احوال بعض الصالونات و المقاهي في باريس و ابناء الجيل الجديد

تسعينيات القرن الماضي ، عقدت جولة سياحية في شوارع باريس الفرنسية الرئيسية ، و شاهدت عدد المقاهي الكثيرة جدا . و في المقابل شاهدت قلة عدد دور العبادة في ذات المدينة المترامية الاطراف ! قرأت ذات مرة في احد كتب التاريخ بانه تاريخيا كانت مدينة باريس و مدينة روما و مدينة لزبون و مدينة لاهاي و مدينة مدريد و برشلونة ، كانت تعج بدور عبادة كثيرة . حتى قيل بان بين دور عبادة و دور عبادة ثان ، تجد دور عبادة ثالث .

فتساءلت بيني و بين نفسي وسألت عن السبب أو الأسباب التي افرزت تلكم الحالة من كثرة المقاهي و ضمور عدد دور العبادة ، و ما هي تلك الدوافع : أقتصادية أو أجتماعية أو تاريخية أو شي آخر . فقيل مما قيل من التعليقات، انه في عقود سابقة ، كانت دور العبادة بكل اطيافها الفكرية تتوجه في خطابها الى تدعيم و مؤازرة تربية النفس و ترويضها على الطاعات و تجنب ارتكاب المعاصي و ترطيب الافواه بذكر الله و تمجيد الخالق و التأكيد على بناء الاسرة و التضامن الاجتماعي و حفظ الحقوق وصون الكرامات و الابتعاد عن انتهاك الحُرمات . الا ان البعض من اتباع المسيحية الكاثولوكية تصادم مع البعض الاخر من اتباع المسيحية البروتستانتية بعد تعدد المستعمرات و كثرة الخيرات و حدة المناكفات الفكرية ، حتى بلغ ذروة التصادم بينهم حد الولوغ بالدم ( مذبحة سان بارتيليمي ) و التحريض و بث ملصقات الاهانة و التسقيط و الشتائم و التحريض و الازدراء و منع دخول اي شخص من اتباع طرف في دور عبادة منسوب لطرف آخر . و لم تنجح جهود العقلاء ، كما يبدو ، من كل الاطراف في نزع فتيل الصدامات بطرق حضارية و سلمية راقية . و مع تقادم الدهور ، نأى بعض أتباع المدرسة الاولى و البعض الاخر من المدرسة الثانية نفسه عن ذلك الصراع المرير و المميت . و كان اللقاء بين جمهور من نأى بنفسه من كلا الطرفين يُعقد في الاندية و الصالونات الثقافية و المقاهي . و وجد البعض من ذلك الجمهور ضالته في ابداء وجه نظره دون اي تحفظ أو قيود أو احكام مُسبقة من خلال التحدث الشفهي في المقاهي و الصالونات .

لاحقا انفجرت اعداد الصالونات و المقاهي في باريس كما في المدن الاوربية الاخرى بشكل ملموس و محسوس و كما يراه البعض حتى يومنا هذا ، و تقلصت اعداد دور العبادة بشكل ملحوظ جدا حتى انحصرت في عدد محدود من الكاتدرائيات التي توحي بالرمزية و السياحة . و يُقال بان في عام ١٩٦٠ م عدد المقاهي و الصالونات في ذروتها تخطى حاجز الثلاثون الف مقهى في كامل محيط باريس و على مستوى جمهورية فرنسا تجاوز عددها في سنة الذروة ٦٠٠ الف مقهى ! ملحوظة لم يتسنى لي التحقق من دقة هذه الارقام .

و كانت البداية في النشاط الفكري و الأدبي في تلكم الصوالين ، ان بعض اعضاء الصالونات و المقاهي انتقدوا بعض المظاهر الاجتماعية يومذاك التي نُسبت زورا و بهتانا الى الدين . فصفق البعض من الناس لتلكم الصراحة في الكلام، و هلل البعض الاخر للجرأة و المواجهة في الطرح و سكت البعض من ابداء اي موقف مُتسرع يومذاك . الا أنه مع زيادة وتيرة الحراك النقدي ، اندس من اندس داخل تلكم الصالونات و المقاهي و سعى في نشر ثقافة التصادم بين العلم و الدين المسيحي بكل تفاصيله من جهة و اندس اخرون لاستغلال. المقاهي في كسر نواميس العفة و الشرف و الاخلاق الحميدة عبر خلط اوراق التواصل مع الاطراف . شعر بعض الغيارى و المتدينين المسيح آنذاك و بعد فوات الاوان ان كل احكام و رموز و أدبيات و تشريعات الفكر الديني في خطر .

و استمر المندسون من منعدمي الاخلاق و منعدمي الثقافة يومذاك في بث سموم أفكارهم المتنمرة في تلكم الأندية حتى وصلوا الى مرحلة يصعب على الانسان السوي المعاصر تصورها ، لا سيما في الانزلاق الاخلاقي و الانفلات الجسدي و التنمر السلوكي و الشيطنة و التطاول على الذات الالهية . الصالونات و المقاهي المنتشرة هنالك يومذاك لم يكن لها سقف معلوم الافق في الأدبيات و الاخلاقيات و كانت ترفع شعار حق ممارسة الحرية الفردية المطاط دونما اي اعتبار لدين أو عرف مجتمع أو قيم . و قد زرت متاحف في بعض مدن رئيسية في اوربا و دونت ملاحظات على بعض الصور الموثقة لما دار داخل بعض المقاهي و الصالونات و الحدائق العامة يومذاك من سلوكيات و تصرفات يخجل الانسان عن سردها أو وصفها .

مضي الزمن و ظن البعض من شباب باريس آنذاك ان كل الصالونات و المقاهي انما أُنشأت للمثاق…