف في ذهن القارئ؛ الأطفال يلعبون في الحي، يتغلبون على فراغ الصيف الطويل دون وسائل ترفيه حديثة. كان هذا التمهيد ضرورياً لربط القارئ بحياة هؤلاء الشباب اليومية، وإبراز طبيعة الفراغ الذي يحاولون قتله بتلك المغامرات.
تحول الأحداث نحو "الخربة" يشكل عنصر الإثارة الرئيسي في القصة، حيث يتسلق الأطفال الجدار ويقتحمون ذلك العالم المهجور، ليجدوا أنفسهم في مواجهة مباشرة مع رموز غير مألوفة في حياتهم اليومية مثل القطة السمينة والكلبة المسعورة. كل هذه الرموز تُضفي على القصة طابعاً شبه أسطوري، وكأن الأطفال يتنقلون بين عالمين: عالم الواقع الذي يعايشونه يومياً، وعالم الأساطير والمخاوف التي قد تكون جزءاً من مخيلتهم الطفولية.
الشخصيات:
الشخصيات الثلاثة تتسم بالبساطة والانتماء المتبادل. لا تميز بينهم إلا في أفعالهم وردود أفعالهم، حيث نرى فريد هو الأكثر تأثراً بمشاهداته الليلية، وهو الذي يتجاوز الحدود الفاصلة بين الخيال والواقع، مما يجعلنا نتساءل عن طبيعة تجربته تلك: هل هي رؤى خيالية ناتجة عن توتر نفسي، أم حقائق تختبئ خلف "الخربة"؟
الرمزية والتلميحات: تشكل "الخربة" في القصة رمزاً مهماً. إنها ليست مجرد مبنى مهجور، بل تجسد الغموض والمجهول الذي يسعى الأطفال إلى اكتشافه. جدرانها المتآكلة وأبوابها المغلقة تشير إلى عوالم ماضوية مطمورة تحت رماد الزمن. الأحداث التي وقعت في الداخل – مثل قتالهم مع القطة والكلبة – تلامس حدود الخيال، لكنها تشير أيضاً إلى الصراعات النفسية التي قد تتراكم في ذهن الأطفال مع كل خطوة يخطونها في المجهول.
الحيوانات التي تواجههم، مثل القطة والكلبة، تأخذ طابعاً رمزياً في القصة. القطة قد ترمز إلى الحكمة والحماية، في حين أن الكلبة المسعورة قد تمثل المخاطر التي تلوح في الأفق وتذكير بأن الاستكشاف قد يكون خطيراً. مع ذلك، فإن العنف الذي يمارسه الأطفال في مواجهة هذه الكائنات يظهر وجههم الوحشي في لحظة دفاع عن النفس، مما قد يوحي بأن البراءة ليست بعيدة عن القسوة عندما تتطلب الظروف.
نهاية القصة:
في النهاية، تنتقل القصة من الواقعية إلى الحلم، إذ نكتشف أن كل تلك المغامرة كانت مجرد حلم لفريد، نتيجة اضطراباته النفسية الناتجة عن التفكير في الخربة طوال الليل. هذا التحول يضع القارئ في حالة من الحيرة والتساؤل حول ما هو حقيقي وما هو خيالي، مما يعزز فكرة أن الحدود بين الواقع والخيال قد تكون أحياناً غير واضحة.
الأسلوب:
الكاتب استخدم أسلوباً سردياً متقناً يجمع بين البساطة والتفاصيل الدقيقة، ما جعل القارئ يشعر وكأنه يشارك الأطفال في مغامرتهم. الجمل متوازنة ولا تطول إلا بما يخدم السرد، أما الحوار الداخلي الذي يظهر خصوصاً في مشاهد الهروب من الخربة، فهو يعكس حالة الذعر والرعب التي سيطرت على الشخصيات.
من ناحية أخرى، يتميز السرد بتوزيع ذكي للوقائع بين الإثارة والتوتر، حيث يتزايد الغموض تدريجياً حتى يصل إلى ذروته مع اكتشاف "الهيكل العظمي" في الغرفة المظلمة. وهنا يظهر تأثير الصدمة النفسية على فريد بشكل مباشر.
النقد:
يمكن اعتبار قصة "فريد" تمريناً على استكشاف الحدود النفسية بين الخيال والواقع. لكنها تفتقر إلى عمق أكبر في تطوير الشخصيات الرئيسية. فبينما تركز القصة على حبكة مشوقة وغموض لا يُفَسَّر، فإن الأصدقاء الثلاثة يبدون متشابهين إلى حد كبير، بدون تمايز واضح في شخصياتهم، مما يجعلهم أدوات للسرد أكثر من كونهم أشخاصًا متكاملين. كان يمكن للكاتب أن يستغل ذلك لتسليط الضوء على فريد بصفته الشخصية المحورية التي تلتقط تلك الغرابة وتفسرها بطريقة خاصة، ربما أكثر ارتباطاً بعالمه الداخلي.
إضافة إلى ذلك، رغم أن النهاية تربط الأحداث كلها بحلم، إلا أنها قد تترك القارئ بشعور من عدم الاكتفاء. ربما كان من الأفضل ترك القصة مفتوحة للتأويل، حيث يظل الغموض قائماً حول حقيقة ما جرى في "الخربة".
الختام:
قصة "فريد" تطرح تجربة طفولية تمتزج فيها براءة الاستكشاف مع رهبة المجهول. رغم بساطتها الظاهرة، إلا أنها تعكس عمقاً فلسفياً حول حدود الإدراك البشري، خصوصاً في عقل الأطفال.
نص القصة المقروءة:
فريد
فريد يجتمع في كل يوم من الصباح حتى أخر الليل في أيام العطل الصيفية الطويلة مع رفاقه، كان جيلهم يقهر الفراغ، وكان الفراغ يقهر ساعات شبابهم..
لم يكن لديهم مشاريع سياحة صيفية أو بما يُسمى ببرنامح الترويح السياحي، كما هو عليه الأن مع حياة هذا الجيل، كانوا يصرفون جيل ساعات أيام سياحة بين الشوارع والعواير، أو في بيوت أحد منهم..
لم يكن الأكل مكلفاً لهم، فهو قوت القناعة، أي زادٍ يُقدم لهم مقبول بدرجة الإمتياز، ليس للرفض مكاناً في جهازهم الهضمي؛ من حيث التنويع ومن حيث الكميات..
هم ثلاثة أصحاب، كل منهم يحب هذا المجموعة؛ محبة أخوة، محبة صحبة، محبة جوار في الحي الواحد؛ إنهم متعاهدون فيما بينهم على الوفاء بهذه العلاقة التي نشأت وترعرعت بينهم منذ طفولتهم؛ كجنين خرج من رحم إمه.
وفي يوم من الأيام، اكتشفوا (خربة) مهجورة، ليست بعيدة عن بيوتهم؛ هي مغلغة من الخارج، لا تعرف الخُطوات طريقاً لمخدعها؛ ليس بها أقفالاً من الخارج، أبوابها مغلغة من الداخل بإحكام، بابها الخشبي ظهرت عليه علامات التآكل وطغت عليه ملامح الكهولة، فكل مساميره متأكسد، وعند مدخل الباب من الخارج كومة من التراب تلاعبت بذراته خلايا النمل الأسود؛ كدليلٌ واضح جداً على عدم اقتحام هذا الباب منذ أمد بعيد.
قرر الثلاثة فيما بينهم اقتحام هذا اللغز والتعرف على هوية هذه الخربة؛ ولن يتمكنوا من الدخول عن طريق؛ بل إنهم سيتسلقون الجدار المتساقطة بعض أجزائه الهشة؛ الذي يرتفع دون الثلاثة أمتار عن منسوب الشارع الضيق.
وفعلاً تم لهم ما أردوا، فواحدٌ تلو الأخر تسلقوا الجدار، وهبطوا في باحة الخربة، فتصدت لهم قطة ضخمة ظهرت عليها التخمة والرفاهية والترف، إنفردت في باحة الخربة وتملكت المنطقة بمفردها، فوضعت صغارها الأربعة بكل حرية..
حاولوا نهرها لتبتعد عن طريقهم؛ مرات ومرات، لكنها أبت وأصرت على مهاجمتهم والتصدي لهم والدفاع عن مقدساتها الوطنية؛ فقذفها أحدهم بحجر كبير وقع على ظهرها، فعرفت مصيرها؛ فسحبت قواتها ذليلة تجر ذيول الهزيمة من أمامهم وتبعها فريقها المكون من أربعة مقاتلين صغاراً لم يبلغوا الحلم..
شاهدوا حنفية في وسط الباحة ومجموعة من القدور والصحون والملاعق التي إمتلأت تُراباً وصداءً، تفوح منها رائحة عواصف التاريخ؛ فجأة هجمت عليهم كلبة مسعورة، فنهشت ثوب أحدهم بعدما رمته على الأرض، فلم يجدوا أمامهم غير قتالها بضراوة فرفع أحدهم أحد القدور المهملة فضربها بقوة، فدارت حرب طاحنة بينهم وبين الكلبة؛ أدت في نهايتها لقتلها وتيتّم صغارها الثلاثة.
الخربة مكونة من باحة ومطبخ وجاخور مهجور خال من الحيوانات ما عدى تلك الكلبة المسعورة التي وضعت صغارها به، وغرفة مغلقة بإحكام من الخارج بقفل وسلسلة صدأة، حاولوا فتح بابها، فلم يتمكنوا من فتحه، حاولوا كسر الباب فلم يتمكنوا من كسره..
أخيراً قرروا العودة في الغد على أن يجلبوا معهم لوازم لفتح الباب، فخرجوا من الخربة بنفس الطريقة التي اقتحموها..
فريد لم ينم طوال الليل؛ شاهد أشباحاً مجنحة تخرج من تلك الغرفة التي شاهدها في الخربة؛ وسمع أصواتاُ مخفية تستنجد بهم، تُنادي بإسمائهم إسماً إسماً..
في الصباح الباكر أخبر أصدقاءه بمشاهدته ليلة البارحة، فضحكوا منها ومنه كذلك، بل زادتهم رؤية مشاهده إصراراً على الذهاب للخربة مرة أخرى وفتح تلك الغرفة المهجورة، فتسلقوا الجدار للمرة الثانية، فرأتهم (القطعة) فلم تعترض طريقهم؛ لقد أخذت استوعبت درس الأمس جيداً؛ بل أخذوا معهم لها ولصغار الكلبة شيئاً من الطعام وقربة ماء..
وكسروا باب قفل باب الغرفة بمعداتهم واقتحموا الغرفة المظلمة؛ لم يتمكنوا من رؤية ما بداخلها لشدة الظلام المتخمر بداخلها ولشدة الروائح الكريهة المنبعثة منها..
حاول أحدهم الدخول، فنهوره وطلبوا منه عدم المجازفة، عليه ألّا يدخل بغير إضاءة، فتبرع أحدهم لإحضار سراجاً من بيتهم..
وأضاءوا السراج ودخلوا معاً للغرفة المهجورة؛ بقدم واحدة، فشاهدوا دولاباً مغلقاً ومجموعة من الثياب المعلقة؛ وسريراً ومدفأة تعمل بالكيروسين في وسط الغرفة؛ وصندوقاً في احدى زوايا الغرفة؛ وفي أحد أركانها مجموعة من الصناديق الكرتونية المرصوصة بعناية فائقة جداً، والتراب عصفت رائحته فوق كل شيء في الغرفة..
تقاسموا النظرات فيما بينهم بصمت مطبق ينتابه الخوف والشعور بالرهبة..
أحدهم تجرأ ففتح الدولاب؛ فقفزت فأرة مذعورة سببت لهم ذعراً شديداً؛ وشاهدوا بداخل هذا الدولاب مجموعة من الثياب؛ ووجدوا صندوقاً صغيراً به نقود لم يتمكنوا من عدها؛ كم هي؟
فاتجهوا للثياب المعلقة، فوجدوا بداخل أحدها محفظة وبداخلها نقوداً كذلك، وذهبوا للسرير فرفعوا غطاءً فوق الفراش فتخرعوا من المنظر وركضوا مسرعين لتسلق جدار الخربة للخروج منها؛ كل منهم يلهث؛ كل منهم نسي صاحبه؛ كل منهم يُردد؛ هيكل عظمي لإنسان.. هيكل عظمي لإنسان.. كل منهم يصرخ بأعلى صوته: "هل رأيت؟ هل رأيت؟ هل رأيت يا فريد؟".
يا فريد انهض.. انهض.. لقد تأخرت عن دوام المدرسة، تعوذ من الشيطان من هذه الأحلام المزعجة.. (قالت له أمه)..
جديد الموقع
- 2024-10-31 العمل الفردي ومعضلة الاستمرارية.
- 2024-10-31 دع الكتب تمضي
- 2024-10-31 يعيشون بيننا - الأستاذ المرحوم أحمد الحبابي
- 2024-10-31 تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد
- 2024-10-31 قراءة في ديوان الشاعر محمد الحرز ( مشّاؤون بأنفاس الغزلان) -تمثيل وتشخيص وترجمة سرديّة وأمثولات رمزية وتوغُل في صميم التجريب.
- 2024-10-31 جمعية أدباء بالاحساء تعقد جلسة أنسها الأدبية الثامنة
- 2024-10-31 الروضة بالاحساء ينظم برنامج كبارنا معلمو الحياة
- 2024-10-31 متلازمة القلب المنكسر؟ - ومسائل انفعالية أخرى
- 2024-10-30 الكتاب المسموع منافس أم مكمل؟
- 2024-10-30 مفارقة اللذة